كلام الشهيد الأوّل

قال الشيخ:
ومن جملة شروط العقد: الموالاة بين ايجابه وقبوله.
ذكره الشيخ… قال الشهيد في قواعده: الموالاة معتبرة… .
أقول:
ذكر الشهيد أنّ الموالاة بين الإيجاب والقبول مأخوذة من اعتبار الاتصال بين المستثنى والمستثنى منه، يعني: إن الاتصال هناك منشأ الانتقال إلى اعتبار الموالاة هنا.
واحتمل الشيخ في وجه الاعتبار هناك أنه السبب لخروج المستثنى منه عن حدّ الكذب إلى الصدق، فصدقه يتوقف عليه، فلو قال: «رأيت القوم» ولم يتّصل به قوله «إلاّ فلاناً»، كان كذباً، وإذا اتصل به خرج عن الكذب.
ولقد كان الأولى به أنْ يقول: إن المتكلّم مادام متكلّماً لا يستقرّ ظهور كلامه في المعنى المراد، فإذا انتهى استقر، فلو تكلّم بالمستثنى منه فقط انتهى واستقر ظهوره، بخلاف ما إذا اتّصل به المستثنى، فإن الظهور ينعقد بعد مجيئه، ولذا لو أقرّ قائلاً: «له عليّ مائة إلاّ خمسة» استقرّ الظهور في الخمسة والتسعين، أمّا لو فصل بينهما استقرّ في المائة، فلو قال بعد ذلك «إلاّ خمسة» عدّ إنكاراً بعد الإقرار، فالمناط وحدة الظّهور للكلام، فإذا انعقد اُخذ به، وليس المناط خروجه عن حدّ الكذب إلى الصدق.
وبالجملة، إنه مع الفصل ينعقد ظهوران، وهو على خلاف المقصود.
ثم ذكر الشهيد موارد لاعتبار الموالاة في الفقه، منها:
الفوريّة في استتابة المرتد، فيعتبر في الحال، وقيل إلى ثلاثة أيام.
قال الشيخ:
ثم في تطبيق بعضها على ما ذكره خفاء، كمسألة توبة المرتد، فإنّ غاية ما يمكن أن يقال في توجيهه إن المطلوب في الإسلام الاستمرار، فإذا انقطع، فلابدّ من إعادته في أقرب الأوقات.
أقول:
لكنّ العبارة موهمة، وإنّما المراد: الموالاة بين توبة المرتدّ واستتابة الحاكم إيّاه، وإلاّ يقتل فعلاً أو بعد ثلاثة أيام.
قال الشهيد:
ومنه: السكوت في أثناء الأذان… السكوت الطويل في أثناء القراءة… التشهّد، ومنه تحريم المأمومين في الجمعة… ومنه الموالاة في التعريف(1)… .
أقول:
وكلّ ذلك، لأنه لولا الهيئة الإتصالية لما صدق عنوان «الأذان» بل كان مجموعة أذكار وأقوال، أو «القراءة» بل كان المقروء آيات متفرقة، وكذا التشهّد.
وأمّا مسألة الجمعة، فلأنه يعتبر فيها الموالاة بين تحريم العدد المعيّن من المؤمنين وركوع الإمام، وإلاّ لم يتحقّق صلاة الجمعة.
وكذا الكلام في تعريف الضالّة، فلمّا قيّد الشارع التعريف بالمدّة الخاصّة، اعتبر فيه الموالاة وإلاّ لم يتحقق الامتثال.
قال الشيخ:
حاصله: أنّ الأمر المتدرّج… فالعقد المركب من الإيجاب والقبول القائم بنفس المتعاقدين بمنزلة كلام واحد… ولذا لا يصدق المعاقدة إذا كان الفصل مفرطاً… وما ذكره حسن لو كان حكم الملك واللّزوم في المعاملة منوطاً بصدق العقد عرفاً… أمّا لو كان منوطاً بصدق البيع أو التجارة عن تراض، فلا يضرّه عدم صدق العقد.
أي: إنّ سرّ اعتبار الموالاة هو: عدم صدق «العقد» بدون الموالاة بين الإيجاب والقبول والاتّصال الزماني بينهما.
فأورد عليه بقوله: إنّ هذا حسنٌ لو كان… أمّا لو كان منوطاً.
وحاصله: إنّ اعتبار الموالاة لكي يصدق عنوان «العقد»، يدور مدار الدليل المعتمد في ترتّب الأثر على العقد صحّةً ولزوماً، فإنْ كان عموم آية الوفاء فهي لازمة، لأن الموضوع فيها هو العقد وقد اعتبرت الموالاة في صدقه، وإنْ كان إطلاق آية الحلّ وموضوعها هو «البيع»، جاز التمسّك بها مع صدق البيع وإن لم يصدق «العقد». وأما إنْ كان عموم قوله تعالى (إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراض)(2)، فموضوع الآية هو «التجارة» وهو صادق مع عدم الموالاة وعدم صدق «العقد».
فأقول:
إنّ الشّهيد وغيره من الفقهاء، يعتبرون الموالاة في العقود المعاوضيّة وفي النكاح، وأمّا في غير المعاوضيّة كعقد الوكالة والعارية ونحوها، فلا، فلو وكّله الآن فقال الوكيل في الغد: قبلت، صحّ، وكذا لو وهبه الآن فقبل في وقت آخر، وهكذا…، فالقول بأنّ المناط للموالاة هو صدق عنوان العقد، منتقض بأنّ تلك المعاملات عقود أيضاً عندهم، ولا يعتبرون فيها الموالاة، فيظهر أن عنوان العقدية غير متوقف على الموالاة.
وأفاد شيخنا الاستاذ رحمة اللّه عليه في الجواب عن القول بأنّ التوالي بين الإيجاب والقبول مقوّم لصدق العقد، وبدونه لا يصدق:
بأنّ العهد عبارة عن الالتزام القلبي أو الجعل والقرار المعاملي، وأن العقد عبارة عن ربط أحد الالتزامين بالآخر أو ربط أحد القرارين بالآخر، فحيثيّة العهديّة غير حيثيّة العقديّة، وأن حقيقة العقد هو الربط لا الوصل حتى يؤخذ بمقتضيات الوصل وربط أحد الالتزامين القائم بمحلّ الالتزام القائم بمحلٍّ آخر بلحاظ ورودهما على أمر واحد وهو كون أحد المالين بأزاء الآخر في الملكيّة مثلاً، فوحدة الملتزم به هو الجامع الرابط بين الالتزامين، وهذا المعنى من الربط لا يقتضي إلاّ بقاء الالتزام الأوّل على حاله حتى يكون بعد ورود الالتزام الثاني مربوطاً به، وإلاّ فحقيقة الربط لا تتحقّق بين موجود ومعدوم، وتخلّل زمان طويل أو قصير أجنبي عمّا يقتضيه هذا المعنى من الربط(3).
وحاصله:
إن العقد عبارة عن العهد المؤكد، أي العهد الذي تأكّد بالعهد الآخر، أو المشدّد، أي العهد الذي شدّ بالعهد الآخر، والعهد أمر باطني نفساني لا ربط له باللفظ وبالزمان، إذن، لابدّ من الارتباط بين العهدين النفسانيين، وتخلّل الزمان أجنبي عن حقيقة العقد، فإذا كان العهد من هذا باقياً، وتحقّق من الآخر عهد ـ ولو بعد زمان ـ واشتدّ به وحصل الارتباط بينهما، صدق عنوان العقد.

(1) القواعد والفوائد 1 / 234، القاعدة رقم: 73.
(2) سورة النساء: 29.
(3) حاشية المكاسب 1 / 284.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *