آراء الاستاذ
ثم إن شيخنا الاستاذ اختلفت كلماته في هذا المقام ، فقد اختار في الدورة الاولى : أن الفرق بين الأبواب والمسائل ، وبين العلوم ، بأن العلوم يمكن أنْ تتعدّد بتعدّد الموضوعات ، لعدم الجامع المشترك بين الموضوعات الموجبة لتعدّد العلوم ، بخلاف الأبواب والمسائل ، فقولهم ـ في علم النحو مثلا ـ الفاعل مرفوع ، والمفعول منصوب ، والمضاف إليه مجرور ، يمكن تصوير جامع بينها وهو الكلمة والكلام ، لصدقه على كلّ من الموضوعات الثلاثة على حدّ سواء .
ثم إنّه عدل عن هذا ، لكونه إنّما يتمّ في بعض العلوم دون الجميع ، فقد تكون النسبة بين موضوعي علمين نسبة العموم والخصوص كالطب والطبيعي ، فبينهما جامع مشترك كالجامع بين البابين من العلم الواحد أو المسألتين ، فليس الموضوع مابه التمايز في مثل ذلك .
واختار في الدورة الثانية ـ التي حضرناها : أنّ التمايز يمكن أن يكون بالموضوعات ، كما ذكر المشهور ، أمّا في المسائل والأبواب من العلم الواحد فالمحمولات فيها عوارض ذاتيّة للموضوع دائماً ، فلا يلزم من كون الموضوع ملاكاً للتمايز أنْ تكون الأبواب والمسائل من كلّ علم علوماً على حده ، كما ذكر صاحب ( الكفاية ) .
لكنّ هذا إنّما يتم على مبنى المشهور في حقيقة موضوع كلّ علم .
وأفاد في الدورة المتأخّرة ـ في مقام المناقشة مع مبنى صاحب (الكفاية) ـ أن هناك ـ بالضرورة ـ ارتباطاً بين الأغراض المختلفة والمسائل المختلفة ، وهذا الإرتباط في العلوم الإعتبارية ـ كعلم النحو ـ اعتباري ، وفي العلوم غير الإعتبارية كعلم الطب ذاتي ، والذاتي إمّا هو من ارتباط الشيء بمقتضيه وإمّا من ارتباط الشيء بشرطه ، فالغرض الحاصل من العلم يحصل من ترتّب المحمولات على الموضوعات ، وهذا الترتّب إنما يكون لأجل الارتباط ، كما أنّ حصول الغرض لا يكون إلاّ بارتباط بينه وبين الموضوع .
ومقتضى القاعدة أنْ يكون التمايز في الدرجة الأولى بما هو متقدّم على الغرض ، وهو المنشأ في تمايز الأغراض ، وهو المسائل .
أقول : فيكون ماذهب إليه أخيراً قولا آخر في البحث ، وحاصله : أنّه إن كان للعلم موضوع ـ كعلم الطبيعي الذي موضوعه الجسم من حيث الحركة والسّكون ـ فالتمايز بينه وبين غيره يكون بموضوعه الجامع بين موضوعات مسائله ، وإن لا يكون له موضوع بسبب اختلاف مسائله اختلافاً لا جامع ذاتي بينها ينطبق على موضوعات مسائله ، فالتمايز يكون بالمسائل .
ثم ذكر إشكال المحقق الخراساني في ( الكفاية ) بأنّه لو كان الامتياز بالمسائل لم يبق أيّ تداخل لعلم الاصول مع بعض العلوم في بعض المسائل ، مع وجود هذا التداخل بالضّرورة وكونها مشتركة بينه وبينها … فاضطرّ إلى إنكار الإشتراك قائلا ما حاصله : بأنّ المسألة المطروحة في علم الاصول وغيره وإنْ كانت متّحدةً في ظاهر لفظها وعنوانها ، إلاّ أن الجهة المبحوث عنها في كلّ علم تختلف عن الجهة المبحوث عنها في غيره ، ومثّل لذلك بمسألة جواز اجتماع الأمر والنهي المطروحة في الاصول والفقه والكلام معاً ، وأفاد بأنّها وإنْ كانت بهذه الصيغة إلاّ أنها في الحقيقة تعدّ في كلّ علم مسألة مستقلّة عنها في غيره .
أقول : لكنْ يمكن المناقشة فيه : بأنّ المسألة تتشكّل من الموضوع والمحمول والنسبة ، وكما أنّ المسألة متقدّمة على الغرض ، وما به الامتياز يكون قبل الغرض ، كذلك الموضوع فهو متقدّم على المحمول وعلى المسألة المتشكّلة منهما ، فلولا الموضوع لم يكن المحمول ولا المسألة ، وبالجملة ، فالذي ذكره في جواب مسلك صاحب ( الكفاية ) ينفي ذلك المسلك ولا يثبت ماذهب إليه ، بل يقوّي مبنى التمايز بالموضوعات كما اختاره في الدورة الثانية ، وفي بعض العلوم في الدورة المتأخّرة …
وأمّا ابتناء ذلك على مسلك المشهور من ضرورة وجود الموضوع لكلّ علم ، فواضحٌ أنّ جميع هذه البحوث إنما هي على أساس ذاك المبنى ، وإلاّ فقد تقدم منه دام ظلّه أنْ لا برهان على ضرورة وجود موضوع جامع بين موضوعات المسائل ، وعلى أن البحث في العلوم لابدَّ وأنْ يكون عن الأعراض الذاتيّة .
Menu