النظر في كلام الشيخ في الصّورتين

النظر في كلام الشيخ في الصّورتين
أقول:
وفيما أفاده نظرٌ من جهات:
أمّا استدلاله بالإجماع في الصّورة الاولى، ففيه:
أوّلاً: إنّ الإجماع في المسائل الإجتهاديّة غير كاشف عن رأي المعصوم.
وثانياً: إن «لا خلاف» لا يصدق عليه «الإجماع».
وثالثاً: إنّ معقد إجماع الشيخ هو الغصب، وقد ذكرنا أنّ في الأخذ بالبيع الفاسد أربعة وجوه، ولا يصدق الغصب إلاّ في الرابع منها، وهو ما إذا كان البائع جاهلاً بالفساد والمشتري عالماً به; فدعوى الإجماع في الغصب ـ لو تمّت ـ لا ربط لها بما نحن فيه على إطلاقه.
ورابعاً: إنه لو اُريد تتميم الاستدلال بالإجماع بكلام ابن إدريس ـ كما سبق ـ .
ففيه ـ بعد تسليم أن قوله «عند المحصّلين» يجري مجرى الإجماع ـ أنّ الإجماع دليل لبّي، والقدر المتيقن من هذه الدعوى هو: أن المأخوذ بالعقد الفاسد بمنزلة المغصوب في عدم جواز التصرّف.
وأمّا الاستدلال فيها بعموم النصّ والفتوى، ففيه:
أمّا الفتوى، فلا يستدلّ بها في مسألة من المسائل، كما لا يخفى.
وأمّا النصّ، فليس في شيء من نصوص الضّمان تعرّض للمثل أصلاً، وتبقى الآية المباركة (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ)(1)، وقد تكلّمنا عليها بالتفصيل، وحاصله عدم صحّة الاستدلال بها لضمان المثل أبداً.
وتلخص: عدم الدليل على ضمان المثل في الصّورة الأولى.
وأمّا تأييد ذلك بالفحوى على ما ذكرنا في تقريبه[1]، ففيه:
[1] وأمّا القول بأنّ الوجه لهذه الفحوى هو: أنّ كلّ حكم ثبت مع وجود المزاحم له فهو ثابت مع عدمه بالأولويّة، وما نحن فيه من هذا القبيل، لأنّه في صورة التنزّل يقع التزاحم بين حفظ الخصوصيّات النوعيّة والصنفيّة وحفظ الماليّة، فلابدّ من رفع اليد عن أحد الطّرفين، لكنّ الشارع حكم بوجوب حفظ الخصوصيّات مع وجود المزاحم وهو تنزّل القيمة، فكان الواجب دفع المثل وإنْ نقصت قيمته، فمع ترقّي القيمة وعدم المزاحم يكون الواجب حفظ المثليّة وعليه دفعه بالأولويّة القطعيّة.
وهذا ما ذكره شيخنا الاستاذ دام بقاه في مجلس الدرس معتبراً إيّاه وجهاً آخر.
فالظاهر إنه يرجع إلى ما ذكره السيد الجدّ طاب ثراه، غير أنه أوضح معنى ضابطيّة حفظ المثليّة وشرح كونها محفوظةً مع تنزّل القيمة. فتدبر.

إنه ليس الكلام في صدق عنوان المماثلة مع زيادة القيمة السّوقيّة، إذ لا ريب في ذلك، بل هو في أنه إذا زادت القيمة السّوقيّة للمثل، فهل يجب شراؤه أوْلا؟ وأي ربط لحكمهم بجواز دفع الضّامن للمثل إذا تنزّلت قيمته وأنه ليس للمالك إلزامه بدفع التفاوت، بمسألة ما إذا زادت قيمته في السّوق؟
إنه لا ربط لتلك المسألة بمسألة الزّيادة، فضلاً عن الأولويّة؟
والحاصل: إن جواز الإكتفاء بدفع المثل إذا نقصت قيمته مسألةٌ، ووجوب شراءه إذا زادت قيمته أو عدم وجوبه مسألة اُخرى.
فسقط التأييد كذلك.
لقد تقدّم منا أنّ المتّبع هو الفهم العرفي في كلّ مورد أوكل الشارع فهم موضوع حكمه إلى العرف، وهذه الكبرى منطبقة على الرّوايات المتواترة في الضمان بمشتقاته، لأنّه لم يرد فيها أيّ بيان للمراد من «الضمان»، فكان المرتكز عند العرف من هذا اللّفظ هو المراد، وقد ذكرنا أنّ الضمان في اللغة والعرف هو الكفالة، وعليه، فالمتلف كفيل وعهدته مشغولة بإرجاع المتلَف إلى صاحبه، فإنْ كان له مثل وجب عليه دفعه، لإن إعطائه بمثابة إرجاع التالف، وإنْ لم يكن له مماثل، وجب دفع قيمته.
فقولهم: المثل في المثلي والقيمة في القيمي، متّخذ من الفهم العرفي للفظ الضمان الوارد في النصوص والموكول فهمه إلى أهل العرف، وقد بيّنا معنى «المثل» و«القيمة» أيضاً.
وعليه: فإنّ الواجب على الضّامن حيث يتمكّن من «المثل» دفعه، سواء زادت قيمته أو نقصت، وهذا هو الصّحيح في الاستدلال في كلتا المسألتين.
فإنْ قلت: الحكم بوجوب شراء المثل بأضعاف قيمته يوم تلفه، ضرري، فهو منفي بقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام.
قلت:
أوّلاً: إنه ينتقض بمورد نقصان القيمة، فإن تجويز دفع المثل في هذه الحالة ضرر على المالك، فتنفيه القاعدة.
وثانياً: إنّ قاعدة نفي الضّرر بمنزلة الشّارح للأحكام الأوّلية، والضّرر مانع عن ثبوت الحكم، أمّا إذا كان الضّرر هو المقتضي للحكم، فمثله لا يرتفع بالقاعدة، ولذا يرتفع بها الوضوء الضرري ولا يرتفع بها الزّكاة والجهاد ونحوهما… وما نحن فيه من هذا القبيل لا من ذاك[2].
[2] أقول: وما ذكره طاب ثراه هو الصحيح في وجه عدم جريان القاعدة هنا، لا ما ذكره السيد رحمه اللّه بقوله: «وقاعدة لا ضرر غير معمول بها في أمثال المقام، فبناءً على حاجتها إلى الجابر لا يجوز الرجوع إليها في المقام، ألاترى أنهم لم يحكموا بالضمان فيما لو منعه عن بيع ماله في حال وجود المشتري بالزائد، وكذا لو حبسه عن الكسب، نعم، في حبس العبد ضامن، لأن منافع العبد مال، فيكون من باب التلف. وهكذا في نظائر ذلك»(2).
وحاصل كلامه أن القاعدة إنما لا تجري هنا بسبب وهن دلالتها لكثرة التخصيصات الواردة عليها، فجريانها يحتاج إلى الجبر بعمل الأصحاب، وهم لا يعملون بها في أمثال المقام.
لكنّ السيد الجد طاب ثراه أفاد أن الوجه لعدم جريانها فيما نحن فيه هو أنّ الضّرر لازم طبعي للضّمان، وفي مثله لا يتمسّك بقاعدة نفي الضرر. وبعبارة اخرى: فإنّ خروج محلّ الكلام عن القاعدة تخصصّي لا تخصيصي حتى يقال بأن كثرة التخصيص أوجبت الإجمال فاحتاج إلى الجبر بعمل الأصحاب.

وهذا كلّه في الصّورة الاولى.
وأمّا في الصّورة الثّانية، ففي استدلاله ـ لوجوب الشراء كذلك ـ بالإجماع والعموم ما عرفت.
أمّا عدم جريان قاعدة نفي الضرر هنا في نظر الشّيخ، فقد قرّبه المحقق الخراساني بقوله:
«وذلك، لأن ضرر الضامن في الشراء بأزيد من ثمنه، يزاحم بضرر المالك في منعه عمّا يستحقّه من المثل، فيبقى ما دلّ على الضمان بالمثل بلا مزاحم، وعدم العلم باستحقاقه للمثل شرعاً لا ينافي استحقاقه له عرفاً واعتباراً، وهو كاف في صدق الضرر حقيقةً»(3).
وبعبارة اخرى: إنّ قوله صلّى اللّه عليه وآله: لا ضرر… حكم امتنانيٌّ لطبيعيّ الاُمّة الإسلاميّة، وترتب الضرر بسببه على بعض أفراد الاُمّة خلاف الامتنان ومستلزم للتناقض، لأنّ الموجبة الجزئية نقيض السّالبة الكليّة، وفيما نحن فيه، جريان القاعدة بالنّسبة إلى الضامن ليرتفع عنه وجوب الشّراء، يستلزم الضّرر على البائع، وذلك مانع عن جريانها في حقّ الضامن.
وربما يقال في تقريب عدم اعتناء الشيخ بقاعدة لا ضرر: بأن هذه القاعدة لا تشمل ما نحن فيه، إذ لا ضرر في نفس الشّراء، وإنما هو في مقدّمته، أعني بذل المال، وهو لا يسري إلى ذي المقدّمة(4).
والإنصاف عدم تماميّة هذا الوجه، لأنّ ارتفاع وجوب المقدّمة يلازم ارتفاع وجوب ذي المقدّمة، والترخيص فيها ترخيص فيه، فإذا لم يجب بذل المال لم يجب الشراء لا محالة.
وبعبارة اخرى: عدم الشيء تارة: يكون بعدم وجود علّته، واخرى: بارتفاع ما يكون علّةً لوجوده، وثالثة: بإيجاد العلّة لعدمه. ورابعةً بعدم وجود حكمه، إذ عدم الموضوع في عالم التشريع يكون بعدم حكمه لاتّحادهما فيه، وخامسةً: بعدم وجود المقتضي لوجوده، مثلاً: وجوب الوضوء يقتضي وجود الوضوء خارجاً، فإذا كان الوضوء ضرريّاً ارتفع وجوبه وبارتفاعه يرتفع الوضوء نفسه.
وعلى هذا، فإذا كانت مقدّمة الحكم المقتضية لوجوده ضرريّةً وارتفعت بالقاعدة، فذو المقدّمة ـ وهو الحكم ـ يرتفع بارتفاعها، لأنّ المقدّمة سبب لذي المقدّمة، وبارتفاع السبب يرتفع المسبّب.

(1) سورة البقرة: 194.
(2) حاشية المكاسب 1 / 476.
(3) حاشية المكاسب: 36.
(4) راجع: حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: 98.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *