التّنبيه الرابع
قال الشيخ قدّس سرّه:
إن أصل المعاطاة ـ وهو إعطاء كلّ منهما الآخر ماله ـ يتصوّر بحسب قصد المتعاطيين على وجوه… .
أقول:
ذكر الشيخ وجوهاً أربعة، إلاّ أن الوجوه بحسب التصوّر أكثر من ذلك:
لأن المعطي، إمّا قاصد للتمليك وإمّا قاصد للإباحة، وعلى كلّ منهما: العوض، إمّا عوض عن المال الذي يملّكه أو يبيحه الطرف، وإمّا عوض عن نفس التمليك أو الإباحة، والأوّل ـ العوض عن المال ـ إمّا هو مال، بأنْ يملّك مالاً عن مال، وإمّا هو فعل من الأفعال.
والعمدة من هذه الوجوه: أن يملك مالاً بعوض، أعمّ من أن يكون العوض مالاً، أو يكون فعلاً كهبة مال، أو يكون إباحةً له في تصرّف له في مال من أمواله.
ونحن نتعرّض لما تعرّض له الشيخ.
ففي الوجه الأوّل، قال الشيخ:
أن يقصد كلٌّ منهما تمليك ماله بمال الآخر، فيكون الآخر في أخذه قابلاً ومتملّكاً بإزاء ما يدفعه، فلا يكون في دفعه العوض إنشاء تمليك بل دفع لما التزمه على نفسه بأزاء ما تملّكه… .
أقول:
يعني: أن تمليكه بعوض إيجاب، وأخذ الطرف قبول وبه يتمّ البيع، وإعطاء الثمن بعد ذلك وفاءٌ لما التزم به على نفسه، فمقوّم البيع المعاطاتي هو الإعطاء والأخذ، ولا دخل لإعطاء المشتري في حقيقة البيع، وعلى هذا، فلو لم يدفع المشتري الثّمن لم يضرّ بمالكيّة البائع، ولو مات الآخذ قبل دفع ماله مات بعد تمام المعاطاة… .
فلو كان الإعطاء الثاني قبولاً، لم تكن المعاملة متحقّقة بامتناع المشتري من ذلك أو موته أو إفلاسه.
وهنا إشكال: إذ التعبير عن الإعطاء والأخذ بالمعاطاة مسامحة عند الشيخ نفسه، إذ تسمية هذه المعاملة بالمعاطاة إنما هو اصطلاح في عرف الفقهاء ـ مع عدم صدق ذلك عليها لغة ـ يريدون به المعاملة الفعليّة في قبال القوليّة، وكأنّ نظره الشّريف إلى ما قرّره النحاة والصرفيّون في هيئة المفاعلة من أنّه: يقتسمان فاعلاً ومفعولاً لفظاً ويشتركان معنىً، هذا هو المشهور بينهم، حتى أنّي أتذكر أنّ الشيخ نجم الأئمة(1) أيضاً موافق على هذا، وهم يقصدون من ذلك: أنّ هيئة فَعَلَ إنما تدلّ على قيام المبدء بفاعله، وهيئة فاعل تدلّ على قيام المبدء باثنين، فنقول: ضارب زيد عمراً، فزيد فاعل وعمر مفعول، لكن هذه الفاعليّة والمفعوليّة صوريّة، أمّا في المعنى فهما شريكان، أي كلّ منهما فاعل ومفعول، في قبال التفاعل حيث نقول: تضارب زيد وعمر، تضارب زيد مع عمرو، تضاربا، إذ لا يقال: ضارب زيد وعمرو، ضارب زيد مع عمرو، ضاربا.
فما ذكره الشيخ قدّس سرّه مبني على هذا المشهور بين الصّرفيين.
لكن الإنصاف: أن الأمر ليس كذلك، ففي الكتاب والسنّة واستعمالات الفصحاء موارد كثيرة قد استعملت فيها هيئة فَاعَلَ في المبدء القائم بواحد فقط، مثل: طالع زيد الكتاب، خاطب زيد القوم، ساعد زيد (كَيْفَ يُواري سَوْأَةَ أَخيهِ)(2) (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثينَ لَيْلَةً)(3) فما ذهب إليه الصرفيّون هنا اشتباه.
نعم، التفاعل يصدر من اثنين، أما المفاعلة: فقيام المبدء بواحد متوجّهاً إلى الغير، فالنسبة قوامها بالاثنين لا أن الفعل يصدر من كليهما.
وتلخّص: إن المعاطاة هنا صادقة حقيقةً لا اصطلاحاً أو مسامحةً.
فالإشكال مندفع.
وأورد الميرزا الاستاذ قدّس سرّه بما هذا شرحه: إن البائع والمشتري كلّ منهما مالك لما بيده، فلما يبيع البائع يبدّل طرف الإضافة في ملكيّته، فتملّكه محفوظ، وإضافة الملكيّة إلى نفسه محفوظة، لكن المتبدّل بالبيع هو طرف الإضافة.
مثلاً: إضافة الملكيّة كانت متعلّقةً بالدار، فالإضافة محفوظة وهو المالك، لكنّ طرف الإضافة، أي الدّار، تبدّل إلى شيء آخر، بخلاف الإرث، فإنّ المتبدّل هناك هو المضاف، والملكيّة والمملوك، محفوظان، وبخلاف الهبة، فإنّ المتبدّل نفس الإضافة، فبالهبة تنقطع الإضافة منه وتتّصل بغيره.
ثم إنّه إن كان البيع لفظيّاً، كان معناه تمليك المتاع بعوض الثمن، فقد بدّل المتاع بالثمن ووضع الثمن في مكان المتاع، فمعنى بعت هذا بذاك: ملّكتك هذا بأن يكون ذاك قائماً مقام هذا في ملكيّتي، فالبائع يورد ملك المشتري في ملكيّته عوضاً عمّا أخرجه… والمشتري إذا قبل، فقد قبل هذا الذي فعله البائع.
وأمّا العمل الخارجي، فهو ليس إلا الإعطاء، ولا يدلّ إلاّ على التسليط الخارجي، ولا يدلّ على غير التمليك، أمّا دلالته على أنّه تمليك في مقابل عوض يقوم مقام هذا المال المعطى، فلا، فكون العوض قائماً مقام الملك لا دليل عليه لفظي، والفعل لا لسان له.
ثمّ الآخذ، إن كان أخذه بقصد جعل العوض قائماً مقام المعوَّض، فلا دليل عليه، وإنْ كان أخذه بقصد ضمان المثل أو القيمة، فهذا قرض، وإن كان أخذ لا بقصد الضمان فهو قبول للهبة، والمفروض أن البائع لا يقصد القرض والهبة.
إذن، الأخذ ليس قبولاً… فيكون الأخذ مقدّمة لإعطاء الثمن، وإعطاء الثمن هو القبول.
إذن، لابدّ من التعاطي من الطرفين، ولا يكفي الإعطاء والأخذ، ولذا، فلو مات ـ مثلاً ـ قبل إعطاء الثمن بطلت المعاملة، خلافاً للشيخ القائل بتحقّقها.
لكنّ الإنصاف: أن الحق مع الشيخ، فالإعطاء إيجاب والأخذ قبول، والمعاطاة صادقة.
أمّا أن الفعل الخارجي ليس له لسان، فهذا متين، والمحقّق خارجاً هو التسليط من البائع، حيث يدخل متاعه في ملك المشتري.
تقولون: أخذه للمتاع ليس بقبول، بل القبول يحصل بأنْ يعطي المشتري الثمن ويدخله في ملك البائع.
نقول: إذا كان إعطاء البائع إيجاباً منه، وأخذ المشتري ليس بقبول، فإنْ أعطى المشتري، فقد ملّك البائع الثمن وهو يملكه بالأخذ، والمفروض أن أخذ البائع الثمن ليس بقبول، فهنا قد تحقق إيجاب من البائع بلا قبول من المشتري، وإيجاب من المشتري بلا قبول من البائع، فهنا إيجابان، وما الدّليل على أنْ يكون إعطاء المشتري قبولاً ولا يكون إيجاباً، مع أن الفعل لا لسان له كما ذكرتم؟
فإن قيل: هنا قرينة على أن إعطاء المشتري قبول، وأن الذي يعطيه عوض عمّا أخذه.
قلنا: نفس القرينة موجودة على أنّ إعطاء البائع للمتاع كان بعنوان المعوَّضيّة عمّا سيعطيه المشتري.
وبالجملة، إذا كان البائع يعطي المتاع بقصد المعوّضيّة عن مال المشتري، والمشتري يأخذ المتاع على ما قصده البائع، فأخذه قبول، وإنْ لم يعط البائع بقصد المعوضيّة، أو كان الأخذ من المشتري لا على ما قصده البائع، فالبيع غير حاصل.
فالحقّ مع الشيخ قدّس سرّه.
وفي الوجه الثاني، قال الشّيخ قدّس سرّه:
أنْ يقصد كلٌّ منهما تمليك الآخر ماله بأزاء تمليك ماله إيّاه، فيكون تمليكاً بأزاء تمليك، فالمقاولة بين التمليكين لا الملكين… .
فقال المحقق الخراساني قدّس سرّه: كأنّ مراد الشّيخ أنْ يملّك المال في مقابل فعل الطّرف الآخر الذي هو عبارة عن التمليك، كما ذكرنا في عمل الحرّ.
لكنّ هذا الاحتمال غير آت في كلام الشيخ، إذ كلامه نصّ صريح في أنه تمليكان، أحدهما بأزاء الآخر.
إنه في هذا الوجه لا يكون أخذ الطرف الآخر قبولاً ـ بخلاف الوجه الأوّل ـ لأنّ تمليك هذا الجانب منوط بتمليك الجانب الآخر، فما لم يملّك ذاك لم يتحقق التمليك من هذا.
قال الشيخ: هذا بعيد عن معنى البيع… .
لأنّ البيع هو ما يكون فيه المقابلة بين الملكين، وليس بهبة معوّضة، إذْ فيها يحصل الملكية للطرف الآخذ بمجرّد الأخذ، وإنما يصدر منه التمليك عوضاً عن تمليك الأوّل، فليس كهبة معاوضة بين التمليكين.
يبقى أنه إمّا مصالحة وإمّا معاوضة مستقلّة.
هذا ملخّص كلامه قدّس سرّه.
وأقول:
تارة: يعطي الشيء بقصد التمليك في مقابل تمليك الآخر الثمن، وتكون المعاوضة بين المتاع والفعل، كما يملَّك المال بأزاء خياطة الآخر للثوب. وأخرى: يملّك مالاً بعوض تمليك الغير، بمعنى أن يكون المال من الغير عوضاً عن تمليك هذا، فلمّا يملّك يجعل فعله ـ وهو التمليك ـ معوّضاً للمال الذي يعطيه الطرف الآخر.
وهاتان الصّورتان خارجتان عن كلام الشيخ، وسنتكلّم عليهما فيما بعد.
وثالثة: يجعل تمليك الغير معوّضاً عن تمليك نفسه، فالعوض والمعوَّض كلاهما هو التمليك.
وهذه هي الصورة التي يقصدها، والبحث فيها في مراحل:
الأولى: هل يعقل جعل التمليك نفسه معوّضاً؟
كأنّ الشيخ فارغ عن إمكان هذا.
والثانية: إنه على تقدير المعقوليّة، هل بأخذ الطرف المقابل يتحقّق القبول أو لابدّ من التمليك الآخر؟
يقول السيّد بالتّحقق خلافاً للشّيخ، والحق مع الشيخ، وما ذكره السيّد سهو من قلمه.
والثالثة: إنه على تقدير الصحّة، هل هو بيع أو هبة معوّضة أو صلح أو معاملة مستقلّة؟
وتفصيل ذلك:
أمّا في المرحلة الاُولى:
فهل المراد من «التمليك» هو المصدر، فالمعنى المصدري هو المجعول معوّضاً عن المعنى المصدري، أو المعنى الاسم مصدري أعني الملكيّتين؟
ظاهر الشيخ الأوّل.
وقال شيخنا الاستاذ: إنه غير معقول، قال: إن التمليك بالإعطاء حال تعلّقه بمتعلَّقه ملحوظ آلي، وفي جعل نفسه معوّضاً يحتاج إلى لحاظ استقلالي، ولا يعقل اجتماع اللّحاظين المتباينين في ملحوظ واحد.
توضيح كلامه قدّس سرّه:
المعاملة تسبيب إلى تحقّق المضمون، أي معوضيّة شيء لشيء، فلا محالة كون الشيء معوّضاً مقصود بالأصالة والاستقلال، والسبب ـ وهو الإنشاء ـ دائماً يصدر بالاختيار وهو مراد، لكنّه في مرحلة التأثير يكون ملحوضاً آلةً للمسبّب، فهو ملحوظ آلةً إلى تحقق شيء آخر، فإذا كان نفس التمليك معوَّضاً، يلزم كونه مقصوداً بالاستقلال وكونه ملحوظاً آلة لكونه سبباً، واجتماع اللّحاظين في آن واحد في شيء واحد محال.
وهذا نظير ما ذكر في الاصول، من عدم معقوليّة استعمال اللّفظ في نفسه، فدائماً المستعمل فيه ملحوظ بالاستقلال، واللّفظ ملحوظ آلياً، فاستعمال اللّفظ في نفسه يستلزم اجتماع اللّحاظين.
فإنْ اُريد من التمليك المعنى الاسم المصدري، يرد عليه ـ مضافاً إلى ما ذكره الشيخ الاستاذ ـ إنه يلزم أن يكون الإنسان مالكاً لملكيّة نفسه، الملكيّة نحو من السّلطنة، ولا معنى لأنْ يكون متسلّطاً على سلطنته[1].
[1] وإليه ذهب المحقق الخوئي إذ قال: وأمّا القسم الثاني ـ أعني به وقوع المبادلة بين التمليكين ـ فلا نعقل له معنىً محصّلاً، بديهة أنّ حقيقة البيع عبارة عن إعدام إضافة مالكية عن كلّ من العوضين وإيجاد إضافة اخرى مالكيّة في كلٍّ منهما، من دون أنْ يلزم منه تبديل سلطنة المالك بسلطنة اخرى، لكي يحتاج إلى وجود سلطنة ثانية، وهكذا حتى يلزم منه التسلسل، وهذا بخلاف مقابلة التمليك بالتمليك، فإنها تحتاج إلى وقوع المقابلة بين السّلطنتين، وهو يحتاج إلى سلطنة اخرى، وهكذا إلى غير النهاية. وإذن، فمقابلة التمليك بالتمليك بعيد عن حدود البيع… .
إلاّ أنه قال بعد ذلك: بإمكان نقل التمليك بإنشاء آخر يتضمّن ذلك، كقوله: ملّكتك تمليكي العين الفلانيّة، أو بأنْ يشترط التمليك في ضمن عقد لازم، بأنْ باع داره من شخص واشترط في ضمن البيع أنْ يملّكه ماله الفلاني، بحيث يكون متعلَّق الشرط نفس التمليك دون المملوك(4).
وهذا غير واضح، لأنه إذا كان التمليك بإزاء التمليك هو المبادلة بين السّلطنتين، وهي مستحيلة، للزوم التسلسل، فهل بوقوعه شرطاً ضمن عقد، يخرجه عن كونه مبادلةً بين سلطنتين ولا يلزم المحذور؟
وأمّا في المرحلة الثانية:
فالحق مع الشيخ خلافاً للسيّد، لأنه بمجرد الأخذ لا يتحقق القبول، لأنه قد أخذ المتاع، والمفروض أنه ليس المعوَّض، بل المعوَّض نفس التمليك. فأخذ المال لا صلة له بأخذ المعوّض، والقبول إنما يكون قبولاً لو أخذ المعوّض.
ثم هل التمليك الثاني قبول التمليك من الأوّل؟
إنّ الثّاني بتمليكه ينشئ، فما يصدر منه إيجاب، فلو كان قبولاً ـ مع ذلك ـ لزم اجتماع الإيجاب والقبول، وهما صفتان متقابلان لا يجتمعان في واحد.
فما ذكره الشيخ لا يوافق عليه.
وهنا يصل البحث إلى:
المرحلة الثالثة:
وقد ظهر أن هذا ليس ببيع، لأن التبديل أو المبادلة بين فعلين لا المالين.
على أنه لم نتمكن من تصوّر الإيجاب والقبول، بل الحاصل إيجابان لتمليكين أو ملكيّتين.
وليس بهبة معوّضة، لما ذكره الشيخ، وهو متين جدّاً، لأنّ الهبة المعوّضة هي أنْ يملّك المال وبمجرّد ذلك تحصل الملكيّة للمتّهب، لكن بشرط ضمنيّ، وهو أن يهب ذاك شيئاً من طرفه، فلو لم يفعل كان له الخيار… وليس ما نحن فيه كذلك، فإنه لا تحصل الملكيّة للطرف بإنشاء هذا للتمليك.
نعم، يقرب من الهبة المعوّضة، من جهة أنّ هنا تمليكين وملكيّتين، والمعاوضة بينهما تنتهي إلى المعاوضة بين المالين.
وليس بصلح، لأن الصّلح عقد إنشائي، فلابدّ من وقوع التصالح والتسالم في حيّز الإنشاء، ولا يكفي مجرّد وقوعه مصداقاً للصّلح، وإلاّ فإنّ الصّلح موجود في جميع المعاوضات.
يبقى أن يكون معاوضة مستقلّة.
فإن شملت العمومات، ولم تكن خاصّة بالمعاملات المتعارفة، فهو، وإلاّ فهي معاملة باطلة.
قال الشيخ:
إلاّ أن يكون تمليك الآخر له ملحوظاً عند تمليك الأوّل على نحو الدّاعي لا العوض، فلا يقدح تخلّفه.
أي: التمليك الأوّل هبة، والطرف يملك بالأخذ، ولا يقدح تخلّفه عن الهبة وعدم حصول الداعي للأوّل إلى التمليك.
وربما يتوّهم: أن تمليك هذا بهذا الدّاعي إنما كان بالنسبة إلى شخص مقيّد بصفة أنه سيملّك ماله، فلو لم يفعل لم يتحقق الموضوع، فتبطل المبادلة.
لكن قد ذكرنا في الاصول مراراً: أن العناوين والأوصاف في القضايا الشخصيّة ليس تخلّفها موجباً للبطلان، نعم، في القضايا الحقيقيّة، الأمر كذلك، لأن القضيّة الحقيقيّة: مجئ الحكم على الكليّ الطبيعي بإضافة صرف الوجود إليه، فما عن أهل المنطق من أنّ القضيّة الحقيقيّة عبارة عن القضيّة التي تتوجه إلى الأفراد المحققة الوجود والمقدّرة الوجود، غير صحيح. بل الواقع ما ذكرناه، والموضوع هو صرف الوجود للكلّي الطبيعي، وصرف الوجود يشمل الأفراد الموجودة فعلاً والأفراد التي ستوجد، فالأفراد الموجودة والمقدّرة ليس الموضوع للحكم، بل هي لازم الموضوع.
ففي القضايا الكليّة، العنوان يوجب رفع الحكم، لكن في القضيّة الخارجيّة يأتي الحكم على الموضوع وهو نفس الذات، والعنوان يكون داعياً فقط، وارتفاعه غير مضرّ، ولذا يوجب الخيار لا البطلان.
وحاصل هذا الوجه: أنْ يملّك بداعي أن يكون تمليكه سبباً لتمليك الغير، فلو لم يملّك الغير لم يضر.
وفي الوجه الثالث قال الشيخ:
أنْ يقصد الأول إباحة ماله بعوض فيقبل الآخر بأخذه إيّاه، فيكون الصّادر من الأوّل الإباحة بالعوض ومن الثاني ـ بقبوله لها ـ التمليك، كما لو صرّح… .
أقول:
جميع ما نتعرّض له في هذه البحوث تعمّ ما لو كان بالمعاطاة أو باللّفظ.
وفي الوجه الرابع، قال الشيخ:
أن يقصد كلّ منهما الإباحة بأزاء إباحة الآخر، فيكون إباحة بأزاء إباحة، أو إباحة بداعي إباحة… .
وذكر الشّيخ في الوجهين الأخيرين إشكالين، الأوّل منهما مشترك بين الوجهين، والثاني مختصّ بالوجه الثالث. قال:
أوّلاً: الإشكال في صحّة إباحة جميع التصرّفات حتّى المتوقفة على ملكيّة المتصرّف… فالظاهر إنها لا تجوز.
أمّا الإشكال الأوّل: فإن إباحة التصرّفات إباحة مطلقة تشمل المتوقفة على الملك كالبيع والعتق والوطي… لا يعقل، لأنّ البيع وغيره ممّا ذكر… لابدّ من أن يكون في الملك… وكأنْ يعطي هذا المال تفريغاً لذمّته من الزكاة، ويجعله هدياً في الحج من قبل نفسه… .
إنّ هذه الإباحة غير جائزة، حتى لو صرّح قائلاً: أبحت لك كلّ تصرّف… نعم، ينفذ فيما عدا التصرفات المتوقفة على الملك… وذلك، لأن الإذن والإباحة من المالك لا يكون مشرّعاً ومجوّزاً لما هو غير جائز شرعاً.
قال:
فإذا كان بيع الإنسان مال غيره لنفسه ـ بأنْ يملك الثمن مع خروج المبيع عن ملك غيره ـ غير معقول كما صرّح به العلاّمة في القواعد فكيف يجوز للمالك أنْ يأذن فيه؟
أقول:
وربما يمكن إقامة البرهان على ما ذكره الشيخ، من أن البيع معاوضة بين المالين، والمعوضيّة والعوضيّة متضائفان، والمتضائفان متكافئان، إذن، لابدّ من أن يكونا في جهة واحدة.
أو يقال: إن مبادلة مال بمال لابدّ وأن تكون في وعاء الإباحة، والإباحة لا تفيد الملكيّة، فكيف تكون الملكيّة بالنسبة إلى المثمن للمبيح المالك، وتكون الملكيّة بالنسبة إلى الثمن للمباح له؟
وأيضاً: مقتضى: لا بيع إلا في ملك، هو أنّ من ليس بمالك للشيء فلا بيع له.
إذن، مجرّد إباحة التصرّفات لا يشمل البيع وتملّك الثمن، وكذلك في الثمن، فالأخبار كثيرة يجمعها إنه: لا عتق إلاّ في ملك، والمباح له ليس بمالك، وتصرّفه بعتق الرّق لا معنى له، وكذلك في الزكاة، فإنه يعتبر أن يعطي الإنسان ما يملكه زكاةً عن نفسه.
أقول:
كلّ هذا يصحّ فيما لو كان معنى المبادلة ما ذكر.
أمّا لو قلنا: بأن معنى: البيع مبادلة مال بمال: هو أن البيع لا يتحقق إلاّ بالمعاوضة، فلا يتحقّق مجاناً. أمّا اعتبار دخول الثمن في كيس من خرج المثمن من كيسه فمن أين؟ إنّه لا دليل على دخول الثمن في ملك من خرج المثمن من ملكه.
وأيضاً: عنوان التضائف بين المعوّض والعوض موجود، وهو يتحقّق حتى لو لم تكن العوضيّة والمعاوضيّة في جهة الملكيّة، ولا دليل على أن يكون ذلك في جهة الملكيّة خاصّة. وبعبارة اخرى: العنوان يصدق حتى لو لم يدخل العوض في كيس من خرج المعوّض من كيسه، كأنْ يعطي الإنسان شيئاً من النقود لشخص من غير أن يملّكه إياه فيقول له: اشتر به خبزاً لنفسك وكُله، فهذا صحيح لا مانع منه.
وفي المضاربة، يعطي المالك النقود للعامل ليشتري بها كذا، وتكون له حصّة من الرّبح، فلا يقول له: هذه النقود ملك لي واشتر بها كذا وبعه والرّبح لي، ولك كذا عوضاً عن عملك، وإنما يقول له من أوّل الأمر: بع مالي والحصّة من الرّبح تنعقد من الأوّل في ملكك.
فهذا كلّه صحيح عندنا، خلافاً للشيخ تبعاً للقواعد.
نعم، هو بناءً على مبنى شيخنا الميرزا ـ في حقيقة البيع ـ غير معقول، ولكنْ قد تقدّم في محلّه ما في هذا المبنى.
وعلى كلّ حال، فالكلام فعلاً في مقام الثبوت، والمقصود أنّه لا مانع من تحقّق البيع من غير دخول العوض في كيس من خرج المعوّض من كيسه، وأمّا في مقام الإثبات، فيكفي عمومات (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) و(أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)و«المؤمنون عند شروطهم».
وقد تقدّم الإشكال الأوّل المشترك بين الوجهين الثالث والرّابع.
قوله:
نعم، يصحُّ ذلك بأحد وجهين، كلاهما في المقام مفقود:
أحدهما: أن يقصد المبيح بقوله: أبحت لك أنْ تبيع مالي لنفسك، أنْ يُنشأ توكيلاً في بيع ماله… كما صرّح في التذكرة… فيكون هذا بيعاً ضمنيّاً… .
أقول:
إنّ إباحة التصرّفات حتى المتوقّفة على الملك، موقوفة على تحقّق موضوع الملك، وتحقق الملكيّة إمّا هو: بنحو الضمنيّة أو التقييد أو الملازمة، فالموضوع لابدّ من تحقّقه بأحد الأنحاء بعد أنْ لم يكن بالصّراحة.
أمّا النحو الأوّل، فهو حيث تكون دلالة الإقتضاء ـ أي: ما يتوقّف عليه صحّة كلام المتكلّم ـ متحقّقةً، مثلاً: يقول علماء النحو بأنّ الفعل المسند إنْ لم يكن قابلاً للتعلّق بالمسند إليه، فلابدّ من أنْ يكون هناك مسند إليه مقدّر في الكلام، كما في قوله تعالى (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(5) فإن التقدير: أهل القرية، إذ يتوقّف صحّة الكلام على تقدير هذا المضاف وإلاّ لم يصح. وفي الأمثلة الشّرعية تقول: أعتق عبدك عنّي، فإنّ العتق يتوقّف على الملك، ولا يمكن عتق العبد حالكونه مضافاً إلى كاف الخطاب، فلابدّ من التقدير، وكذا في: إذبح غنمي هدياً لنفسك، مع اشتراط كون الهدي في الملك، فإنّ معنى ذلك: ملّكه لي ثم أعتقه عنّي، وملّكه لنفسك ثم اذبحه. إذنْ، فالملكيّة الضمنيّة متحقّقة بدلالة الاقتضاء في المثالين، بلحاظ الكبريات الكليّة الدالّة على أنّ هذه التصرّفات يجب أنْ تكون في الملك، فهي تكشف عن أن المراد من مثل العبارة المذكورة هو التمليك ثمّ العتق، أو التملّك ثم البيع، كما لو قال: بع مالي لنفسك.
وفيما نحن فيه، لا ريب في أنّه لمّا يقول: أبحت لك كلّ تصرّف، لا يقصد التمليك والتملّك، وإنما يريد بهذه العبارة إباحة التصرّفات حتّى المتوقّفة على الملك.
فالملكيّة الضّمنيّة غير حاصلة[2].
[2] خلافاً للمحقّق الإيرواني الذي أصرّ على إمكان ذلك، قال: «ويندفع هذا الإشكال بتفسير المالكيّة وشرح معنى إذن المالك في التصرف في ملكه، فنقول: معنى قول المالك: أبحت لك التصرّف في مالي، هو رفعت المنع الشرعي عنك، برفعي لما هو الموضوع في هذا المنع، وهو عدم رضاي بالتصرّف، وقلب عدم رضاي برضاي، فتكون إباحة المالكيّة، فإذا فرضنا أن إباحة المالك هذه اختصّت بالتصرّفات غير الموقوفة على الملك، الكافي فيها إذن المالك، كفى في تسويغ تلك التصرّفات شرعاً هذه الإباحة، إذْ ليس موضع ذاك إلاّ هذا. وأمّا إذا عمّت كلّ التصرّفات حتى المتوقّفة منها على الملك، لم تكن رخصته المالكيّة مسوّغاً لتلك التصرّفات، إذ كان موضوع جواز تلك التصرّفات شرعاً هو الملك، فإذا حصل جازت وإلاّ لم تجز، فلا جرم كانت إباحتها متضمّنة لأمر آخر، وهو جعل موضوع تلك التصرفات، أعني التمليك فكما أنّ أعتق عبدي عنك، متضمّن للتمليك وتمليك بعبارة الإذن في العتق، كذلك: أبحت لك عتق عبدي، ووطي جاريتي، وبيع داري، ووقف حمّامي، تمليك بعبارة الإذن في التصرّف، ومثله لفظ عام اندرج فيه كلّ المذكورات، فما وجه الإشكال في هذه وعدم في أعتق عبدي عنك، بل بالنسبة إلى إباحة العتق في المقام ومثال الإذن في العتق واحد لا يختلفان… .
ثمّ إنّ ما قلناه من التمليك الضّمني، لا يتوقّف على الإلتفات إلى توقّف التصرّفات المأذون فيها على الملك، بل التمليك الضّمني حاصل ولو مع الجهل بذلك التوقّف، كما أنّ الإذن في الشيء إذنٌ في لوازمه على سبيل الإجمال وإنْ جهل بلوازمه، بل جهل بوجود اللاّزم له. نعم، مع اعتقاد العدم وأنه لا لازم له، يشكل كونه إذاً فيه.
هذا كلّه في تصوير الجعل المالكي للملكيّة جعلاً ضمنيّاً مضمراً في عبارة: أبحت لك كلّ التصرّفات.
ولنا أن نلتزم بالجعل التعبّدي الشرعي أيضاً، بيانه: إنّ دليل السّلطنة بعمومه وشموله لكلّ تصرّف، يقتضي جواز إذن المالك في التصرّفات المتوقفة على الملك، ولا مانع من الأخذ بهذا العموم سوى دليل توقف تلك التصرّفات على الملك، وهذا لا يصلح أن يكون مانعاً من الأخذ بهذا العموم، بل يؤخذ بالعمومين ويستكشف حصول الملك الشرعيّ التعبّدي في موضوع إذن المالك في تلك التصرّفات، وإنْ لم يخطر ببال المالك ولا قصده، وكلّ دليلين كانا كذلك، بأنْ أمكن الأخذ بعمومها وإنْ لزم من الأخذ بعمومها استكشاف أمر آخر، اُخذ بعمومها واستكشف ذلك الأمر…»(6).
وفيه: كما ذكر الشيخ وأوضحه السيّد الجدّ: إنه لا سبيل إلى الالتزام بالتمليك الضمني إلاّ دلالة الاقتضاء، وهي متوقّفة على أنْ يكون المبيح ملتفتاً إلى توقّف العتق على الملك، وأنْ يكون متعبّداً بالحكم الشّرعي، وإلاّ فلا دليل على ترتّب الأثر على تمليكه، وقوله: التمليك الضّمني لا يتوقّف على الالتفات… غريب، لأنّ التمليك أمر قصدي وفعل اعتباري اختياري، فهو متوقف على الالتفات ولو ارتكازاً، وكيف يعقل الالتزام بلوازم الشيء مع عدم الالتفات المطلق؟
وأمّا قوله: ولنا أنْ نلتزم بالجعل التعبّدي الشرعي… .
ففيه: إن هذا مبنيٌّ على عدم تقدّم: «لا عتق إلاّ في ملك» ونحوه على «الناس مسلّطون على أموالهم» بالحكومة، وهو أوّل الكلام، وعلى فرض عدم الحكومة، فلا يخلو حديث السّلطنة، عن أن يكون مطلقاً أوْ لا يكون، أمّا إنْ كان مطلقاً، فلا حاجة إلى إثبات الملكيّة الشرعيّة بالاستكشاف، وإنْ لم يكن مطلقاً، فهو من أوّل الأمر محدوداً، ويكون «لا عتق إلاّ في ملك» هو المحكَّم، وحينئذ، لا تعارض بينهما أصلاً.
قوله:
الثاني: أنْ يدلّ دليلٌ على حصول الملكيّة للمباح له بمجرّد الإباحة، فيكون كاشفاً عن ثبوت الملك له عند إرادة البيع آناًمّا… فيكون ذلك شبه دخول العمودين في ملك الشخص… وهذا الوجه مفقود فيما نحن فيه… .
أقول:
أمّا النحو الثاني، مثل: الرجل لا يملك عموديه وإنما يعتقان عليه، ومن ناحية اخرى: يدلّ الدليل على أنّ المبيع يدخل في ملكه في مقابل الثمن الذي يدفعه، ومقتضى الجمع بين الدّليلين حصول الملكيّة التقديريّة، فالشارع اعتبر هناك ملكيّةً آنّاًمّا، ثم يحصل العتق في الملك.
وهنا لا يوجد هكذا دلالة، لأنه لا يوجد دليل خاصّ يتعبّد الشارع به كما جاء في: أنّ الإنسان لا يملك عموديه، فهو لمّا يقول: قد أبحت لك كلّ تصرّف، الظّاهر في العموم ليشمل المتوقّفة على الملك، لا يوجد دليل على أنّ تلك التصرّفات تجوز بنفس هذه الإباحة.
فإنْ قلت: إنّ عموم قوله: «الناس مسلّطون على أموالهم» معناه: أنّ لهم أنْ يفعلوا فيها ما يشاؤون، ومن ذلك الإباحة للغير في أنْ يتصرَّف في ماله التصرّف الموقوف على الملك، فالعموم يشمل هذا، ومن ناحية اُخرى: ظاهر «لا بيع إلاّ في ملك» هو أنّ التصرّف البيعي غير جائز، لتوقّفه على الملك، والمفروض انتفاؤه، ومقتضى الجمع بين الدليلين تقدير الملكيّة آناًمّا. فإذن، لا حاجة إلى دليل خاصّ، لأنّ مقتضى الجمع بين العمومين المذكورين هو مفاد الدّليل الخاصّ.
قلت: النسبة بين الدليلين هو العموم من وجه، لأنّ حديث السّلطنة يشمل التصرّفات المتوقفة على الملك، و«لا بيع إلاّ في ملك» يشمل المباح والمملوك، لكنّ دليل السّلطنة قد جاء ليجعلها على الأموال المضافة إضافةً ملكيّة، مضافاً إلى أنه إنما يجوّز السّلطنة المشروعة دون غيرها وإلاّ لزم التناقض، فلا محالة، يكون دليل «لا بيع إلاّ في ملك» حاكماً في مادّة الاجتماع، والحاكم مقدّم على المحكوم، إذن، فدليل السّلطنة غير شامل لا بالتخصيص بل بالمحكوميّة، فيكون باقياً على عمومه في قدره، أي في التصرّفات المشروعة.
والحاصل، إنه ببرهان لزوم التناقض، يكون مفاد قاعدة السّلطنة محدوداً من أوّل الأمر بالتسلّط المشروع على الأموال، ودليل: «لا بيع إلاّ في ملك» يقول: لا تسلّط للمالك على ماله في الإذن لغيره بالتصرّف فيه التصرّف الموقوف على الملك، فإنه غير مشروع.
إذن، لا معنى للملكيّة التقديريّة.
وأمّا النحو الثالث، بأنْ تستكشف الملكيّة إنّاً، كما لو باع ذو الخيار في زمن الخيار المال المنتقل عنه، أو باع الواهب المال الموهوب إلى غير ذي رحم، فإنّه من صحّة البيع يستكشف إنّاً تحقّق الملكيّة بالرجوع عن الهبة قبل البيع من الواهب، وذو الخيار له الملكيّة بأخذه بالخيار، ففي آن واحد يملك ويبيع ولا إشكال فيه، لأنّ العلّة والمعلول يكونان في آن واحد، لكنَّ هذا موقوف على أنْ يقصد الواهب الرجوع، لأنّ الرجوع يحتاج إلى القصد، وكذا الفسخ من ذي الخيار، وإنما يكون بالرجوع والفسخ صحيحاً، لأنّ إنشاء أحد الضدّين رافع للضدّ الآخر، فهو لمّا ينشئ الملكيّة للأجنبي ـ وهي مضادّة لملكيّة المتّهب ـ يكون راجعاً في هبته، وكذا في فسخ ذي الخيار، ولا حاجة في إنشاء الفسخ والرجوع إلى أزيد من ذلك.
هذا شرح كلام الشيخ قدّس سرّه.
ونحن قد تكلّمنا على أصل الإشكال، وهو عندنا منحلٌّ على مختارنا في حقيقة البيع، ومعنى: «لا بيع إلاّ في ملك».
وهذا تمام الكلام على الإشكال الأوّل.
قوله:
وثانياً: الإشكال في صحّة الإباحة بالعوض، الراجعة إلى عقد مركّب من إباحة وتمليك.
أقول:
الإشكال الثاني:
هو الإشكال في صحّة الإباحة بالعوض، الرّاجعة إلى عقد مركّب من إباحة وتمليك. وهنا بحوث في جهات أربع:
1 ـ هل هذا بيع أو إجارة أو عارية أو صلح، أو هي معاملة مستقلّة؟
2 ـ الإباحة المعوّضة صحيحة أو فاسدة؟
3 ـ وعلى تقدير الصحّة، هل هي لازمة أو جائزة؟
4 ـ وعلى تقدير اللّزوم، هل هو لزوم تكليفيّ أو وضعيّ؟
الجهة الاُولى:
هذه المعاملة ليست ببيع، لأنّ البيع: تمليك مال بعوض، لا مبادلة مال بمال بنحو الإطلاق وهي ليست بالإجارة، بناءً على المشهور في تعريفها، من أنّها تمليك المنفعة بعوض، لأن هذه إباحة وإذنْ في التصرّف والانتفاع لا تمليك للمنفعة.
وهي ليست بعارية، إذ العارية تمليك الانتفاع، وهنا لا يوجد إلاّ الإذن والترخيص، فهو لا يُوجد للطرف استحقاق الانتفاع ولا تمليكه.
قوله:
… إلاّ أن يكون نوعاً من الصّلح، لمناسبة له لغةً، لأنّه في معنى التسالم على أمر بناءً على أنّه لا يشترط فيه لفظ الصّلح كما يستفاد من بعض الأخبار… .
أقول:
والمختار عند الشيخ أن هذه المعاملة صلح، بالنظر إلى صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام:
«في رجلين، كان لكلّ واحد منهما طعام عند صاحبه، ولا يدري كلّ واحد منهما كم له عند صاحبه، فقال كلّ واحد منهما لصاحبه: لك ما عندك ولي ما عندي. فقال: لا بأس بذلك إذا تراضيا وطابت أنفسهما»(7).
قال بعض الأكابر: الصّلح عقد من العقود، وكلّ عقد فهو يحتاج إلى الإنشاء، فلابدّ من انشاء مفهوم التصالح والتسالم. وقوله: لك ما عندك ولي ما عندي، ليس بانشاء للصّلح(8).
