القول بضمان المثل

القول بضمان المثل
وأمّا القول بأصالة الضّمان بالمثل قال الشيخ: لأنه أقرب إلى التالف من حيث الماليّة والصفات. فلنقدّم قبل الورود في البحث عنه مقدّمةً، وهي:
إنّ الشبهات المصداقيّة على أقسام:
منها: أنْ يكون المفهوم بيّناً والشّك في المصداق، كأن يقول أكرم العالم ويشك في أن زيداً مصداقٌ لعنوان «العالم» أوْ لا. فهنا لا يجوز إكرام زيداً تمسّكاً بعموم العام، وكذا لو كان عندنا عام بيّن وخاصّ بيّن، فشك في أنه مصداق للعام أو الخاص، فلا يجوز التمسّك بالعام، إذ ليس التخصيص إلاّ أن يكون الباقي تحت العام مقيّداً بكونه غير المخصّص، لأن حيثيّة الغيريّة هذه قيدٌ للباقي تحت العام برهاناً، إذ لا يعقل كونه مهملاً.
ومنها: أن يكون المخصّص للعام مفهوماً مجملاً، وتسمّى بالشبهة المفهوميّة، كأن يقول: كلّ مكلّف يجب عليه التمام، فأخرج المخصّص المسافر وكان مجملاً لتردّده بين من سافر بريداً أو بريدين، والقدر المتيقن هو من سافر بريدين ويبقى المسافر بريداً تحت العام، أو قال: أكرم الناس إلاّ الفاسق، وتردّد الفاسق بين خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعمّ منها ومن الصغيرة، والقدر المتيقن هو مرتكب الكبيرة وفي غيره يتمسّك بالعام، وهكذا في موارد كون المخصّص لبيّاً، فإن الخارج من تحت العام هو القدر المتيقّن ويتمسّك بالعام فيما زاد عليه.
وبعد هذه المقدمة نقول:
يمكن تقريب ضمان المثل بوجوه:
بأن يقال: إن الضمان بمعنى الكفالة، والكفيل عبارة عمّن يكون ملتزماً بإرجاع الشيء إلى محلّه أو صاحبه، ولو تلف وهو كفيلٌ وجب عليه إرجاع مثله لأنه بمنزلة إرجاع نفسه وكأنه لم يتلف.
أو يقال: إن ضمان الشيء في المثلي بالمثل وفي القيميّات بالقيمة أو المثل، فلو تلف الشيء وتردّد بين كونه مثليّاً أو قيميّاً، كان أمر الضامن مردداً بين التعيين والتخيير، ومقتضى الأصل هو التعيين، فعليه دفع المثل إلاّ ما خرج بالدليل.
وبعبارة اخرى: إن مقتضى القاعدة في الضمان دفع المثل، وقد جوّز الشارع من باب الإرفاق في القيميّات دفع القيمة أيضاً، وإذا شك في اشتغال ذمّته بالمثل أو القيمة فدفع القيمة، كان مقتضى الاستصحاب بقاء الاشتغال، فيتعيّن دفع المثل حتى يتيقّن بالفراغ.
أو يقال: إنّ أخذ قوله صلّى اللّه عليه وآله: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» كنايةً عن أنه إذا تلف ما أخذت اليد فعليه خسارته ـ كما هو الظاهر عند الشيخ ـ خلاف الظاهر منه، وحمل الكلام عليه خلاف أصالة الحقيقة، لأن مقتضاها هو أنّ المأخوذ بنفسه على عهدة الآخذ إلى أنْ يؤدّيه، ولذا نقول ببقاء الشيء على عهدته لو تعاقبت الأيدي عليه، لأن المخرج عن العهدة ليس إلاّ الأداء إلى المالك.
ثم إنّ للشيء المأخوذ خصوصيّات، هي خصوصيّة الشخصيّة والصنفيّة والنوعيّة، وصفات يرغب فيها المالك وتؤثّر في ماليّته عنده، فكان مقتضى الحديث استقرار جميع الخصوصيات على ذمّة الضامن، وعليه أنْ يؤدّي الشيء بجميع خصوصيّاته وصفاته، وحينئذ فلو تلف الشيء المأخوذ سقطت خصوصيّته الشخصيّة ولا مصحّح لاعتبار بقائها على عهدة الضّامن، لكنّ سائر الخصوصيّات باقية على العهدة، فهو لا يخرج عنها إلاّ بأدائها، والمثل هو الواجد لها، فيجب عليه دفع المثل.
نعم، قام الإجماع في القيميّات على دفع القيمة، وبه ترفع اليد عن مقتضى القاعدة، لكنّ القدر المتيقّن من الإجماع ما كان بيّن القيميّة، أمّا المشكوك في مثليّته أو قيميّته فباق تحت القاعدة، لما ذكرناه في المقدّمة.
هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب هذا القول بوجوهه الثلاثة.
ولكنّ الكلام كلّه في قاعدة اليد، وبعد عدم تماميّة سند الحديث لا حاجة إلى البحث عن دلالته، ولا مجال للقول بأنّ ضعفه مجبور بعمل الأصحاب.
وبذلك يسقط التقريب الثالث.
وأمّا التقريب الثاني، ففيه:
أوّلاً: لا دليل على دعوى الإرفاق في القيميّات حتى يتمّ التخيير.
وثانياً: لو سلّمنا التخيير في القيميات، فِلمَ لا يكون من باب التخيير بين الكلّي وفرده، حتى يكون من قبيل الأقل والأكثر فتنفى خصوصيّة الفرد بالأصل وهي المثليّة؟
وأمّا التقريب الأوّل، فالجواب عنه: إنّ المخاطب في روايات الضّمان الكثيرة جدّاً والمختلفة مورداً ـ إذ قسم منها في تلف القيمي، وقسمٌ في الدراهم، وقسمٌ منها جاء بعنوان «الثمن» ـ هو العرف، وقد اُوكل فهمها إليه، وأهل العرف لا يفهمون الدّقائق المشتمل عليها هذا التّقريب.
فالقول بأصالة الضمان بالمثل لا دليل عليه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *