في المراد من التعذّر و إعواز المثل

في المراد من التعذّر و إعواز المثل
قال الشيخ:
ثم إن المحكّي عن التذكرة أن المراد بإعواز المثل: أنْ لا يوجد في البلد وما حوله. وزاد في المسالك قوله… وعن جامع المقاصد… ويمكن أن يقال… نعم، لو انعقد الإجماع على ثبوت القيمة عند الإعواز تعيّن ما عن جامع المقاصد… .
أقول:
ظاهر الشيخ أن جامع المقاصد أرجع معنى «الإعواز» إلى العرف، ولا تخفى غرابته، لأن الكلمة لم ترد في نصٍّ حتى يرجع في مفهومها إلى العرف، لكنّ الصحيح أنّ جامع المقاصد يريد الرجوع إلى العرف في معرفة مفهوم «حوالى البلد» لا في مفهوم «الإعواز»، وهذه عبارته: «واعلم أن المراد من تعذّر المثل أنْ لا يوجد في ذلك البلد وما حواليه، كذا ذكر في التذكرة، ولم يحد ما حواليه، والظاهر أن المرجع فيها إلى العرف»(1).
وعلى الجملة، فهنا قولان: أحدهما: أن المراد هو البلد وما حوله ممّا ينقل عادةً منه إليه، كما ذكروا في انقطاع السّلم فيه، وقد أشار الشهيد الثاني بهذا النظير إلى النصوص في السّلم، كقوله عليه السّلام: الحلبي سئل أبو عبداللّه عن رجل يسلم… فسأل صاحب الحق… قال: لا بأس… .
والقدرة المتعارفة عبارة عن القدرة في البلد وما حوله، ونقيض ذلك: عدم القدرة على الشيء في البلد وما حوله.
والإنصاف: عدم تماميّة الاستدلال بأخبار السّلم لما نحن فيه، إذ الظاهر في السّلم هو انصراف العقد إلى الكلّي المقدور عليه في البلد وحواليه، لأن القدرة على التسليم من الشرائط، وهي القدرة المتعارفة المذكورة، ولا ربط لذلك بما نحن فيه.
والثاني: إنه غير محدود بحدٍّ، لأنّ مورد البحث ـ كما هو ظاهر كلماتهم ـ هو التعذّر الموقّت لا التعذّر بقول مطلق، وليس في البين نصٌّ يدلُّ على أن المقصود من «المثل» ما يقع تحت اليد بسهولة ولا مؤنة زائدة، بل مقتضى نصوص الضّمان في أنّ على الضّامن الخروج عن عهدة الكفالة بدفع المثل النازل بمنزلة التالف، هو وجوب تحصيل المثل في أيّ بلد كان أو في أيّ زمان، كما كان مكلّفاً بإرجاع نفس العين إنْ أخذها إلى بلاد نائية، بلا فرق… وقد تقدّم الجواب عن دعوى مانعيّة قاعدة نفي الضرر عن ذلك.
والقول الثاني هو المختار.
والحاصل:
إن على الضّامن أنْ يرجع العين إلى صاحبها وإنْ استلزم المؤونة الكثيرة، بل لو فرض إمكان إعادة المعدوم وجب عليه ذلك، وإن تلفت وجب عليه دفع المثل، وإنْ تعذّر فهو ضامن للماليّة، وهذا حكم وضعي يجب عليه الخروج عن عهدته.
ثم إن الأحكام الوضعيّة على أنحاء:
فمنها: ما هو مطلق، كالقرض.
ومنها: ما هو مقيّد بقيد، كالحليّة في الذّبيحة، فإنها مقيدة بأنْ لا يكون الذابح محرماً، ودية القتل مقيدة بأنْ يكون شبه العمد، وملكيّة اللّقطة مقيّدة بأنْ لا تكون في الحرم… وهكذا… .
فالأحكام الوضعيّة تجعل تارةً على الإطلاق واخرى مقيّدةً.
فهل ضمان المثل مطلق أو مقيّد بقيد القدرة؟ وعلى الثاني: فهل المراد القدرة العقليّة، بأنْ يجب عليه تحصيلها بأيّ مؤونة، أو القدرة المتعارفة، فلو كان مثل العين التالفة عند شخص لا يبيعه إلاّ بأضعاف، فلا قدرة على شرائه عند العرف، أو المراد هو المتعارف تحصيله ولو من البلاد البعيدة، أو خصوص القدرة في البلد وما حوله؟
إذن، لابدَّ من تحرير المراد من «التعذّر» و«الإعواز» وعدم القدرة على المثل، فنقول:
إنّ الظاهر المتفاهم عرفاً من أدلّة الضمان، هو المقدور بحسب المتعارف ولو من البلاد البعيدة، ويقابله الإعواز والتعذّر، ولو شككنا في المراد من القدرة هنا، رجع الشك إلى ضمان الزائد على المقدور عليه بالقدرة المتعارفة، والأصل عدمه، فما كان خارجاً عن ذلك فهو المتعذِّر، وحينئذ، يتدارك العين التالفه بالقيمة، أي بالدينار والدرهم.
وبهذا يرد الاشكال في كلام الشيخ المذكور سابقاً، إذ قال «يجب تحصيل المثل بأي ثمن كان» مستدّلاً بقاعدة السلطنة، لأن موضوعها كون الشّيء مالاً للنّاس، وهذا ـ حيث يكون متعذّراً تحصيله عرفاً ـ أوّل الكلام.

(1) جامع المقاصد 6 / 245.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *