تأسيس الأصل من الجهة الفقهيّة
أي : إذا لم تفِ الأدلّة في بحث المشتق لإثبات أحد القولين ، فبأيّ أصل من الاصول يأخذ الفقيه ؟ وماهي وظيفته بالنسبة إلى المشتق الواقع موضوعاً لحكم من الأحكام الشرعيّة ؟
إن مورد البحث هو الشبهة المفهوميّة ، أي الشبهة الحكميّة الناشئة من إجمال مفهوم موضوع الدّليل ، من جهة كونه مشتقاً ، وأنّه لا يعلم أنه وضع لخصوص المتلبّس بالمبدء أو للأعم منه ومن انقضى عنه ، وله في الفقه أمثلة كثيرة ، كمسألة أمّ الزوجة التي بحثنا عنها بالتفصيل ، وكمسألة كراهة البول تحت الشجرة المثمرة ، وكمسألة كراهة استعمال الماء المسخّن بالشمس … وغيرها .
لكن المشتق المجمل قد جاء في بعض هذه الموارد موضوعاً لدليل مخصّص لعام ، كما في مثال اُم الزّوجة ، فإنه موضوع لدليل مخصّص لعمومات حليّة النكاح ، ففي مثل هذا المورد ، إنْ جاء المخصّص متّصلا بالعام ، فلا ريب في سراية إجماله إلى العام ، وإنْ جاء منفصلا ، كما في المثال المذكور ، فإن مقتضى القاعدة هو التمسّك بعموم العام بالنسبة إلى الزائد عن القدر المتيقّن من المخصّص ، وهو في المثال خصوص المتلبّس ، فيبقى العام حجةً بالنسبة إلى الأعم .
إلاّ أن المهمّ في المقام هو تأسيس الأصل بالنسبة إلى الموارد التي لا يوجد عام في البين ، أو كان المخصّص متّصلا به ، فما هو الأصل المحكّم فيها ؟
مثلا : لو قال المولى : « أكرم العلماء » وشك في مفهوم « العالم » من حيث أنه حقيقة في خصوص المتلبّس بالعلم فقط أو في الأعمّ منه ومن انقضى عنه ، فهنا ثلاثة أقوال :
1 ـ جريان الإستصحاب في الشبهات المفهومية مطلقاً .
2 ـ عدم جريانه كذلك .
3 ـ التفصيل بين الموضوع فلا يجري ، والحكم فيجري .
فإنْ قلنا بجريان الإستصحاب في الشبهات المفهوميّة ، أمكن إجراؤه في موضوع المثال ، لسبق الإتّصاف والتلبّس بالعلم يقيناً ، ومع الشك في بقائه يستصحب ، ويترتّب عليه الحكم بوجوب الإكرام ، فلا تصل النوبة إلى إجراء الإستصحاب في الحكم ، فضلا عن التمسّك بالبراءة أو الإشتغال .
وكذا لو نهى المولى عن هتك العالم ، فشك في بقاء تلبّس زيد بالعلم مع اليقين بذلك سابقاً ، فإنّه يستصحب بقاء العلم ـ كما ذكر المحقق الخراساني ـ ولايجوز هتكه .
وإن قلنا بعدم جريان الإستصحاب في الشبهة المفهوميّة إلاّ في الحكم ، فإنه مع الشك في بقاء الحكم بوجوب الإكرام ـ بعد اليقين به سابقاً ـ ، يجري الإستصحاب ، ولا تصل النوبة إلى البراءة أو الإشتغال .
وإنْ قلنا بعدم جريان الإستصحاب في الشبهة المفهوميّة مطلقاً ، كما هو المختار ـ أمّا في الموضوع ، فلأنه يعتبر في الموضوع المستصحب أن يكون ذا أثر شرعي ، والمفاهيم لا أثر لها ، وأمّا في الحكم ، فلأنه يعتبر في الإستصحاب وحدة الموضوع في القضيّتين ، وهي هنا مفقودة(1) ـ .
فتصل النوبة إلى البراءة أو الإشتغال .
وههنا صور :
1 ـ أن يرد الحكم على الموضوع ، وبعد وروده ينقضي المبدء ، كأن يحكم بإكرام العالم العادل ، وتنقضي العدالة عن الذات بعد ثبوت الحكم .
2 ـ أن ينقضي المبدء عن الموضوع ، ثم يرد الحكم .
فبناءً على عدم جريان الإستصحاب الحكمي في الشبهات المفهوميّة ، يكون الأصل الجاري هو البراءة ، لكون المورد ـ في كلتا الصورتين ـ من موارد الشك في التكليف الزائد ، لرجوع الشك إلى أصل وجوب الإكرام .
3 ـ أن يتوجَّه الحكم بوجوب الإكرام على عنوان « العالم العادل » ولم يمتثل بعد ، فإنْ امتثل في مورد المتلبّس يقيناً سقط التكليف ، وإنْ اُكرم من انقضى عنه التلبس يشك في حصول الإمتثال وسقوط التكليف ، وبذلك يتّضح أنّ هذه الصورة من صغريات دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، فإنْ قلنا بالإشتغال ، حكمنا بوجوب إكرام خصوص المتلبّس ، وبه قال المحقق العراقي ، مع قوله بالبراءة في الصورة الاولى تبعاً لصاحب ( الكفاية ) ، وفي الثانية بالإستصحاب ، لأنّه يرى جريانه في الشبهات المفهوميّة .
لكنّ المختار في دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو البراءة ، إلاّ أن موارد دوران الأمر كذلك مختلفة ، فتارةً : يكون التكليف غير معلوم تماماً ، كأنْ يكون الإجماع دليل الوجوب ، وهو دليل لبّي ، فمثله من صغريات دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، والأصل هو البراءة . واخرى : يكون التكليف معلوماً بوجه من الوجوه ، ومعه يصح للمولى الإحتجاج على العبد ، فلا مجال لأصل البراءة ، وموردنا من هذا القبيل ، إذ التكليف معلوم ، والتحيّر يعود إلى مقام الإمتثال والتطبيق ، ومع الشك في صدق « العالم العادل » على من انقضى عنه التلبّس ، لا يجوز الإكتفاء به ، بل المرجع هو الإشتغال .
هذا تمام الكلام في المقام الثاني .
(1) إن المفاهيم ـ بما هي مفاهيم ومداليل للألفاظ ـ ليست بموضوعات لآثار شرعيّة ، فمفهوم « الخمر » ليس بحرام ، بل الحرام هو الخمر الموجود خارجاً ، ومفهوم « الكر » ليس بذي أثر بل الأثر الشرعي يترتب على المصداق الخارجي ، وحينئذ لابدّ من توفّر أركان الاستصحاب ـ اليقين السابق والشك اللاّحق ـ في المصداق الخارجي ، وكذا « العالم » في المثال ، فإنه ليس مفهوم هذه اللفظة بما هو موضوعاً للأثر بل واقع العلم ، ومع الشك يدور أمره بين ما انقضى عنه التلبس وهو منتف يقيناً ، وبين كونه حقيقة في الأعم فيكون باقياً يقيناً ، فالشك في البقاء منتف ، فلا يجري الاستصحاب في طرف الموضوع .
هذا بالنسبة إلى الموضوع .
وكذلك الحال بالنسبة إلى الحكم . وذلك ، لعدم صدق نقض اليقين بالشك في حال اختلاف موضوع القضيّة المشكوكة مع موضوع القضية المتيقّنة ، فلابدّ من وحدة الموضوع ، وهي في الشبهات الحكميّة منتفية ، لأن أمر الموضوع فيها يدور بين الزوال تماماً والبقاء يقيناً ، لأن تلك الذات إن كانت متلبّسةً بالعلم ، فإنه مع زوال التلبس يزول موضوع الإستصحاب ، لان المفروض كون التلبّس جزءً للموضوع ، وبناء على الأعمّ يكون الموضوع باقياً يقيناً ، وفي مثله لا يجري الإستصحاب .
وبما ذكرنا يظهر أن الدّليل على عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة هو قصور المقتضي ، أي عدم شمول أدلّة الإستصحاب لمثل هذه الشبهات ، لا المعارضة بين استصحاب عدم المجعول واستصحاب عدم الجعل ، لأنّ التعارض فرع وجود المقتضي لشمول الأدلَّة للطّرفين ، وتفصيل الكلام في محلّه.