والظاهر أنه سهو، فإنّ هذه الجملة كناية، فهما يذكران اللاّزم ويريدان الملزوم، فينشآن مفهوم التصالح والتسالم بنحو الكناية، ولا بأس بذلك، إذْ لا يعتبر في العقود الصَّراحة في اللّفظ بل المعتبر صراحة المعنى.
أقول:
إنما الإشكال في أنه لماذا نجعل الإباحة المعوّضة صلحاً؟ فإنه يأذن بالتصرّف في مقابل عوض، ولا دلالة فيه، لا بالصّراحة ولا بالكناية، على إنشاء مفهوم التصالح، فبين الصّحيحة وما نحن فيه فرق واضح.
فالحق: أنها معاملة مستقلّة.
الجهة الثانية:
إنه على تقدير كونها مصالحة، فمقتضى أدلّة الصّلح هو الصحّة، وأمّا بناءً على أنها معاملة مستقلّة، فقد استدلّ الشيخ بعموم قاعدة السّلطنة و«المؤمنون عند شروطهم» وهو غير موافق على الاستدلال بآية التجارة، لعدم صدق عنوان التجارة على هذا.
قوله:
ولو كانت معاملة مستقلّة، كفى فيها عموم: النّاس… والمؤمنون… .
أقول:
مقتضى دليل السّلطنة أن المبيح له على السّلطنة على ماله، فله أنْ يرخّص الطرف في التصرّف في ماله في مقابل العوض، فالعموم يشمل ما نحن فيه.
وربما يتوهّم: أن الشيخ قد منع من الاستدلال بحديث السّلطنة في صحّة المعاطاة وعدم شرطيّة الإيجاب والقبول اللّفظيّين، فكيف يوافق هنا على الاستدلال به؟
والإنصاف: أنه غفلة عن كلام الشيخ، فهو هناك قال: بأن دليل السّلطنة يشمل كلّ نوع من أنواع التصرّف يشك في كونه نافذاً أوْلا، وأمّا حيث نعلم بأنه نوع قد أنفذه الشّارع ثم شككنا في اعتبار اللّفظ وعدم اعتباره، فإنه لا وجه للتمسّك بالدليل لنفي الشرطيّة.
وفيما نحن فيه: المشكوك فيه هو نفوذ هذا التصرّف وعدم نفوذه، فلا مانع من التمسّك به.
وربما يتوهّم: أن الشّرط عبارة عن الإلزام والإلتزام في ضمن شيء، وليس الإباحة في مقابل العوض كذلك، فلا وجه للتمسّك بـ«المؤمنون عند شروطهم».
وفيه: إنّ المراد من الإلزام والالتزام هو الإرتباط، وإباحة هذا مرتبطة بتمليك الطرف للعوض.
أقول:
بل لا يبعد صدق «التجارة» هنا أيضاً، وإنْ استشكل الشيخ، لأن التجارة هي الاسترباح، وهو هنا حاصل[3].
وتلخّص: صحّة هذه المعاملة المستقلّة على المختار.
[3] قال الراغب: التجارة التصرّف في رأس المال طلباً للرّبح(9)، وظاهره أنها أعمّ من البيع، وهو ظاهر الكتاب إذ جاء فيه: (رِجالٌ لا تُلْهيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ)(10)، إلاّ أنّ الكلام في صدق «التصرّف في رأس المال» على مثل ما نحن فيه؟
الجهة الثالثة:
بناءً على الصحّة، هل هي لازمة أو جائزة؟ وبناءً على الأوّل، هل اللّزوم مطلقاً أو من طرف المباح له فقط؟
قوله:
وعلى تقدير الصحّة ففي لزومها مطلقاً… أو من طرف المباح له… أو جوازها مطلقاً؟ وجوه، أقواها أوّلها ثمّ أوسطها.
أقول:
دليل القول باللّزوم مطلقاً: قوله صلّى اللّه عليه وآله: «المؤمنون عند شروطهم»، فكأنّه قد اعتبر ثباتهم على شروطهم والتزاماتهم، و«الشرط» يصدق مع كون طرف إباحةً والآخر تمليكاً، قال: هو الأقوى.
ودليل اللّزوم للمباح له دون المبيح هو: إن المال المباح باق على ملك المبيح، فبمقتضى دليل السّلطنة له أنْ يسترجعه، وأمّا المباح له الذي ملّك، فقد خرج المال عن ملكه وليس مضافاً إليه.
وقد اختار الشيخ هذا الوجه بعد ذاك، وكأنّ نظره إلى أنّ دليل السّلطنة عام، وفي مقابله: «المؤمنون عند شروطهم»، فيقع التعارض بينهما بنحو العموم من وجه، ففي الإباحة المعوّضة مقتضى: المؤمنون… هو اللّزوم من الطّرفين، لكن عموم: «الناس مسلّطون…» يقتضي عدمه من طرف المبيح، فيتعارضان في مادّة الاجتماع هذه ويتساقطان.
أقول:
أوّلاً: حديث «الناس مسلّطون…» إنما يجري في موضوع يراد إيجاده وهو قابلٌ لأنْ يرجع، أمّا لو أوجد شيئاً بسلطنته وحكم على ذلك الشيء باللّزوم، فلا معنى للرّجوع فيه أخذاً بالقاعدة، حتى يكون معارضاً للحكم المترتّب على الموضوع الذي وجد بواسطتها، وإلاّ يلزم أنْ يكون الشيء سبباً لعدم نفسه، أو يلزم من وجوده عدمه.
لقد أثبتا بقاعدة السّلطنة أنّ له أنْ يوجد الإباحة المعوّضة، وهي محكومة باللّزوم بمقتضى «المؤمنون عند شروطهم». وحينئذ، لا يمكن أنْ يكون حديث السّلطنة معارضاً له.
وثانياً: سلّمنا أنهما يتعارضان ويتساقطان، لكنّ المرجع حينئذ هو عموم أدلّة الوفاء بالعقود، كالآية المباركة (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(11) فإنّها بعمومها الاستغراقي شاملة للإباحة المعوّضة، وهي تدلّ على الصحّة واللّزوم من الطرفين معاً.
فالصّحيح هو: اللّزوم من الطرفين، بمقتضى الآية والحديث: المؤمنون…
ثم إنّ الشيخ بعد أنْ استدلّ بما تقدَّم لِما ذهب إليه من الصّلح، قال:
ونحوه ما ورد في مصالحة الزوجين
يريد الخبر عن الحلبي عن أبي عبداللّه عليه السّلام: «سألته عن قول اللّه عزّ وجلّ (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزًا أَوْ إِعْراضًا) فقال عليه السّلام: هي المرأة تكون عند الرجل فيكرهها فيقول لها: إنّي اُريد أنْ اُطلّقك، فتقول له: لا تفعل، إني أكره أن تشمت بي، ولكن انظر في ليلتي، فاصنع بها ما شئت، وما كان سوى ذلك من شيء فهو لك، ودعني على حالتي، فهو قوله تعالى: (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحًا) وهذا هو الصّلح»(12).
فقد اُطلق «الصّلح» على تنازل المرأة عن حقوقها في مقابل رفع الرجل يده عمّا أراده.
أقول:
إن ما ذكرناه في الصحيحة السابقة آت هنا، فإن «اصنع ما شئت و دعني على حالتي» هو إنشاء للتصالح.
وفيما نحن فيه: إنّ الذي أنشأه هو الإباحة والتّرخيص، ولا يمكن أنْ يكون مصداقاً للصّلح، والصّلح أمر إنشائي، فلابدّ من الإنشاء الدالّ عليه بالمطابقة أو بالالتزام.
وبالجملة، فإنها معاملة مستقلّة صحيحة ولازمة من الطّرفين كما تقدم.
الجهة الرابعة:
هل اللّزوم تكليفي، أي يجب عليه البقاء على الإباحة ويحرم الرجوع، أو وضعي، بمعنى عدم الأثر للرجوع؟
ولم يتعرّض الشّيخ وغيره لهذه الجهة.
ربما يقال: لا معنى للّزوم الوضعي في الإباحة المعوّضة، لأنّ الإباحة ترخيص، فله الرجوع، فيكون الحكم تكليفيّاً، فإنْ خالف ورجع لم يكن للمباح له التصرّف، إذ «لا يحلّ مال امرئ إلاّ بطيب نفسه»(13).
لكنّ الظاهر: إن هذه الإباحة عقديّة وليست مجرّد الترخيص، وحينئذ، فللحكم الوضعي مجال، أي: لا يمكنه الرجوع والفسخ، ولا أثر لذلك، لفرض كونه معاملةً لازمةً، كما تقرّر في الجهة السّابقة.
وتوضيحه: إنه إذا قال: أبحت لك التصرّف بالعوض، فهل يكون العوض في مقابل الإباحة أو التصرّف من نفسه أو غيره في مال المبيح؟ وعلى الثاني، هل المراد هو التصرّف الخارجي أو إمكان التصرّف؟ وعلى الأوّل، هل المراد إباحة التصرّف في الجهة، بأنْ يكون له الرجوع متى ما أراد، أو إباحة التصرّف مادامت العين باقيةً في ملكه، فله أن يبيع الشيء ـ مثلاً ـ فينتفي الموضوع، أو إباحة التصرّف مادامت العين باقيةً في الخارج؟
وأيضاً: التصرّفات تارةً: متلفة للعين، كأنْ يباح أكله أو شربه بعوض ـ كما هو الحال في المطاعم ـ أو صرف الماء بعوض كما هو الحال في الحمّامات، وأخرى: غير متلفة لها، كما يباح الجلوس على الفرش والسكنى في الدّار بالعوض.
وهذه الصّور تختلف من حيث التكليف والوضع، وتختلف أيضاً من حيث الآثار الخارجيّة. فمثلاً: لو لم يأكل الطعام في المطعم بعد أنْ اُبيح له الأكل بالعوض، لم يطالب بشيء، أما لو لم يسكن في الغرفة بعد أنْ اُبيح له السّكن فيها بعوض، فإنّه يطالب بالعوض المعيَّن.
لا يبعد أن يقال: بأنه إنْ كان العوض في مقابل نفس الإباحة، فاللّزوم تكليفي، فللرّجوع أثر وإنْ عصى، إذْ ليس هناك شيء إلاّ فعله وهو الإباحة. وإنْ كان في مقابل التصرّف المرخَّص فيه، فاللّزوم وضعي.
فالأمر يختلف باختلاف الصّور. فليتأمّل.
ولو استأجر الغرفة بعوض معيَّن لكلّ ليلة، فالمشهور على بطلان هذه الإجارة، للجهل بالمدّة، إنّما الكلام في حكم اللّيلة الاولى، فقال العلاّمة بالصحّة فيها. وكيف كان، فإنّه بالنسبة إلى ما عدا اللّيلة الأولى إباحة بالعوض، فإنْ كان العوض في مقابل التصرّف الخارجي، لم يكن عليه شيء إنْ لم يسكن في الغرفة، وإنْ كان في مقابل إمكان التصرّف الخارجي، فالعوض واجب.
قوله:
وأمّا حكم الإباحة بالإباحة، فالإشكال فيه أيضاً يظهر مما ذكرنا في سابقه، والأقوى فيها أيضاً الصحّة واللّزوم، للعموم، أو الجواز من الطرفين لأصالة التسلّط.
أقول:
يعني: إنه لا ينطبق عليه عنوان من عناوين المعاملات إلاّ الصّلح.
وفيه: إن الصّلح العقدي هو ما لو أنشأ مفهوم التسالم، وكونه مصداقاً للتسالم لا يجعله عقد صلح.
فهي معاملة مستقلّة، وصحيحة، للعمومات.
أمّا اللّزوم، فقد اختاره الشيخ، لكنّه جوّز الجواز من الطرفين أيضاً.
دليل اللّزوم هو: عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) و«المؤمنون عند شروطهم».
ودليل الجواز من الطرفين هو: أصالة السلطنة، وهو للطرفين لا لطرف دون آخر، كما في الفرع السابق، إذ كلاهما مبيح.
لكن المختار هو: اللّزوم من الطرفين.
(1) هو الشيخ رضيّ الدين محمّد بن الحسن الاسترآبادي الإمامي، المتوفّى سنة 686، الملقّب بـ«نجم الأئمّة» كما في كتاب (بغية الوعاة في طبقات اللّغويين والنحاة) للحافظ جلال الدين السّيوطي، له شرح الكافية في النحو، وشرح الشّافية في الصّرف، انظر كلامه في شرح الشّافية 1 / 96 ـ 104، الطبعة المحقّقة الحديثة.
(2) سورة المائدة: 31.
(3) سورة الأعراف: 142.
(4) مصباح الفقاهة 1 / 178.
(5) سورة يوسف: 82 .
(6) حاشية المكاسب: 84 ـ 85 .
(7) وسائل الشيعة 18 / 445، الباب 5 من أبواب كتاب الصّلح، الرقم: 1.
(8) المكاسب والبيع 1 / 218.
(9) المفردات في غريب القرآن: 73.
(10) سورة النور: 37.
(11) سورة المائدة: 1.
(12) وسائل الشيعة 21 / 349 ـ 350، الباب 11 من أبواب القسْم والنشوز، الرقم: 1.
(13) تقدم في الكتاب بألفاظه.