المقدّمة الثانية ( في تحرير محلّ النزاع )
تارة : يكون لمجموع الهيئة والمادّة ـ من الألفاظ ـ وضع واحد .
واُخرى : يكون لكلّ من الهيئة والمادّة وضع مستقل .
فما يكون من القسم الأوّل ، يسمّى بالجامد ، والوضع فيه شخصي .
وما يكون من القسم الثاني ، يسمّى بالمشتق ، والوضع في طرف الهيئة نوعي ، وفي المادّة قولان .
وكلّ من القسمين ينقسم إلى قسمين ، فالمشتق ينقسم إلى :
1 ـ قسم قابل للحمل على الذات والإتحاد معها ، كاسم الفاعل واسم المفعول .
2 ـ قسم لا يقبل ذلك ، كالأفعال والمصادر وأسماء المصادر .
ولا خلاف بينهم في أنّ مورد البحث هو القسم الأوّل ، أمّا الثاني فخارج ، فيكون موضوع البحث في المشتق أخص من العنوان .
إلاّ أنّ الظاهر من كلام صاحب ( الفصول )(1) اختصاص البحث باسم الفاعل وما يشبهه فقط ، فلا يعمّ كلّ ما هو قابل للحمل ، كأسماء الآلات ، لأن « المفتاح » مثلا يصدق حتى مع عدم تحقّق الفتح بالفعل ، فالموضوع له فيه أعمّ من المتلبّس وما انقضى عنه التلبّس . إلاّ أن الحق ـ وفاقاً لصاحب ( الكفاية ) وغيره ـ عموم البحث لمثله ، لوقوع النزاع فيه ، غير أن مبادئ المشتقات تختلف ، فقد يكون فعلا ، وقد يكون حرفةً ، وقد يكون ملكةً ، وقد يكون شأنيّةً ، ويختلف التلبّس والإنقضاء فيها بحسب اختلاف المبدء .
فإن كان المبدء هو الحدث ، فالتلبّس يكون تلبّس الفعليّة وانقضاؤه بانقضائها ، وإنْ كان حرفةً أو ملكة فليس المبدء هو الفعليّة ، فلذا يصدق عنوان « البقّال » على صاحب هذه الحرفة وإنْ كان نائماً مثلا ، وكذا يصدق عنوان « المجتهد » على صاحب تلك الملكة ، وهكذا …
والجامد ينقسم إلى :
1 ـ ما ينتزع من مقام الذّات والذاتيّات .
2 ـ ما ينتزع من اُمور لاحقة متأخّرة عن الذات ، وهذا ينقسم إلى قسمين :
أ ـ الامور المنتزعة المتأخّرة عن الذات واقعاً ، كالأعراض ، مثل الفوقيّة والتحتيّة .
ب ـ الامور المنتزعة المتأخّرة عن الذات اعتباراً ، كالزوجيّة والحريّة والرقيّة …
واتّفقوا على خروج القسم الأوّل ـ وأنّ محل البحث هو القسم الثاني بقسميه(2)ـ إذْ لا معنى لأنْ يبحث عن صدق « الإنسان » بعد أنْ صار تراباً ، لوضوح أنّ البحث إنّما هو عن الهيئة ، من جهة أنها موضوعة لخصوص الذات المتلبّسة أو للأعم منها ومن التي انقضى عنها التلبّس ، كما في مثل « العالم » و « القائم » ونحوهما ، وأمّا في المثال المذكور ونحوه من العناوين الذاتيّة ، فليس وراء الإنسانية أو الكلبيّة شيء حتى يبحث عنها ، نعم ، تبقى الهيولى ، وليست بذات … فالذّات قد زالت ، وما بقي شيء لكي يبحث عن التلبّس والإنقضاء فيه(3) .
فموضوع البحث كلّ لفظ توفّر فيه أمران :
1 ـ القابليّة للحمل على الذات .
2 ـ الواجديّة للتلبّس والإنقضاء(4) .
فلا كلّ مشتق بداخل في البحث ، ولا كلّ جامد بخارج عن البحث .
هذا تحرير محلّ النّزاع .
(1) الفصول الغروية : 60 .
(2) ومراد صاحب (الكفاية) ـ في كلامه ص 40 ـ من « العرض » عبارة عن الأعراض المتأصّلة التي يوجد بأزائها شيء في الخارج ، مثل البياض والسواد وغيرهما ، ومراده من « العرضي » ليس الامور الاعتبارية فقط ، بل كلّ ما لا يوجد في الخارج بأزائه شيء ، أعم من أنْ يكون واقعياً كالفوقيّة والتحتيّة أو اعتباريّاً كالملكيّة والزوجيّة .
فمراده ماذكرناه ـ وهو مقتضى التأمّل في كلامه حيث مثّل بالزوجية والرقيّة وقال في آخره : من الإعتبارات والاضافات ، لا ما ذكره بعض المحشّين على ( الكفاية ) كالمشكيني والسيد الحكيم من أن مراده من العرض هو الأمر الواقعي ، ومن العرضي الأمر الاعتباري .
ولا يتوهّم : أنه بناءً على كون مقولة الاضافة من الاعتباريات كما هو مسلك بعضهم ، فما ذكراه في معنى العبارة صحيح ، وذلك ، لأن صاحب ( الكفاية ) جعل الإضافات مقابلةً للاعتباريات ، فأفاد أن الاضافات غير داخلة عنده في الاعتبارات .
وعلى الجملة ، فمراده من العرض كلّ مبدء له ما بأزاء خارجاً ، ومن العرضي ماليس له ذلك ، سواء كان اعتبارياً كالزوجية والملكية أو غير اعتباري كالفوقية والتحتيّة .
ولا يخفى : أنّ هذا إصطلاح من المحقق الخراساني في العرض والعرضي ، غير اصطلاح المناطقة حيث المراد من العرض عندهم هو المبدء ومن العرضي هو المشتق .
(3) فما في كلام البعض من أنّ هذا البحث لغويّ ، ولا مجال فيه لمثل هذا الإستدلال العقلي ، وأن من الجائز طرح البحث في مورد ليس التبدّل فيه من قبيل تبدّل الذات ، كالخمر إذا انقلب خلاًّ ، بأن يبحث هل هذا خمر أو لا ؟ غير وارد .
لأنّ البحث وإنْ كان لغويّاً ، إلاّ أنه يدور حول المفهوم الموضوع له اللّفظ ، ومن حيث أنه هو الحصّة الخاصّة من الذات أو مطلق الذات ، فالمورد الذي لا توجد الذات خارج عن البحث موضوعاً ، سواء كانت حقيقة الشيء بصورته أو بمادّته .
وأمّا الجواب عن النقض بمثل الخلّ والخمر ، فإنهما وإنْ كان شيئاً واحداً عقلا ، إلاّ أن الخمر والخلّ من الحيثية النوعيّة أمران متغايران .
(4) بالنظر إلى الهيئة لا المادّة ، بأنْ تكون الهيئة قابلةً لأن يبحث عن أنها موضوعة لخصوص المتلبّس أو للأعم ، كهيئة « فاعل » و « مفعول » و « مفعَل » وإنْ كانت الهيئة في مادّة ليس لها انقضاء مثل « الناطق » حيث المادة هنا نفس الذات ، فلا يخرج مثله عن النزاع ، خلافاً للمحقق النائيني ، كما لم يخرج هيئة « مفعل » ، خلافاً لصاحب الفصول . وعلى الجملة ، فمورد البحث هو الهيئة مطلقاً ، سواء كانت المادّة المشتملة عليها من قبيل « القائم » أو من قبيل « الناطق » .