التحقيق في المقام

التحقيق في المقام
والذي يختلج بالبال في تعريف التالف المثلي أن يقال:
هو ما كان له مماثل في الغالب في جنسه ويتساوى معه في ماليّته، فلو تساويا في الماليّة ولم يجتمعا تحت جامع لم يكونا مثلين كما لو تساوت ماليّة المنّ من الحنطة مع مالية المنّ من اللّحم. ولو كانا من جنس واحد وهما غير متساويين في الماليّة، كالحنطة الجيّدة والرديئة أو العقيق الكبير والصغير أو حنطة هذا البلد وذاك البلد، لم يكونا مثلين.
فالمثلي هو: ماله مماثل يندرج معه تحت جامع قريب ويساويه في الماليّة من جميع الجهات، بإضافة كلمة «من جميع الجهات» حتّى يعمّ الخصوصيات المذكورة.
وربما يشكل بالاختلاف الأزماني، كما لو أتلف الحطب في الشتاء، فأراد دفع ما يساويه في الأجزاء والماليّة في الصيف، أو أتلف الجليد في الصيف وأراد دفع ما يساويه في الشتاء، فلابدّ من إضافة قيد آخر، فكان المختار عندنا في تعريف المثلي هو:
ما كان له في الغالب مماثل يندرج معه تحت جامع قريب ويساويه من جميع الجهات فعلاً.
هذا، وقد اختلفت كلماتهم في المصاديق تبعاً لاختلافهم في التعريف: قال الشيخ:
ويبقى ما كان مختلفاً فيه بينهم، كالذهب والفضّة غير المسكوكين… وكذا الحديد والنحاس… .
أقول:
أمّا الحنطة والشعير من الغلات الأربع فمثليّان، وأمّا التمر والزبيب فإن كان يابسين فكذلك، وإن كانا رطبين فقال بعضهم بكونهما قيميين، وكذا في الدرهم والدينار اختلفوا على قولين، وفي المعادن التي تصنع منها الأشياء من الظّروف ونحوها، قال جماعة بكونها قيميّة وفصّل بعضهم بين الاصول فقال بأنها مثليّة وبين المصوغ منها فقال هي قيميّة.
والصحيح: إن الظروف المصنوعة في المعامل من المعادن وكذا الأدوات كالسكين والمقص ونحو ذلك، كلّها مثليّة، بل كلّ شيء يصنع من المواد بواسطة الآلات كالثياب وغيرها مثلي، ولا وجه لأنْ يكون قيميّاً.
قال الشيخ:
والحاصل: إن موارد عدم تحقّق الاجماع على المثليّة فيها، كثيرة، فلابدّ من ملاحظة أنّ الأصل… .
أقول:
إنه لمّا لم يكن المثليُّ مذكوراً في النّصوص وكذا القيمي إلاّ قليلاً، ولم ينعقد الإجماع على المثليّة في كثير من الموارد، فلا محالة يقع الشك وتصل النوبة إلى الأصل:
فقيل: الأصل في الضمان المثل.
وقيل: الأصل في الضمان القيمة، وهو ظاهر ابن الجنيد، وقد قرّبناه سابقاً.
وقيل: يتخيّر المالك بين المثل والقيمة.
وقيل: يتخيّر الضّامن.
وقيل غير ذلك.
وسيأتي الكلام على الأقوال.
هذا، ومقتضى قاعدة اليد ـ بناءً على تماميّتها ـ هو ضمان المثل، لأنه إنْ كان للشيء التالف مثل فأدّاه فقد أدّى ما أخذ، لأنّ أداء مثل الشيء بمنزلة أداء نفس الشيء وكأنه لم يتلف من المالك شيء، وعليه، فالأصل في الخروج عن العهدة إعطاء المثل.
والحاصل: إنه لا خلاف بينهم في أنّ المثلي يضمن بالمثل والقيمي بالقيمة، فلو كانت هذه قاعدةً فقهيّة، لزم تعريف المثلي والقيمي، ولو أنّ اتفاقهم على كون الحنطة مثليّةً والحيوان قيميّاً كشف عن رأي المعصوم عليه السّلام أو رواية معتبرة في مثليّة هذا الشيء أؤ قيميّة ذاك، كان الاهتمام بالتعريف آكد والدقّة فيه ألزم.
ولكنْ لا كاشفيّة لمثل هذا الاتّفاق عن رأي المعصوم أو النصّ المعتبر أو القاعدة الفقهيّة، فيكون أمر ضمان الأشياء من حيث المثليّة والقيميّة موكولاً إلى نظر العرف، وقد حاول الفقهاء التعريف وتعيين ما هو مثلي أو قيميٌّ عرفاً، بلحاظ كونهم أجلاّء أهل العرف، فما ثبت أنه عند العرف كذا فهو، وما شكّ فيه فالمرجع هو الأصل العملي.
هذا، وقد ذكرنا المختار عندنا في تعريف التالف المثلي، وأمّا كلّي المثلي فتعريفه: هو ما يندرج تحته أفراد متماثلة متساوية الفائدة، والظاهر رجوع تعريف المشهور إلى هذا الذي ذكرناه، لأن المراد من قولنا «متماثلة» هو المماثلة بقول مطلق، بمعنى أنْ لا يكون في أحدهما امتياز وخصوصيّة توجب فيه مزيد المرغوبيّة والماليّة العقلائيّة بالنسبة إلى الآخر، بأنْ يكونا متماثلين في الصغر والكبر، والثقل والخفّة، واللينة والخشونة، والطعم واللّون وهكذا… وأمّا الخصوصيات الشخصيّة فلا يعقل التماثل بين الشيئين فيها كما لا يخفى.
وإذا كان هذا هو المراد، فلا يرد عليه ما ربما يقال:
إنه إنْ كان المراد من «ما» الموصولة في: «ما تساوت أجزاؤه…» هو النوع، فمن الواضح أنّ أفراد النوع ـ وهي أصنافه ـ غير متساوية في القيمة، فالقول بأن المثلي هو النوع الذي تتساوى من حيث القيمة مخالف للواقع، وإنْ كان المراد: هو الصّنف، فإنْ اُريد من «التساوي» التساوي الحقيقي، فإن الواقع في الخارج ليس كذلك، وإنْ اُريد التساوي التقريبي، فإنه موجود في كثير من القيميّات، كالقطعتين من الأرض والفردين من الحيوان وهكذا… .
أو يقال ـ وهو للمحقق الأردبيلي ـ ونقله الشيخ وهو:
«إنه إنْ اُريد التساوي بالكليّة، فالظاهر عدم صدقه على شيء من المعرّف، إذ ما من: شيء إلاّ وأجزاؤه مختلفة في القيمة… وإنْ اُريد التساوي في الجملة، فهو في القيمي موجود أيضاً، مثل الأرض ونحوها»(1).
أو يقال: بانتقاض ما ذكر بأنّا قد نجد التساوي في القيمة في الحيوانات.
وجه عدم الورود هو: أنّا قلنا في التعريف «ما كان له مثل في المماثلة الغالبة». فالموارد النادرة خارجة. هذا أوّلاً.
وثانياً: قد اعتبرنا التماثل بقول مطلق كما تقدّم.
وثالثاً: مرادنا من «الجامع» هو العنوان الخاص وإنْ كان جامعاً انتزاعيّاً كما إذا كانت الحنطة ممّا تسقى سيحاً مثلاً… بأنْ يدخل في الاعتبار كلّ خصوصيّة لها دخلٌ في الماليّة والمرغوبيّة، ولذا قلنا يندرج تحت عنوان، أي وإنْ كان انتزاعيّاً.

(1) مجمع الفائدة والبرهان 10 / 523.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *