رأي المشهور
ومنه أيضاً يظهر مافي القول المعروف من جعله « الأدلّة الأربعة » ، على الوجوه الأربعة وهي : إحتمال أن تكون هي الموضوع بوصف الدليليّة ، وأنْ تكون هي الموضوع لا بوصف الدليليّة ، فالدليليّة على الأول جزء من الموضوع وعلى الثاني من أحواله ، واحتمال أن يكون المراد من « السنّة » منها هو المحكي بها ، وهو قول المعصوم وفعله وتقريره ، ويكون المراد منها الأعم من المحكي والحاكي ، وهو الخبر .
مضافاً إلى وجود الإشكال في كلّ من هذه الوجوه الأربعة .
وتوضيح الإشكال في ذلك هو أنّه :
إن كانت الأدلّة الأربعة موضوع العلم بوصف دليليّتها ، بمعنى أن البحث يكون عمّا يعرض الدليل بعد الفراغ عن دليليّته ، كما عن المحقق القمّي ، ففيه : أنّه لا يتناسب مع قولهم : لكلّ علم موضوع جامع بين موضوعات مسائله ، يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة ، إذ لا جامع بين العقل والإجماع ، كما أن « السنّة » عنوان مشير إلى « القول والفعل والتقرير » وليس جامعاً ، إذ لا جامع بين الثلاثة .
فهذا الوجه ينافي قولهم بذلك ، لكن صاحب ( الحاشية ) جمع بين هذين المتنافيين .
وأيضاً : فإن لازم هذا الوجه خروج أكثر مسائل علم الاصول ، عدا مباحث الألفاظ ، إذ البحث عن الخبر والشهرة والإستصحاب وغيرها إنّما هو عن أصل الدليليّة والحجيّة .
وإنْ كانت هي الموضوع لكنْ لا بوصف الدليليّة ، كما عليه صاحب ( الفصول ) ، إرتفع الإشكال الثاني ، بناءً على كون المراد من « السنّة » هو الأعم من الحاكي ، بالنسبة إلى قسم من المسائل ، وهي التي يكون البحث فيها عن أصل الدليليّة ، لكن مباحث الإستلزامات العقلية ، ومباحث الإطلاق والتقييد ، والعموم والخصوص ، ونحوها من مباحث الألفاظ ، كلّها تخرج ، لأنّ البحث ليس عن عوارض الأدلة الأربعة ، فيكون من العوارض الغريبة ، لكون الموضوع في كل هذه المباحث أعمّ من الكتاب والسنّة ، كما أنّ الشهرة أيضاً تخرج ، إلاّ أن تدخل في السنّة ، لكونها ـ كالخبر ـ حاكية .
وأمّا بناءً على كون المراد من « السنّة » خصوص المحكي ، وهو « القول والفعل والتقرير » فيضاف الإشكال بخروج مباحث حجيّة الخبر ، ومباحث باب التعارض ، لأنّ البحث هناك إنما هو عن حجيّة الخبر الحاكي ، والمفروض عدم كونه سنّةً ، فلا يكون البحث بحثاً عن عوارض الأدلة الأربعة .
وقد حاول الشيخ الأعظم دفع هذا الإشكال بإرجاع البحث عن خبر الواحد إلى البحث عن ثبوت السنّة ، بأنّ البحث في الحقيقة : أنّه هل السنّة ـ التي هي عبارة عن قول المعصوم وفعله وتقريره ـ كما تثبت بالخبر المتواتر وبالقرينة القطعية ، تثبت بخبر الواحد الثقة أو لا تثبت ؟ فيكون بحثاً عن عوارض السنّة .
لكنّ هذه المحاولة غير مفيدة ، لأنّه إنْ اُريد بالثبوت : الثبوت الواقعي الخارجي ، فقد أورد عليه شيخنا ـ تبعاً للمحقق الخوئي ـ بأن الخبر حينئذ حاك وكاشف عن السنّة ، والكاشف عن الشيء في رتبة متأخرة عنه ، ويستحيل أن يكون علةً له .
وأمّا ما أجاب في ( الكفاية ) ـ وتبعه الميرزا والعراقي ـ من أنّه حينئذ بحث عن الثبوت بمفاد كان التامة وليس بحثاً عن عوارض السنّة ، الذي هو بحث عن العوارض بمفاد كان الناقصة ، فقد أجاب عنه شيخنا بإمكان إرجاعه إلى العوارض ، لأنّ البحث ليس عن الوجود الخارجي للشيء ، بل هو عن وجوده بعلّة خاصّة ، وأنّه هل توجد السنّة وتثبت خارجاً بالخبر أو لا ؟ فهو بحث بمفاد كان الناقصة .
وإن اُريد بالثبوت : الثبوت العلمي ، بأنْ يكون الخبر واسطةً في الإثبات ، أي علةً للعلم بالسنّة ـ لا لوجودها ـ فيكون بحثاً عن العوارض ، وعن مفاد كان الناقصة . ففيه : إنّ المبحوث عن حجيّته وهو خبر الواحد ـ يقبل الصّدق والكذب ، ولايوجب العلم كما في المتواتر والمحفوف بالقرينة .
وإنْ اُريد بالثبوت : الثبوت التعبّدي ، بمعنى أنّ الشارع هل جعل خبر الواحد حجةً كاشفةً عن ثبوت السنّة ؟ كان البحث بحثاً عن العوارض ، لكن عن عوارض الخبر لا عن عوارض السنّة التي هي الموضوع .
قاله في ( الكفاية ) وتبعه غيره .
وأجاب الميرزا : بأنْ عنوان كون السنّة محكيّة يعرض لها بواسطة الخبر الذي هو مباين لها ، فيكون من العوارض الغريبة(1) .
قال شيخنا دام ظلّه : أمّا جواب ( الكفاية ) عن كلام الشيخ فوارد ، لكنْ بناءً على أن مدلول أدلّة اعتبار خبر الثقة هو إنشاء الحكم المماثل . فهو جوابٌ مبنائي . وأمّا جواب الميرزا ففيه : إنّ حجية الخبر على مسلكه اعتبار الشارع الخبر علماً ، لكنّ حصول هذه الصفة للخبر ـ أي : صفة العلمية الاعتبارية له ـ إنما كان باعتبار الشارع ، فكان اعتبار الشارع واسطة في ثبوته ، وعليه ، فإن هذا المعتبر يكون عرضاً غريباً للخبر .
ثم إنّ المحقق الإصفهاني حاول توجيه كلام الشيخ ـ على فرض إرادة الثبوت التعبّدي ـ على المسلكين : إنشاء الحكم المماثل ، والمنجزيّة والمعذريّة ، أمّا على الأول : فبأنّ الحكم الذي يجعل من قبل الشارع على طبق الحكم الذي أتى به المخبر كقول زرارة : صلاة الجمعة واجبة ، له وجود حقيقي ، فالحكم وإنْ كان اعتبارياً ، إلاّ أن الوجوب الصادر طبق قول زرارة وجوب حقيقي للحكم الظاهري الذي أخبر به زرارة ، وهذا الوجود الحقيقي وجود تنزيلي للسنّة ، فالبحث عن ثبوت السنّة بخبر الواحد بحث عن الثبوت التنزيلي لها بخبر الواحد ، أي : هل السنّة تثبت تنزيلا بالخبر أو لا ؟
وأمّا على الثاني ، فإنّ المنجزيّة والمتنجزيّة متضايفتان ، فجعل الخبر منجزاً يلازم جعل السنّة متنجّزة ، فيصحّ البحث عن كلّ منهما ، بل الثبوت التعبّدي أكثر مساساً بالسنّة من التنجّز ، حيث أن اعتبار الثبوت هو اعتبار كون الخبر وجوداً للسنّة(2) ، والحاصل : إنّ المسألة تكون اصوليّة ، لأن البحث يقع عن أنه هل السنّة تصير متنجّزة بالخبر أو لا ؟
لكن لا يخفى أنّ ماذكره طاب ثراه إخراجٌ لعناوين المسائل المطروحة في العلم عن ظواهرها ، وإرجاعٌ لها إلى قضايا ومعان اخرى ، لأنّ موضوع العلم ـ كما هو مفروض ـ هو « السنّة » والمسألة هي : هل خبر الواحد حجة أو لا ؟ فالحجيّة محمولة على الخبر ، وهو حاك عن السنّة وليس بمصداق لها … ولو أنّا أردنا إرجاع صور القضايا في العلم إلى قضايا اخرى ، للزم خروج كثير من مسائله عنه ، فلو أرجعنا قولنا في الاصول : هل وجوب ذي المقدّمة يستلزم وجوب المقدّمة أو لا ؟ إلى قولنا : هل مقدمة الواجب واجبة أو لا ؟ لخرجت المسألة عن الاصول ودخلت في الفقه .
(1) أجود التقريرات 1 / 9 ـ 10 .
(2) نهاية الدراية 1 / 37 .