تلف العوضين
قوله:
إذا عرفت هذا، فاعلم: أن تلف العوضين ملزم إجماعاً ـ على الظّاهر المصرّح به في بعض العبائر. أمّا على القول بالإباحة فواضح، لأنّ تلفه من مال مالكه، ولم يحصل ما يوجب ضمان كلٍّ منهما مال صاحبه. وتوهّم جريان قاعدة الضّمان باليد هنا مندفع بما سيجئ.
أقول:
توضيح كلامه وتقريب مرامه هو: إن سبب الضّمان إمّا الإتلاف أو اليد، أمّا قاعدة الإتلاف ـ من أتلف مال الغير فهو له ضامن ـ فمصطادة من موارد عديدة من الشّريعة، لكنّ كلّ قاعدة مصطادة كذلك، فلابدّ وأنْ يكون لها جهة يشترك فيها جميع الموارد، والجامع بينهما هنا هو عدم وجود الإباحة الشرعيّة، فلو كان الإتلاف من ناحية الإباحة، فلا ضمان، فالإتلاف الذي هو سبب الضّمان يكون حيث لا إباحة، والمفروض هنا وجود إباحة التصرّف شرعاً، فلا تجري القاعدة.
وأمّا قاعدة اليد ـ على اليد ما أخذت حتى تؤدّي ـ فهي موجبة للضّمان عند التلف، فيما لو كان الإنسان مخاطباً بردّ العين حال وجودها، والمتعاطيان لم يكونا مكلَّفين بالأداء، فهما فى حال التلف ليسا بمكلَّفين بأداء المثل أو القيمة. ولذا قال الشيخ: لأنّ تلفه من مال مالكه ولم يحصل ما يوجب ضمان كلٍّ منهما مال صاحبه.
لكن يرد عليه:
أوّلاً: قوله على الإباحة.
فإنّ القول بالإباحة ـ وهو قول المشهور ـ مبنيٌّ على أن المعاطاة بيع فاسد، وسيأتي أن كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، فلماذا قال بعدم الضمان؟
وثانياً: قد تقدّم ـ في الكلام على ما ذهب إليه كاشف الغطاء رحمه اللّه، من أنّ القول بإفادة المعاطاة للإباحة يستلزم تأسيس قواعد جديدة ـ قول الشيخ: بأنه إذا تلف المأخوذ بالمعاطاة نستكشف الملكيّة قبله آنّاًمّا، وعلى ما ذكره هناك، يكون التلف من كلٍّ منهما في ماله، فإذن، لا موضوع للضّمان. فما أفاده هنا ينافي كلامه هناك، ولا طريق للجمع بينهما.
نعم، لو قيل في البحث عن تلك القاعدة، بأنّ الإقدام على الضمان لا يكون سبباً لضمان المثل أو القيمة بتلف العوضين، كان لما ذكره وجه، لكنّه لا يقول بذلك.
قوله:
وأمّا على القول بالملك، فلما عرفت من أصالة اللّزوم، والمتيقَّن من مخالفتها جواز ترادّ العينين، وحيث ارتفع مورد الترادّ امتنع… .
أقول:
إن القدر المتيقَّن من الخروج من الأصل، هو صورة وجود العينين، وأمّا مع تلفهما فالقاعدة محكّمة.
قال بهذا، والحال أن مسلكه أنه لو كان الحكم مترتّباً على عام، ومتعلَّق الحكم أمر زماني ولكنْ كانت حيثيّة الاستمرار الزماني فيه من ناحية الإطلاق، وبعبارة اخرى: الحكم متوجّه إلى المتعلّق الذي له استمرار في الزمان، وكان الزمان ظرفاً للمتعلَّق ـ لا مفرّداً للحكم ـ فلو كان للمتعلّق حكم في زمان على خلاف حكم ذلك العامّ، فإنه مع الشك بعد ذلك الزّمان لا يتمسّك بالعام، فكيف يقول هنا بالتمسّك بالعمومات؟
ولقد تعرّضنا لهذا المطلب في بحوثنا الاصوليّة، ولنا فيه مسلك خاص، توضيحه:
إنه لو قال: «أكرم العلماء» كان ظاهراً في إكرامهم في كلّ زمان وبأنحاء الإكرام، لكنّ هذه الأنحاء غير مأخوذة في اللّفظ، بل هذا الاستمرار مستفاد من الإطلاق، بخلاف ما لو قال: «أكرم العلماء في كلّ يوم»، فإنّ الحكم متوجّه إلى أفراد الإكرام المتعدّدة بعد الأيّام، فإكرام كلّ يوم متعلَّق للإيجاب، فإنْ قال بعد القول المذكور: «لا تكرم زيداً العالم في يوم الجمعة»، فقد أخرج يوم الجمعة وبقي وجوب إكرامه في سائر الأيّام، لأنّ المفروض هو تعدّد الإكرام، ولو شك في وجوب إكرامه في غير الجمعة، تمسّك بالعام بلا كلام.
أمّا لو كان قوله: «لا تكرم زيداً العالم في يوم الجمعة» بعد قوله: «أكرم العلماء» وكان استمرار الإكرام من باب أنّ الزمان ظرف للإكرام، فإنه لا يتمسّك بالعامّ لدى الشك في إكرامه عدا يوم الجمعة، لأن قوله: «يوم الجمعة» ليس مخصّصاً للعموم الأزماني، إذ المفروض أنْ لا عموم أزماني، فلا محالة، يكون «لا تكرم» مخصّصاً لـ«العلماء». فزيد يخرج من تحت العلماء يوم الجمعة، ولا يتمسّك بوجوب الإكرام بالنسبة إلى يوم السّبت مثلاً، بل يستصحب حكم يوم الجمعة.
هذا مسلك الشيخ رحمه اللّه، كما في التنبيه العاشر من تنبيهات الاستصحاب(1) وكذا في خيار الغبن(2).
وفيما نحن فيه، مقتضى الآية المباركة (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) هو الإستمرار الأزماني لوجوب الوفاء، فإذا قام الدّليل على جواز المعاطاة مع وجود العينين، كان مخصّصاً للعموم و دالاًّ على عدم وجوب الوفاء في زمان وجود العينين، فتسقط حينئذ أصالة اللّزوم، ويستصحب حكم المخصّص، وإذا سقطت دلالة الآية، سقط غيرها من الأدلّة بالأولويّة، ولا مجال للإستصحاب، لأنّ الملكيّة السّابقة كانت جائزةً، واستصحاب بقاء هذه الملكيّة لا يفيد اللّزوم.
لكنّ الحقّ ـ كما ذكرنا في الاصول ـ أنّ الزمان في الأدلّة قيد للمتعلَّق، إذ الإكرام إنّما يقع في الزمان، فإذا ورد عام وتعلَّق بحكم كآية الوفاء، كان ظاهراً في الإطلاق بحسب الأزمنة، والزّمان ظرف للوفاء لا للحكم، وإنّما ترفع اليد بقدر المخصّص، وعليه، فالوفاء واجب إلاّ في ظرف وجود العينين.
فما ذهب إليه الشيخ هنا صحيح على هذا المسلك المحقَّق، لا على مسلكه فقهاً واُصولاً، وإنْ اختاره بعض مشايخنا، فإذا تمّ ما ذكرنا في الآية، كان جارياً في غيره من العمومات، لأنّ المخصّص هو الإجماع، وهو دليل لبّي يؤخذ منه بالقدر المتيقَّن، وهو حال وجود العوضين كما ذكر، والمرجع في غيره هو العمومات.
هذا، وقال المحقق الخراساني معلّقاً(3) على قول الشيخ: والمتيقّن من مخالفتها جواز ترادّ العينين، ما ملخّصه: أن المراد ليس انتقال العينين من مكان إلى آخر خارجاً، بل هو الترادّ في الملكيّة، وهو عبارة اُخرى عن حلّ العقد، ولذا قال ابن إدريس: بأنَّ المعاطاة يجوز فيها الفسخ. فالترادّ ملكاً يرادف جواز الفسخ، وحينئذ، يترتّب عليه الرجوع إلى البدل.
وفيه:
أوّلاً: إن كان المراد هو الترادّ في الملكيّة، فهل الموضوع ترادّ طبيعيّ العوضين أو خصوصهما؟ إن كان الأوّل، فالإشكال وارد، لكنّ الموضوع لجواز الترادّ هو العينان بوصف وجودهما الخارجي، وبمجرّد التلف يرتفع موضوع الحكم وبارتفاعه يرتفع الحكم، وحينئذ تتحكّم أدلّة اللزوم.
وثانياً: أنا لو تنزّلنا عن أنّ الموضوع مقيّد بوصف الوجود، فلا أقل من الشكّ.
لكنْ لا يتوهّم دخوله في القسم الثاني من استصحاب الكلّي، بأنْ يكون الجواز مردّداً بين فردين، أحدهما زائل وهو الترادّ المتّصف بالوجود والآخر باق، وهو ترادّ طبيعي العوضين، فيستصحب جواز الترادّ الثابت قبل التلف، فيكون الحق ما ذكره المحقق الخراساني.
إذ فيه: إنه لا مانع من استصحاب الكلّي القسم الثاني في الموضوعات، لكنّه في الأحكام موقوفٌ على إحراز الموضوع، لأن وحدة الموضوع في الإستصحاب شرط، لكنّ الموضوع مشكوك فيه، فلا يجري الاستصحاب، ومن هنا يمكن القول بأنّ الاستصحاب من القسم المذكور منحصرٌ في الموضوعات.
قوله:
ولم يثبت قبل التلف جواز المعاملة على نحو جواز البيع الخياري حتّى يستصحب بعد التلف، لأنّ ذلك الجواز من عوارض العقد لا العوضين، فلا مانع من بقائه… بخلاف ما نحن فيه… .
أقول:
إنّ معنى اللّزوم بعد التلف هو أنْ لا يرجع إلى البدل من المثل أو القيمة، وبيان ذلك:
أمّا على بالإباحة، فإنّ الإباحة على أربعة وجوه:
أمّا على ما ذهب إليه صاحب الجواهر، من أن المتعاطيين يقصدان الإباحة من أوّل الأمر، فلأنه إذا تلف العوضان، فهما تالفان في ملك المالك، فلا تكون يد الآخذ يد ضمان حتى يضمّن بعد التلف بالرجوع إلى البدل، بل اللّزوم حاصل.
وأمّا على ما ذهب إليه الشهيد الثاني ـ وتبعه المحقق الخراساني ـ من أنّ المعاطاة تفيد الملك بشرط تلف العوضين، فإن كان بنحو الشرط المتأخر، فإنه يستكشف منه حصول الملكيّة من أوّل الأمر وأنّ الإباحة كانت ظاهريّةً، وإن كان بنحو الشرط المقارن، بأنْ تحصل الملكيّة مقارنةً للتلف، فالإباحة قبل التلف ثابتة بالدليل الخارجي، أو أن تسليط المعطي فيه إباحة مالكيّة ضمنيّة، فإذا تلفت العين كان التلف واقعاً في ملكه، فلا موضوع للضمان.
وأمّا القول: بأنّ المتعاطيين وإنْ قصدا التمليك لكنّ الشارع لم يمضه وأن البيع فاسد، إلاّ أنّ التسليط اليدي الحاصل يفيد الإباحة المالكيّة الضمنيّة، فالعين غير تالفة في ملك من كانت عنده، بل هي من مال المالك الأوّل، إلاّ أنه لا ضمان، لعدم جريان قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، ووجه عدم الجريان هو: إنّ تلك القاعدة إنما تجري حيث لا إباحة مالكيّة.
وأمّا على القول: بإفادة المعاطاة للإباحة بالتعبّد الشرعي، بأنْ يكون الشّارع متعبّداً بها بعد عدم إمضاء ما قصداه من التمليك، فلا ضمان كذلك، لما أفاده الشيخ سابقاً من أنّ الإجماع على عدم الضمان يكشف عن أنّ الإباحة كانت إلى وقت ما قبل التلف، فإذا حصل تحقّقت الملكيّة، فيكون التلف في الملك، فلا موضوع للضّمان، وعلى فرض عدم قبول ما ذكره، المبنيّ على مقتضى الجمع بين الأدلّة، أمكن القول بأنّ القاعدة المتقدّمة غير جارية هنا كذلك، لأنّها إنما تجري حيث لا إباحة مطلقاً، والمفروض في المقام وجود الإباحة الشرعيّة التعبديّة.
وهذا كلّه بناءً على الإباحة.
وأمّا على الملك، بمعنى أنّ المعاطاة تفيد الملكيّة وقد أمضاها الشّارع، فيكون كلّ واحد مالكاً للعوض الذي يأخذه، مع جواز الترادّ، فقد ذكر الشيخ أنّ جوازه محدود بالإمكان، وهو حيث يكون العوضان موجودين، فعلى هذا، يصحّ التمسّك بأصالة اللّزوم، لأن القدر المتيقن خروجه هو حال وجود العوضين.
وقد أورد عليه بعض الأكابر بوجهين مهمّين:
أحدهما: إنّ أصالة اللّزوم مستندة إلى عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) و«المؤمنون عند شروطهم»، لكنّ زمان وجود العوضين ظرف للحكم لا قيد، وقد قرّر الشيخ أنّ في مثله لا يتمسّك بالعام بل يستصحب حكم الخاص، فالمرجع حينئذ استصحاب جواز الترادّ.
والثاني: إن المراد من الجواز في المعاطاة عبارة عن جواز الرجوع في العوضين، نظير رجوع الواهب في الهبة، فليس جواز الترادّ على نحو جواز الفسخ. هذا ما ذكره الشيخ. فيرد عليه: إن ذلك عبارة اُخرى عن حلّ العقد وفسخه، إذ لا معنى لبقاء العقد بعد استرداد كلٍّ منهما ما أعطاه وإرجاعه إلى ملكه، ولازم انحلال العقد هو الرجوع إلى المثل أو القيمة، فلماذا لا يقول الشيخ بذلك؟
أقول:
إن المعاطاة هي الإعطاء والأخذ، والترادّ عبارة عن الاسترجاع لما اُعطي واُخذ، وجوازه حكم ثابت بالإجماع، فموضوع جواز الترادّ هو استرداد العوضين إلى الملك، ولازم ذلك انحلال العقد، لا أنّ جواز الترادّ عين فسخ العقد وحلّه، ففرقٌ بين فسخ العقد ـ كما في الخيار ـ ولازمه الترادّ، وجواز الترادّ الذي يكون فسخ العقد لازماً له، فهما متغايران متعاكسان. وإذا علمت هذا، فمن الواضح أنّ جواز الترادّ للعوضين إنّما يكون مع وجودهما، فإذا انتفيا فلا حكم بالجواز لعدم بقاء الحكم بعد ارتفاع الموضوع.
وعلى هذا، فلا مجال للبحث عن انحلال العقد، لأنه إنّما كان على أثر جواز الترادّ، وإذ امتنع فلا يبحث عنه، حتى يقال بأنّ لازم الإنحلال هو الرّجوع إلى المثل أو القيمة.
وبما ذكرنا ظهر: أن الشيخ لا يريد التمسّك بالعموم، حتّى يقال بأنّه من التمسّك بالعام بعد انقضاء زمان المخصّص.
فالإشكالان مندفعان.
(1) فرائد الاصول: 395 ط الحجريّة.
(2) المكاسب: 243 ط الشهيدي.
(3) حاشية المكاسب: 22.