الاستدلال للّزوم بالأصل
قوله:
بناءً على أصالة اللّزوم في الملك، للشك في زواله بمجرّد رجوع مالكه الأصلي، ودعوى أنّ الثابت هو الملك المشترك… بل ربما يزاد استصحاب بقاء علقة المالك الأوّل، مدفوعة. مضافاً إلى إمكان دعوى كفاية تحقق القدر المشترك في الاستصحاب ـ فتأمّل ـ بأن: انقسام الملك إلى المتزلزل والمستقر ليس باعتبار اختلاف في حقيقته، وإنما هو باعتبار حكم الشارع عليه… .
أقول:
قد استدلّ رحمه اللّه بأصالة اللّزوم، لأنه مع رجوع المعطي يشكّ في زوال الملكيّة الحاصلة بالمعاطاة للمتعاطي، فيستصحب بقاؤها وعدم زوالها برجوع المالك الأوّل.
ثم أشكل على هذا الاستدلال: بأنّ الملكيّة الثابتة كانت ـ على الفرض ـ مردّدةً بين الملكيّة اللاّزمة والجائزة، فإن كانت الملكيّة اللاّزمة المستقرّة، فحدوثها مشكوك فيه، وإنْ كانت الحادثة بالمعاطاة فارتفاعها بالرجوع متيقَّن، فلا يوجد شيء متيقَّن به مشكوك في بقائه، فلا ينفع الإستصحاب.
قال: بل ربما يزاد… لأنّا نشكّ بأن علقة الملكيّة الثابتة للمالك الأوّل قبل المعاطاة هل زالت بالكليّة أوْلا، فإن كانت زائلة فالملكيّة الحاصلة للمتعاطي مستقرّة، وإلاّ كان له استرداد ما أعطاه، فإذا استصحب بقاء العلقة تعبّدنا بأنّ رجوعه يؤثّر في زوال ملكيّة المتعاطي، وبه يرتفع الشكّ في ناحية ملكيّة الطرف الآخر بعد رجوع المالك، وإذا جرى الإستصحاب فيه، تقدَّم بالحكومة على استصحاب بقاء ملكيّة المتعاطي، لأن الشك في بقاء ملكيّته بعد رجوع المالك، مسبّب عن الشكّ في بقاء علقة المالك، وقد تقرّر تقدّم الأصل السبّبي على الأصل المسبّبي.
والشيخ لم يُجب عن هذه الزيادة، ولا يبعد أنه لوضوح بطلان استصحاب علقة المالك الأوّل، لأنّ العلقة المتصوّرة عبارة إمّا عن الملكيّة نفسها أو العلقة التي هي من آثار الملكيّة أي السيطرة والسّلطنة، أو أن للملكيّة مراتب، فيحتمل بقاء بعضها بعد المعاطاة، ولا رابع، فهل المراد من العلقة نفس الملكيّة أو آثارها أو بعض مراتبها؟
أمّا أنْ يكون للملكيّة مراتب، فهذا غير معقول، لأنها أمر اعتباري ولا يعقل المرتبة للأمر الإعتباري، وأمّا أنْ يكون المراد بقاء علقة المالك الأوّل، فهذا معناه تحقّق الملكيّتين في الشيء الواحد، لأنّ المفروض أن المعاطاة قد أفادت الملكيّة للآخذ، فمع فرض بقاء علقة الأوّل يلزم اجتماع المثلين وهو محال. وأمّا آثار الملكيّة بأنْ تبقى للمالك الأوّل مع انتفاء علقته بالمعاطاة، فمعناه ثبوت الأثر بلا موضوع.
وتلخّص: أنه لا مجال لاستصحاب بقاء علقة المالك الأوّل[1].
[1] وربما يتوهّم أنّ ـ الواهب مثلاً ـ له السّلطنة على ماله، وله السلطنة على تسليطه الغير حدوثاً وبقاءً، وبالهبة زالت السّلطنة الاُولى وبقيت الاخرى، فله إبقاء سلطنة الغير وله إزالتها.
ذكره المحقق الإصفهاني وأجاب: ويندفع بأنه: لا معنى للسّطنة على المال المستفادة من دليل السّلطنة إلاّ القدرة على التصرّفات المتحقّقة بالترخيص التكليفي والوضعي، والسّلطنة على ردّ الملك سلطنة جديدة غير منبعثة عن الملكيّة، كيف وهي في ظرف عدمها؟ فكيف يعقل أنْ يكون من شئونها، ومع الشكّ في ثبوتها، فالأصل عدمها. مع أنه لا ترتب شرعاً لعدم بقاء ملك الموهوب له على سلطنة الواهب على الردّ حتى يكون إستصحاب السّلطنة حاكماً على استصحاب الملك»(1).
ثم إنّ الشيخ قد أجاب عن الإشكال بجوابين:
أحدهما: كفاية استصحاب القدر المشترك بين اللّزوم والجواز، لأنّ هذا الجامع بين الملكيّتين متيقّن الحدوث ومشكوك البقاء، فأركان الإستصحاب فيه تامّة، وهو من قبيل القسم الثاني من أقسام الكلّي.
وقد اختلفت الأنظار في وجه التأمّل:
قال المحقق الخراساني: لا مجال لدعوى الكفاية على مختاره من عدم حجيّة الإستصحاب مع الشكّ في المقتضي(2).
لكنّ الشيخ يرى جريان الاستصحاب في القسم الثاني، فإنْ أراد المحقق المذكور من الشكّ في المقتضي الشك في كون ملاك اعتبار الملكيّة سبباً لاستمرار ودوام الملكيّة وعدم كونه كذلك، فهذا مما لا يقال، إذ ليس المراد من الشكّ في المقتضي في الإستصحاب هو الشك في الملاكات، بل المراد هو الشك في قابليّة المستصحب في حدّ ذاته للثبات والاستمرار في عمود الزمان، لكنّ الملكيّة أمر يدوم كذلك ما لم يأتِ الرافع. وإنْ أراد تصوير سنخين للملكيّة وتقسيمها إلى قصيرة العمر وهي الملكيّة المحدودة بعدم رجوع المالك، وطويلة العمر وهي الملكيّة التي لا تكون محدودة بذلك، فتكون المحدوديّة بعدم رجوع المالك من مقوّمات ذات الملكيّة. لكنّ ما نحن فيه ليس من هذا القبيل، لأنّ الملكيّة متى تحقّقت دامت، غير أن الشك في أنه برجوع المالك الأوّل ترتفع أوْ لا؟ فالشك هو في الزوال والارتفاع لا في استعداد المتيقّن من حيث البقاء في الزمان، كما في الزوجيّة المردّدة بين الدائمة والانقطاعيّة إلى أجل معين، فإنه بعد الأجل لا يستصحب بقاء الزوجيّة، للشك في استعدادها للبقاء في عمود الزمان.
وما نحن فيه من قبيل ما إذا دار الأمر بين البول والمني، فإنه إذا توضّأ ووقع الشك في بقاء الحدث لأنه إنْ كان الخارج هو البول فقد ارتفع، وإنْ كان المنيّ لم يرتفع، فهنا يستصحب بقاء الحدث المشترك بين الأكبر والأصغر، لأنّ الحدث ممّا إذا وجد يبقى، فإذا شك في زواله بالوضوء استصحب.
وقيل في وجه التأمّل: إن استصحاب بقاء الملكيّة للآخذ وهو القدر المشترك، مسبّب عن الشك في حدوث الملكيّة اللاّزمة، وحيث يجري استصحاب عدم حدوث اللاّزمة، كان هذا الإستصحاب حاكماً على استصحاب بقاء الملكيّة(3).
وفيه:
أوّلاً: ليس الشك مسبّباً عن أن الملكيّة اللاّزمة حاصلة أوْ لا، بل هو في أن الملكيّة الحاصلة لازمة أو جائزة، وليس هناك أصل ينقّح أن الملكيّة الحاصلة خارجاً من أيّ القسمين.
وثانياً: سلّمنا، لكن حكومة الأصل السّببي على المسبّبي مشروطة بكون التسبّب شرعيّاً، والسببيّة هنا حتميّة، ولا يجري الاستصحاب فيها، لأنّه أصل مثبت.
وقال الميرزا الأستاذ: لعلّ وجهه هو: أن المقصود من الإستصحاب في القسم الثاني من أقسام الكلّي ترتيب أثر الكلّي، إذ لا معنى لترتيب أثر كلٍّ من الفردين، لأن كلاًّ منهما مشكوك فيه، وهنا إذا كان مفاد الاستصحاب هو التعبّد ببقاء القدر المشترك وهو كلّي الملكيّة، كان معناه ترتيب أثر أحد الفردين وهو الملكيّة اللاّزمة، إذ ليس التعبد ببقاء الملكيّة إلاّ لزومها، فترتّب أثر الفرد باستصحاب القدر المشترك، وهو خارج عن استصحاب الكلّي، لأنه تعبّد بالفرد لا بالكلّي(4).
وهذا الوجه ـ وإنْ كان لا يخلو عن دقّة ـ إلاّ أن فيه:
أوّلاً: إن الغرض التعبّد ببقاء القدر المشترك ـ أي أصل الملكيّة ـ في الزمان اللاّحق، غير أنه بسبب الاقتران الاتفاقي لعدم تأثير رجوع المالك الأوّل، أفاد الملكيّة اللاّزمة، لا أنّ هذا التعبّد عين استصحاب الفرد.
وثانياً: سلّمنا، لكن يكفي استصحاب القدر المتيقّن لجواز تصرّف الآخذ فيما انتقل إليه بالمعاطاة، إذ الملكيّة حكم وضعي، والاستصحاب جار عندنا في الأحكام الوضعيّة إلاّ في مورد واحد، وغير جار في الأحكام التكليفيّة إلاّ في مورد واحد، والتفصيل في الاصول.
وتلخّص: صحّة ما ذكره الشيخ في الجواب الأوّل، وقد ظهر أن لا وجه للتأمّل فيه[2].
[2] ولذا لم يتأمّل في الاصول في جريان هذا الاستصحاب، فقد قال بعد تقسيم إستصحاب المتيقّن السابق إذا كان كليّاً في ضمن فرد وشك في بقائه مشيراً إلى القسم الذي هو من قبيل مسألتنا، قال: وأمّا الثاني، فالظّاهر جواز الإستصحاب في الكلّي مطلقاً على المشهور. نعمْ، لا يتعيّن بذلك أحكام الفرد الذي يستلزم بقاء الكلّي بقاء ذلك الفرد في الواقع، سواء كان الشك من جهة الرافع، كما إذا علم بحدوث البول أو المنّي ولم يعلم الحالة السّابقة، فإنه يجب الجمع بين الطهارتين، فإذا فعل احداهما وشكّ في رفع الحدث فالأصل بقاؤه، وإنْ كان الأصل عدم تحقّق الجنابة فيجوز له ما يحرم على الجنب، أم كان الشك من جهة المقتضي، كما لو تردّد الموجود في الدار، بين كونه حيواناً لا يعيش إلاّ سنةً وكونه حيواناً يعيش مائة سنة، فيجوز بعد السّنة الاولى استصحاب الكلّي المشترك بين الحيوانين، كما في الشبهة المحصورة.
وتوهّم عدم جريان الأصل في القدر المشترك، من حيث دورانه بين ما هو مقطوع الانتفاء وما هو مشكوك الحدوث ومحكوم بالانتفاء بحكم الأصل، مدفوع: بأنه لا يقدح ذلك في استصحابه بعد فرض الشكّ في بقائه وارتفاعه، إمّا لعدم استعداده، وإمّا لوجود الرافع»(5).
اللّهم إلاّ ما ذكره المحقق الخراساني، بتقريب: أنه قد تقرّر في الأصول أنّ الشكّ في الغاية في الشبهات الحكميّة شكّ في المقتضي، وفي الشبهات المصداقيّة شك في الرافع، فمتى شكّ في تحقق مصداق الغاية خارجاً يستصحب، ولو شك في أنّ المستصحب مغيّى بغاية شرعاً أوْلا؟ فإنّه لمّا كانت الشبهة حكميّة، يرجع الشك إلى المقتضي، فلا يجري الاستصحاب.
الجواب الثاني ـ وهو متينٌ جداً ـ ومحصّله: إنّ الملكيّة ـ بأيّ معنىً كانت، وقد تقدّم أن الظاهر كونها «الواجديّة» ـ أمر اعتباري، ولا اختلاف في هويّتها وحقيقتها، وإنّما الاختلاف باعتبار حكم الشارع عليه، كأنْ يحكم بعد تحقق الملكيّة بأنّ للمشتري أن يحلّ العقد ويفسخه، وهذا في خيار الحيوان، أو يحكم بأنّ لكلٍّ من البائع والمشتري ذلك، كما في خيار المجلس، أو يحكم في الهبة ـ لغير ذي رحم والتي غير معوّضة ـ بجواز الاسترداد. فسواء كان الحكم بحلّ العقد أو بجواز الاسترداد، فهو حكم شرعي، مع أنّ الملكيّة متحقّقة في جميع الموارد.
وبعبارة أخرى: ليس الجواز واللّزوم من قبيل الفصل المقوّم للماهيّة، ليلزم تعدّد النوع، بل انقسام الملك إليهما انقسام بالعرض، وهما حكمان يطرءان على الملك وليسا بخصوصيّتين منوّعتين له، إذ الحكم الشرعي ـ سواء الوضعي والتكليفي ـ قائم بنظر الشارع ولا يكون مصنّفاً أو منوّعاً.
وعلى هذا، فالمستصحب هو شخص الملكيّة الحاصلة بالمعاطاة، فهل للشارع حكم بارتفاع هذا الفرد الشخصي من الملكيّة إذا رجع المالك الأصلي عنها وأنه يجوز الاسترداد أوْ لا؟ فنقول: الأصل بقاؤها وعدم جواز الاسترداد.
هذا، ولا يخفى أن المراد من الجواز في قولنا الملك الجائز، هو جواز الترادّ أو حلّ العقد، والملك اللاّزم عبارة عن عدم جواز الترادّ فيه أو حلّ العقد، فما في كلام المحقق الخراساني(6) ـ من أنّه جواز الترادّ، ولا علاقة للبحث بجهة الخيار حتى يقال بأنّ هذا من خصوصيّات السّبب المملّك، فإنه لو كانت الملكيّة هنا عبارة عن جواز حلّ العقد، أمكن القول بأنه من خصوصيّات السبب المملّك، لكنْ سيأتي أن الجواز المعاطاتي عبارة عن جواز ترادّ العينين، فيكون من خصوصيّات الملكيّة ـ غير مستقيم.
لأن الكلام ليس في متعلَّق التراد أو الرجوع حتى يقال: بأن الرجوع في العقد موضوعه هو العقد، فيكون الرجوع حلّه وهو من خصوصيّات السبب، والموضوع في ترادّ العينين هو العين، فهو من خصوصيات الملكيّة، وإنما الكلام في الجواز الوضعيّ، أي رجوع المالك فيما أعطاه، حتى يكون الشارع مُعتبراً ملكيةً جديدةً للمالك الأوّل وسقوط ملكيّة الآخذ، وهذا الأمر الاعتباري في مرتبة متأخرة، ولا يعقل أن يكون من الخصوصيّات المنوّعة أو المصنّفة للموضوع في المرتبة المتقدّمة.
فالكلام في أنّ الملكيّة صنفان أو أمر واحد؟ ولمّا كان جواز التراد ـ بأيّ معنىً كان ـ في مرتبة متأخرة عن الموضوع وهو الملكيّة، فإنه يستحيل أنْ يكون ما هو في المرتبة المتأخرة مقسّماً أو مقوّماً ماهويّاً للموضوع في المرتبة المتقدّمة، إذ الموضوع بجميع خصوصياته ولوازمه متقدّم رتبة، والحكم الشرعي المتأخّر رتبةً لا يمكن أنْ يكون من الخصوصيّات المقوّمة للموضوع.
إنا لا نقول: بأنّ حكم المعاطاة حلّ العقد وفسخه، بل هو جواز الترادّ، لكن هذا الجواز الشرعيّ ليس من خصوصيّات الملكيّة، وإنه موجب للانقسام الحقيقي، بل هو حكم شرعي يرجع إلى كيفيّة السبب، فإن الشارع يحكم بجواز الترادّ إذا كان البيع بالفعل.
فقوله: موضوع الترادّ هو العين وموضوع الفسخ هو العقد، لا وجه له في هذا المقام.
ثم إنّ الشيخ استدلّ لعدم اختلاف حقيقة الملكيّة، وأن منشأ الاختلاف وانقسامها إلى الجائزة واللاّزمة هو الحكم الشرعي، بأمور:
قوله:
ويدلّ عليه ـ مع أنه يكفي في الاستصحاب الشك في أن اللّزوم من خصوصيات أو من لوازم السبب المملّك، ومع أنّ المحسوس بالوجدان أن إنشاء الملك في الهبة اللاّزمة وغيرها على نهج واحد ـ أنّ اللّزوم والجواز لو كانا من خصوصيّات الملك، فإمّا أن يكون… .
أقول:
ذكر رحمه اللّه ثلاثة وجوه:
أحدها: قوله: يكفي في الإستصحاب… .
فاعترض(7) عليه: بأنّ العبارة قاصرة، لأنّ هذا الكلام ليس بدليل، وإنما هو عبارة أخرى عن عدم الحاجة إلى الاستدلال، بل يكفينا في جريان الإستصحاب عدم العلم بأن الجواز واللّزوم من خصوصيات السبب أو المسبب، وحينئذ يقال: كيف يعقل كفاية الشك في الاستصحاب مع احتمال أن يكون الشك في المقتضي ـ لاحتمال كونهما من خصوصيّات المسبب ـ والشيخ لا يرى جريان الاستصحاب معه.
والذي أظنّ: أن غرضه قدّس سرّه: أنّ الشك في المقتضي هو من باب التخصيص اللّبي، ففي موارد التخصيص اللبّي لابدّ من إحراز المخصّص كي لا يتمسّك بالعام، ومع الشكّ في تحقّق عنوان المخصّص اللّبي يجوز التمسّك به. فمراده: إنه يكفي في الإستصحاب الشكّ في كون الجواز واللّزوم من خصوصيات المسبب أو السبب المملّك، مع أنه على تقدير كونهما من خصوصيّات المسبب، يكون الشك في المقتضي، لأن المخصّص المخرج للشك في المقتضي لبّي لا لفظي، وحينئذ يتمسّك بعموم: لا تنقض اليقين بالشك، ويجري الإستصحاب مع الشك في كونهما من خصوصيّات السّبب أو المسبّب.
لكنّ غير واحد من الأكابر اعترض عليه: بأنه لا معنى لأن يكون الشك المذكور كافياً لجريان الإستصحاب، مع أنه بناءً على كونهما من خصوصيّات الملك غير جار عنده، لأمره بالتأمّل، فيدور الأمر بين أن يكون من مصاديق مورد جريان الإستصحاب أو من مصاديق مورد عدم جريانه، فكيف يعقل كفاية الشك للجريان؟
والظاهر: أن مراد الشيخ، كما ذكرنا في استصحاب القدر المشترك، من أنه إنما يتمّ لو كان الأثر مترتّباً على القدر المشترك نفسه، فكذلك هنا، إذ الأمر في الملكيّة يدور بين الجائزة حتى تكون مرتفعة واللاّزمة حتى تكون باقية، فإن استصحاب البقاء عبارة أخرى عن التعبّد بالملك اللاّزم، وهذا غير جائز، وحينئذ نقول: إن هذا المعنى ـ أي عدم جواز جريان الإستصحاب في هكذا مورد ـ دليل لبّي، وفي موارد الدليل اللبّي في مورد الشك يجري الإستصحاب.
ففي نفس الوقت الذي نشك في أن الجواز واللّزوم من خصوصيّات السّبب أو الملك، نستصحب، لأنه في مورد كونه من خصوصيّات الملك إنما لا يجري الإستصحاب بمقتضى الدّليل اللّبي، ولمّا كان مورد الدليل اللبّي غير محرز، فالإستصحاب جار.
الثاني: هو الوجدان، إذ أن الهبة اللاّزمة والجائزة على نسق واحد.
يريد: أنّ اللّزوم والجواز لو كانا من خصوصيّات الملك، لوقع الاختلاف في مقام الإنشاء، فهما ليسا من خصوصيّاته بل من الأحكام الشرعيّة للسبب.
وفيه: إنه لو كانا من خصوصيّات السبب، لزم ترتّب الأثر على الإنشاء المجمل.
الثالث: إنهما لو كانا من خصوصيّات الملك، فلا محالة يكونان زائدين على مفهوم الملكيّة، وحينئذ يقال: هل هذه الزيادة هي بجعل من المالك أو من الشارع؟
إن كان من المالك، لزم القول بأنها ـ أي الملكيّة ـ في مورد قصده الرجوع، جائزة، وفي مورد قصده عدم الرجوع لازمة، وهي في مورد لا قصد عنده لا لازمة ولا جائزة، فيدور أمر اللّزوم وعدمه مدار قصد المالك. وعليه، فلو قصد الرجوع في الهبة لذي رحم كانت الملكيّة جائزة، والحال أن الهبة لذي رحم لازمة بالضرورة من الفقه، وهي للأجنبي جائزة كذلك، سواء قصد الرجوع أوْ لا.
فالخصوصيّتان لا يناطان بقصد المالك.
وإنْ كان بجعل من الشارع، بأن يختلف اعتباره للملكيّة، لزم عدم تبعيّة العقود للقصود، وهذا محال، لأنّ العقود كلّها إمضائيّة، والإمضاء يكون دائماً على طبق الممضى، ولا تختلف دائرته عن دائرته.
وقوله:
وأمكن القول بالتخلّف هنا في مسألة المعاطاة…
سهو من قلمه الشريف، لأن المعاطاة إنْ لم تفد الملك جاز التخلّف، بأنْ يقصد الملك والشارع لا يمضي، لكنَّ البحث هنا في اللّزوم وعدمه على مبنى إفادتها للملكيّة، وحينئذ فلا معنى للتخلّف[3].
[3] وقال المحقق الإيرواني: «قد عرفت عدم إمكان ذلك القول، وأنّ دليل التبعيّة وهو خطاب (أَوْفُوا) يشمل المقام كما يشمل العقود المنشأة باللّفظ، ولو فرضنا عدم الشمول كفى شمول (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) و(تِجارَةً عَنْ تَراض) في إثبات التبعيّة، مع أن إنكار التبعيّة بعد الاعتراف بحصول الملك لا محلّ له، ومحلّ هذا الإنكار هو المقام المتقدّم، فلا محيص هنا من الالتزام بالتبعيّة قضاءً لحقّ الأدلّة الناهضة بإثبات الملكيّة»(8).
وتحصّل: إن اللّزوم والجواز ليسا من خصوصيّات الملك، بل هما حكمان شرعيّان تكليفيّان مولويّان، وعليه، فالمستصحب هو شخص الملك ـ لا الجامع بين الجواز واللّزوم ـ إنْ شك في بقاء ملكيّة الآخذ بالمعاطاة برجوع المالك الأوّل فيما أعطاه، فيفيد بقاء الملكية وعدم تأثير الرجوع.
قوله:
وبالجملة، فلا إشكال في أصالة اللزوم في كلّ عقد شك في لزومه شرعاً[4].
[4] قد شرح المحقق النائيني قدّس سرّه هذه القاعدة الكليّة(9) وأوضحها شيخنا دام بقاه بما ملخّصه: إنّ العقود الشرعيّة على قسمين، فمنها: إذنيّة ومنها: عهديّة، والعهديّة على قسمين: منها تنجيزيّة ومنها تعليقيّة، والمقصود من هذه الموجبة الكليّة هي العهديّة ـ لأنّ العقود الإذنيّة لا شك في كونها جائزة غير لازمة ـ بقسميها كالبيع والصّلح ونحوهما من الأوّل، والسبق والرماية والجعالة ونحوها من الثاني، فالأصل في الجميع لو شكّ في لزومه شرعاً هو اللّزوم.
قال العلاّمة في بيع التذكرة(10) بأن الأصل اللّزوم في البيع، للإستصحاب يعني استصحاب بقاء الملك.
لكنّه خالف في السّبق والرّماية من المختلف(11) فقال في الشك في اللّزوم والجواز، بأنّ الأصل عدم اللّزوم.
فهو مفصّل بين التّنجيزي والتعليقي، وقد وافقه الشيخ على كلامه في السّبق والرماية، وهذا هو المهمُّ، فإنه ينافي هذه الكليّة التي نصّ عليها في المقام، وإذا كان الوجه في اختلاف كلامه كون المستصحب في البيع ونحوه هو الملك، ولا ملك في السّبق والرماية ونحوهما حتّى يستصحب، كان عليه أنْ يقول: كلّ عقد مملّك شكّ في لزومه… .
لكنّ مقتضى ما ذهب إليه في الاصول من جريان الاستصحاب في الأحكام التعليقيّة مثل: «العنب إذا غلا يحرم» هو عدم التفصيل، لأنَّ المنشأ في مثل السّبق والرّماية أيضاً هو الملكيّة التعليقيّة، وكذا في الجعالة وغيرها.
وكذا لو شكّ في أن الواقع في الخارج هو العقد اللازم أو الجائز كالصلح من دون عوض والهبة.
نعم، لو تداعيا احتمل التحالف في الجملة.
أقول:
إن أصالة اللّزوم أصل محكّم في الشبهات الحكميّة والموضوعيّة معاً، فلو شكّ في أنّ حكم الهبة المعوّضة هو اللّزوم أو الجواز، جرت أصالة اللّزوم، ولو شك في أن الملك الحاصل بالمعاطاة جائز أوْ لازم، فهي جارية كذلك، وهكذا في كلّ مورد يشك في الحكم من حيث اللّزوم وعدمه.
وكذا في الشبهات الموضوعيّة، حيث يعلم بوقوع العقد ويشك في أنّ الملكيّة الحاصلة لازمة أو جائزة، فإنه يستصحب عدم ملكيّة الراجع عن الملكيّة، وهو مرادف لأصالة اللّزوم معنىً.
قال: لو تداعيا احتمل التحالف في الجملة.
مقتضى القاعدة الأوليّة أن يكون المدّعي هو من يدّعي الهبة، لأن مآل دعواه ثبوت حق الرجوع، وأن يكون مدّعي البيع منكراً، لأن مآل دعواه إلى إنكار حق الرجوع، وعلى المنكر الحلف، فإذا حلف تقدّم قوله. لكنْ قد يحتمل التداعي، إذ ربما يكون لكلٍّ من الدعويين أثر خاصٌ، ويدّعي كلّ منهما ترتيب الأثر، وحينئذ يقع التداعي. فقوله «في الجملة» أي: في بعض الأحوال، وهو ما أشرنا إليه[5].
[5] توضيحه: إنّ قول الشيخ: «احتمل التحالف في الجملة» يشتمل على كلمتين «احتمل» و«في الجملة».
أمّا الوجه في قوله «احتمل» فهو: أنّه قد اختلف العلماء في أنّ مورد اللّحاظ في مقام التداعي هو النتيجة أو اللّفظ؟ فعلى الثاني يتحالفان في مفروض المسألة، أمّا على الأوّل، فحيث أنّ المدّعي للصّلح يدّعي اللّزوم والمنكر له ينكر اللّزوم، فإنّ الواجب هو اليمين على أحدهما دون الآخر.
وأمّا الوجه في قوله «في الجملة» فهو: قيام الأصل الحاكم في بعض الموارد، كأنْ يقول أحدهما: هذه هبة، والآخر يقول: هي صدقة. فإنْ كانت صدقةً لم يرجع فيها لأنّها في سبيل اللّه، وإنْ كانت هبةً جاز له الرجوع فيها، فلا تحالف حينئذ، إذ يعتبر في الصّدقة قصد القربة دون الهبة، وهذه جهة زائدة في الصّدقة على الهبة، فالمعطي المدّعي للهبة ينكر قصده القربة، لأنه ينكر الصّدقة، والآخر يدّعي قصده لها، فالقول قول المعطي صدقةً لأصالة عدم قصد القربة، وله الرجوع حينئذ، لحكومة هذا الأصل على أصالة اللّزوم. وقد ذكرنا هذا في بلغة الطالب(12).
فظهر أنه إن كان النزاع ـ في أن الواقع بيع أو هبة ـ بلحاظ الجواز واللّزوم، كان من قبيل المدّعي والمنكر، ومقتضى أصالة اللّزوم تقدّم قول المنكر بيمينه، وإنْ كان بلحاظ أثر آخر، كان من قبيل التّداعي ولابدّ من التحالف.
وهذا تمام الكلام في الاستدلال بالأصل للقول بلزوم المعاطاة.
(1) حاشية المكاسب 1 / 129 ـ 130.
(2) حاشية المكاسب: 13.
(3) اُنظر حاشية السيد اليزدي 1 / 355.
(4) انظر: المكاسب والبيع 1 / 167.
(5) فرائد الاصول: 371 ط الحجرية.
(6) حاشية المكاسب: 13 ـ 14.
(7) انظر: المكاسب والبيع 1 / 168.
(8) حاشية المكاسب: 80 .
(9) المكاسب والبيع 1 / 170.
(10) تذكرة الفقهاء 11 / 5.
(11) مختلف الشيعة 6 / 220.
(12) بلغة الطّالب في التعليق على بيع المكاسب: 103.