موجز الكلام في الأحكام الوضعيّة

والكلام في الأحكام الوضعيّة طويلٌ وتفصيله في محلّه، وملخّص المختار فيها: أنها امور اعتبارية لها وجود ادّعائي كما في الاستعارات الأدبيّة، حيث يدّعى للشيء الحقيقي وجود اعتباري، كالبياض الذي له وجود حقيقي يدّعى له الوجود الاعتباري في القلب فيوصف بالبياض، وكالأسد الذي له وجود حقيقي، يوجد بوجود اعتباري فيقال زيد أسد… وهكذا، فالحكم الوضعي هو الحكم الذي يعتبره من بيده الأمر في كلّ مورد يصحّ فيه الاعتبار عقلاءً، أمّا في الخارج فلا يوجد شيء.
وبعد، فقد عدّوا السببيّة والشرطيّة والمانعيّة من الأحكام الوضعيّة، والحق أنه يستحيل أن تكون كذلك، فإنها ليست اموراً جعليّة من النفس بل هي انتزاعيّة، فتقول: العقد سبب للملكيّة، فينتزع له السببيّة، دلوك الشمس شرطٌ لوجوب الصّلاة، فينتزع له الشرطيّة، الغرر مانع عن الملكية فينتزع له المانعيّة، وهكذا… حيث أنّ المنشأ في الرتبة السّابقة على الحكم الوضعي كما في الأمثلة المذكورة، أمّا لو تقدّم الحكم، بأن اعتبر الملكيّة وجعلها عند تحقق الإيجاب والقبول، أو عند عدم الغرر أو عند التقابض في المجلس، فما معنى جعل السببيّة للعقد؟ لقد ذكرنا ضرورة وجود المصحّح للاعتبار ومع عدمه فهو لغو، وحال جعل السببيّة للعقد بعد اعتبار الملكيّة وللدلوك بعد الحكم بوجوب الصلاة، من هذا القبيل، لأن الملكيّة والوجوب فعل الشّارع، ولا تأثير للعقد أو الدلوك في ذلك لولا الإرادة والإعتبار النفساني من الشارع، فما شاع على الألسنة من أن الأحكام الوضعية امور إمضائية، لا أصل له، بل إنّ الملكيّة ـ مثلاً ـ من الامور الاعتباريّة، وكلّ أمر اعتباري فهو قائم بنفس المعتبر، فللشارع في موردها اعتبارٌ على طبق اعتبار العقلاء.
وبالجملة، الملكيّة ـ مثلاً ـ معلولة للنفس وهي المخترعة لها، وليست معلولة للفظ «بعتُ»، وإنما هذا اللفظ سببٌ عقلائي لاعتبار الملكيّة.
وبعبارة اخرى: إنّ الحكم سواء التكليفي أو الوضعي، أمرٌ في حيّز إرادة الجاعل المعتبر واختياره، فهو أمر اختياري له، وللحكم موضوع والموضوعية لا تقبل الجعل، أمّا بعد ترتب الحكم على الموضوع، فلعدم المصحّح للاعتبار، بل هو لغو، وأمّا قبل ترتّبه عليه، فلأن أثر اعتبار الموضوعية للموضوع هو ترتّب الحكم عليه قهراً، لكنّ الحكم أمرٌ اختياري للحاكم ولا ترتّب قهري له على الموضوع، فاعتبار الموضوعيّة قبل ترتب الحكم لغو كذلك.
الحاصل: إنه لا معنى لاعتبار الموضوعيّة لما ليس بموضوع، واعتبارها لما كان موضوعاً في نفس الأمر تحصيلٌ للحاصل، واعتبارها لشيء حتّى يترتّب عليه الحكم، يتوقف على كون الترتب قهرياً، وقد عرفت أنه ليس كذلك، لأنّ أمر الحكم بيد الحاكم وترتبه على الموضوع تابعٌ لإرادته.
إذا تبيّن هذا، فكلّ ما هو سبب للحكم أو شرط له أو مانع عنه ـ بمعنى التقيّد بعدمه ـ يكون في مرحلة الموضوع، ولمّا كان اعتبار الموضوعيّة لشيء لغواً، فلا معنى لمجعولية السببيّة والمانعيّة والشرطيّة، وبذلك تحصّل أنّها من الامور الانتزاعيّة لا الاعتباريّة، فليست أحكاماً وضعيّة.
هذا بالنسبة إلى سبب الحكم أو شرطه أو المانع عنه.
وأمّا ما كان سبباً للمأمور به أو شرطاً أو مانعاً، فكذلك، لأن الأمر متعلّق بالمركّب، فكان الركوع الذي هو بعض المركب بعض المأمور به، وينتزع من ذلك الجزئيّة له، ولو تقيّد المأمور به بقيد انتزع من ذلك شرطيّته له، ولو تقيّد بعدم شيء، انتزع منه مانعيّته عنه.
وبعبارة أخرى: لو فرضنا أن المانعيّة للشيء حكم مجعول اعتباري، فهل المأمور به مقيّد بعدمه أوْ لا؟ إن كان مقيّداً بعدمه فجعل المانعيّة له لغو، وإنْ لم يكن مقيّداً، بذلك فالإتيان بالمأمور به محقّق للامتثال، ولا أثر لجعل المانعيّة كذلك… .
وكذلك الشرطيّة والجزئيّة… .
فالقول بأنّ الشرطيّة والسببيّة والجزئيّة والمانعيّة أحكام وضعيّة، باطلٌ.
وكذلك القول بكونها مجعولة بالتبع.
والحاصل: إنها عناوين انتزاعيّة مطلقاً… وإذا كانت انتزاعيّة، فهي ليست قابلةً للجعل والاعتبار والوضع، وما ليس كذلك فليس قابلاً للرفع.
ولا بأس ببيان حقيقة الحال في الملكيّة والزوجيّة استطراداً، فنقول:
إنّ الملكيّة والزوجيّة، إمّا من المقولات أو من الامور الاعتباريّة أو من الانتزاعيّة المحضة.
أمّا كونهما من المقولات فمستحيل، لأن المقولة ما يقال على الشيء في الخارج، إمّا بحمل المشتق على موصوفه وهو في الكلّ، وإما أن يكون له مطابق في الخارج وهو فيما عدا الإضافة، ومن الواضح أن كلّ عرض فهو قائم بمعروضه، ولكنّ الملكيّة موجودة في الخارج بلا معروض في السّلم والنسيئة.
وأمّا كونهما من الامور الانتزاعيّة، فما هو منشأ الانتزاع؟ إن كان هو جواز التصرّف ـ وهو الحكم التكليفي ـ فقد تكون الملكيّة ولا جواز للتصرّف، كملكيّة الصغير والمجنون، وإنْ كان هو العقد، فإنّ المشتق من الملكيّة لا يحمل على العقد.
فتعيّن كونهما أمرين اعتباريين ممّن بيده الاعتبار، مع وجود المصحّح للاعتبار عنده.
هذا هو التحقيق في هذه الامور، خلافاً للشيخ الأعظم والمحقق الخراساني فيما ذهبا إليه في ذلك]1[.
]1[ قد ذكروا لعدم جريان البراءة عن الشرطيّة عدّة وجوه:
فالسيّد الجدّ قدّس سرّه على أنّ الشرطيّة من الامور الانتزاعيّة، وحديث الرّفع لا يرفع الانتزاعيّات إلاّ برفع المناشئ لها.
والمحقّق الإصفهاني أفاد: إن هذه الامور الانتزاعيّة وإنْ كانت جعليّة بالتبع إلاّ أنها لوازم تكوينية لمجعول تشريعي لا أنها لوازم تشريعيّة له، فالشّارع لمّا جعل اللّفظ سبباً للنقل والانتقال بين العوضين خارجاً، كانت شرطيّة اللّفظ من اللّوازم التكوينيّة للجعل المذكور، وحديث الرفع لا يرفع اللّوازم التكوينيّة.
وأيضاً، فإن للجزئيّة والشرطية في الأحكام التكليفيّة وللسببيّة والشرطية في الأحكام الوضعية مرحلتين، مرحلة الواقع والتكوين كدخل الطهارة في مصلحة الأمر بالصلاة واللّفظ في مصلحة اعتبار الملكية، ومرحلة الجعل كشرطية الطهارة للصلاة بما هي متعلّق للطلب، وشرطية اللفظ في الملكيّة بما هي معتبر من المعتبرات الشرعيّة، وحديث الرفع لا يرفع الشرطيّة في مرحلة الواقع(1).
فأشكل عليه بعض مشايخنا دام بقاه: بأنّ الشرطيّة متأخرة عن تعلّق الطّلب، فهي منتزعة، ولكنّ الاشتراط من شئون الطّلب وأمره بيد الشّارع فيتعلّق به الجعل، فيكون قابلاً للرفع.
لكنّ «الاشتراط» اعتبار من الشارع فهو افتراض شيء لشيء فينتزع منه الشرطيّة له، وقد ذكرنا أن منشأ الانتزاع يقبل الرفع كما يقبل الوضع، لكنّ البحث في نفس الشرطيّة، وكذلك الكلام فيما ذكره في الوجه الثاني من أن المرفوع هو التقييد لا القيديّة، لأنّ محطّ النّظر هو قابليّة حديث الرفع لرفع نفس الأمر الانتزاعي، وقد عرفت أنه ليس وضعه بيد الشارع حتى يرتفع بحديث الرفع.
وعلى الجملة، فإنّ ما ذكره المحقق الإيرواني مندفع بما أفاده المحقق الإصفهاني وتبعه عليه السيّد الجدّ قدّس سرّهما.
وقال المحقق الخوئي في الردّ عليه: «بأنّ حديث الرفع ـ وإنْ كان يشمل الأحكام الوضعيّة كشموله للأحكام التكليفيّة ـ إلاّ أنه لا يعم خصوص الجزئية والشرطيّة والمانعيّة، ضرورة أنّ هذه الامور الثلاثة امور غير قابلة للوضع، فلا تكون قابلةً للرّفع إلاّ برفع منشأ انتزاعها، وعليه، فإذا شك في شرطيّة شيء أو جزئيّته أو مانعيّته لم يجز الرجوع فيها إلى البراءة. (قال): وبيان ذلك إجمالاً: أنّا ذكرنا في بحث الاستصحاب من علم الاصول: إن الأحكام الوضعية على ثلاثة أقسام:
الأوّل: أن يكون مجعولاً بنفسه، كالملكية والزوجيّة والرقيّة ونحوها… .
والثاني: أن يكون الحكم الوضعي راجعاً إلى الحكم نفسه… كالشرطية والسببيّة والمانعيّة للوجوب مثلاً… وإذن كلّها منتزعة من جعل الحكم ولحاظه مقيّداً بقيد وجودي أو عدمي.
والثالث: أن يرجع الحكم الوضعي إلى متعلّق التكليف، كالشرطية والجزئية والمانعية للمأمور به، فإنها منتزعة من كيفية الأمر.
(قال): إذا عرفت ما تلوناه عليك: اتّضح لك عدم جريان البراءة في الشرطية والسببيّة والمانعية والجزئيّة، لعدم كونها مجعولة بالذّات، بل هي مجعولة بتبع منشأ انتزاعها، وعليه، فهي غير قابلة للوضع بنفسها فلا تكون قابلة للرفع، سواء قلنا بشمول حديث الرفع للأحكام الوضعية أم لم نقل بذلك…»(2).
وهذا وجه آخر لعدم جريان البراءة في الشرطيّة، وإنْ أشكل عليه شيخنا بأنه ينافي مسلكه في الاصول، فما ذهب إليه المحقق الإيرواني مندفع.
وأمّا تمسّكه باستدلال الإمام عليه السلام بحديث الرفع على فساد طلاق المكره وعتاقه، فقد أجاب عنه سيّدنا الجدّ، وكذلك أجاب عنه غيره كالسيد الخوئي.

والآن نعود إلى كلام الشيخ:
إنه إذا وقع البيع بالمعاطاة مع التمكن من اللّفظ، فهل يفيد الملك أو الإباحة؟ قولان، كما تقدم سابقاً بالتفصيل.
وأمّا إذا وقع مع العجز عنه كبيع الأخرس بالإشارة، فإنه يفيد الملك، وقد استدلّ له بفحوى صحّة طلاقه بالإشارة، وتشمله العمومات، وتعمّه أدلّة اللّزوم.
ثم وقع الكلام في صورة التمكّن من التوكيل أو التمكّن من الكتابة… وسيأتي.
وقد تحصّل مما ذكرنا أن اللّفظ معتبر في لزوم البيع، وأنّ الشهرة العظيمة قائمة على عدم اللّزوم بدون اللّفظ لا على عدم تحقق الملكيّة]1[.
]1[ قد نبّهنا على أنّ السيّد الجدّ استدلّ بوجوه عديدة على لزوم المعاطاة. فراجع.

ثم قال الشيخ: إن إشارة الأخرس تقوم مقام اللّفظ، وهذا هو الصحيح، لأنّ المعاملة مطلقاً أمر يخترعه النفس فيحتاج إلى دالٍّ ولا خصوصيّة للّفظ، والإشارة المفهمة من الأخرس تدلّ على ما في ضميره، ويصدق عليها بالحمل الشائع عنوان البيع وتعمّه العمومات، حتى مع إمكان التوكيل أو الكتابة، فهي تدفع احتمال دخل عدم التمكن منهما. مضافاً إلى ما ورد في طلاق الأخرس بتنقيح المناط.
قال الشيخ:
فإنّ حمله على صورة عجزه عن التوكيل، حمل للمطلق على الفرد النادر… .
وما ذكره هو الصحيح.
وقد اشتملت الروايات على العمل الخارجي ـ وهو اللّف والجذب للقناع ـ ويدلّ ذلك على كفاية العمل الخارجي، وهو ما ذكرنا من لزوم الدالّ، فلا خصوصيّة للإشارة المفهمة كذلك.
قال الشيخ:
ثم لو قلنا: إن الأصل في المعاطاة اللزوم بعد القول بإفادتها الملكيّة، فالقدر المخرج صورة قدرة المتبايعين على مباشرة اللّفظ.
إن كان يريد من المعاطاة كلّ ملكيّة تقع بالفعل في مقابل اللّفظ، بأنْ تكون الإشارة معاطاة مفيدة للملكيّة اللاّزمة. ففيه: إن المعاطاة التي كانت محطّ البحث السّابق، هي ما إذا كان المعطي قاصداً للتمليك بالإعطاء الخارجي، وهنا يكون التمليك بالدالّ عليه.
وإنْ كان يريد منها المعاطاة المصطلحة، بأنْ يعطي الأخرس عملاً وبلا إشارة مفهمة. ففيه: إن الفعل الخارجي قاصر عن إفادة اللّزوم عند المجمعين، وعلى هذا، فلا فرق بين أنْ يكون قادراً على التكلّم أو عاجزاً عنه، وقد أجاد شيخنا الاستاذ في الإشكال على هذا الكلام حيث قال:
«الأخرس كغيره، له عهد مؤكّد وعهد غير مؤكّد، فالتعاطي منه في الخارج فقط كالتعاطي من غيره عهد غير مؤكّد، فله حكمه، والإشارة المفهمة الرافعة للاشتباه منه عهده المؤكّد، كاللّفظ الرافع للاشتباه الذي يتطرّق إلى الفعل نوعاً عهد مؤكد من القادر، فليس مجرّد كون الإشارة فعلاً موجباً لكون معاملة الأخرس معاطاة دائماً، أو أنّ فعله منزّل منزلة القول من غيره دائماً، بل له سنخان من العهد كما في غيره، بلحاظ قوّة الدلالة على مقاصده وضعفها نوعاً»(3).
يعني: إن الفعل مجمل يمكن وقوع الاشتباه فيه، بخلاف اللّفظ، لأن الظهور الإطلاقي فيه حجّة، لأنه كان قادراً على التقييد ولم يقيّد، والإشارة المفهمة بحكم اللّفظ، فإنّ الأخرس قادر على التقييد بالإشارة والمفروض أنه لم يقيّد، فيكون الظهور الإطلاقي لإشارته حجةً كذلك.

(1) حاشية المكاسب 1 / 267268.
(2) مصباح الفقاهة 3 / 710.
(3) حاشية المكاسب 1 / 255256.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *