القاعدة الثالثة
قوله:
ومنها: أن الأخماس والزكوات والاستطاعة والديون والنفقات وحقّ المقاسمة والشفعة والمواريث والرّبا والوصايا، تتعلّق بما في اليد، مع العلم ببقاء مقابله… .
أقول:
قد عرفت أنّ المقصود من هذه البحوث هو الاستدلال لإفادة المعاطاة الملك، بأنّه لولا ذلك يلزم تأسيس قواعد جديدة، فمنها: لزوم هذه الأمور ـ التي تتعلّق بالأملاك ـ في غير الأملاك.
فمن أخذ شيئاً من الأنعام الثلاثة أو النقدين أو غيرها ممّا تجب فيه الزكاة، بالمعاطاة، وحال الحول والنصاب حاصل، وجب عليه الزكاة، مع أنّ الذي حصل عنده كان بالمعاطاة، والمفروض أنها لا تفيد الملك.
وكذا الخمس، فيلزم تعلّقه بما ليس بملك له.
وكذا يلزم حصول الاستطاعة بالزاد والرّاحلة التي لغيره، لأن المفروض أن ما عنده مأخوذ بالمعاطاة وليس ملكاً له.
وكذا يلزم تعلّق الديون بغير الملك، كأنْ يقسّم الغرماء بينهم ما كان عند الغريم من أموال الناس، لأن المفروض أخذه ذلك منهم بالمعاطاة. وأيضاً: المدين إذا مات، تعلّق دينه بما تركه، فيلزم تعلّق دينه بأموال الناس لا بأمواله. وأيضاً: لو باع شيئاً بالمعاطاة وأخذ الثمن، كان أداء دينه من هذا الثمن أداءً من أموال الناس.
وكذا يلزم تعلّق حقّ النفقة بالنسبة إلى أموال الناس، لأن المال الذي بيد الزوج مأخوذ بالمعاطاة، مع أنّ حق النفقة يتعلّق بملك الزوج.
وكذا في حقّ المقاسمة، فإذا حصل الشيء لهما واشتركا فيه وثبت لهما حقّ لهما فيه حق المقاسمة، كان معنى ذلك حصول هذا الحق في مال الغير.
وكذا في حقّ الشفعة، فمن باع نصف ملكه لزيد بالمعاطاة وباع النصف الآخر من عمرو، جاز لزيد أنْ يشفع في النصف الآخر، مع أنّ النصف الذي بيده ليس ملكاً له بل هو باق على ملك صاحبه، فكيف أخذ بالشفعة؟
وكذا لو باع بالمعاطاة المكيل والموزون بمثله بالتفاضل، فالرّبا ثابتة، ولو لم تكن المعاطاة مملّكةً لم يكن لثبوت الرّبا وجه، وإلاّ لزم ثبوتها في مال الغير.
وكذا الذي أوصى بصرف كذا وكذا من ثلثه، فوصيّته نافذة، ولو لم تفد المعاطاة الملك لزم نفوذ الوصيّة في ملك الغير.
وكذا لا شبهة في أنّ من مات انتقلت أمواله إلى ورثته، فلو كان جميع ما حصل عنده مأخوذاً بالمعاطاة، فإنّهم يكونون قد ورثوا أموال الناس بموت موّرثهم.
وكذا الكلام في الغنى والفقر، فمن حصل عنده بالمعاطاة ما يكفي لمؤنة سنته، صدق عليه الغنى وترتّب عليه أحكامه، فلو لم يكن ما أخذه بالمعاطاة ملكاً له، فقد أصبح غنيّاً بأموال الناس، ولو وهب هذا الشخص كلّ ما عنده عدّ فقيراً، مع أنّ الأشياء غير خارجة عن ملكه، لأن المفروض وقوع الهبة منه معاطاةً.
هذا كلّه، مع العلم ببقاء المال المقابل عند الطرف الآخر، ولو شك في بقاءه استصحب.
وتلخص: إن ما ليس موضوعاً لآثار الأملاك يكون محكوماً بالآثار المتعلّقة بها، وهذه قاعدة جديدة.
هذا ما أفاده بعض الأساطين.
فأجاب الشيخ:
قوله:
وأمّا ما ذكره من تعلّق الأخماس والزكوات. إلى آخر ما ذكره، فهو استبعاد محض، ودفعه بمخالفته للسيرة رجوع إليها، مع أنّ تعلّق الإستطاعة الموجبة للحج وتحقّق الغنى المانع عن استحقاق الزكاة، لا يتوقّفان على الملك.
أقول:
إذنْ، يلتزم بتحقّق هذه الأمور في غير الملك ويكون بحكم الملك.
واختلفت الأنظار في مراده من قوله: «ودفعه بمخالفته…» والضمير يرجع إلى «التعلّق» وفي بعض النسخ: «ودفعها بمخالفتها…» ومرجع الضمير «المقالة»:
فقال السيّد رحمه اللّه: «الظاهر أن مراده أنّ الحكم بعدم تعلّق المذكورات بالمأخوذ بالمعاطاة، استبعاد محض، فلنا أنْ نلتزم بعدم التعلّق، ولا بأس به، ودعوى أنه مخالفٌ للسيرة حيث أنها جارية على التعلّق، مدفوعة بأنه على هذا تكون السيرة دليلاً على التعلّق وإنْ كان مخالفاً للقاعدة، لأنها دليل على تخصيصها، ولا بأس بالالتزام به»(1).
فاعترض عليه شيخنا الأستاذ: «بأنّ كاشف الغطاء رحمه اللّه لم يستبعد عدم التعلّق، بل استبعد تعلّقها مع عدم الملك حيث قال: فيصير ما ليس من الأملاك بحكم الأملاك» ثم قال: إعلم أنّ مقتضى كلام هذا الفقيه النبيه الوجيه «إن تعلّق المذكورات بالمأخوذ بالمعاطاة أمر مفروغ منه ولذا استبعد تعلّقها به مع عدم الملك…»(2).
وهو متينٌ جداً.
وعلى الجملة، فإنه لا مانع من تعلّق المذكورات بغير الملك، وليس في المقابل إلاّ الاستبعاد.
فإنْ قيل: هذا ينافي السّيرة القائمة على أنّ المعاطاة تفيد الملك، وأنهم يرون تعلّق هذه الأمور بالملك.
قلنا: هذا رجوع إلى السّيرة، ولا لزوم لتأسيس القواعد الجديدة، وقد جعل هذا اللّزوم دليلاً مستقلاًّ ـ بعد الكتاب والسنّة والسّيرة ـ على إفادة المعاطاة للملك.
وحلّ المطلب هو:
أمّا في الأخماس والزكوات، فإنها تتعلَّق بشرط الحول والنّصاب، وكون الآخذ بالمعاطاة غير مالك لا يضرّ، لوجود المالك الأصلي المتوجّه إليه الخطاب بالخمس والزكاة، فلم يكن التعلّق بغير الملك، غير أنّ الذي بيده ليس هو المالك المخاطب بالأداء. ولو قيل: بأنّ وجوب الأداء عليه حينئذ دون المالك هو الذي عليه السّيرة، فالجواب: إن هذا رجوع إلى السّيرة.
وبعبارة أخرى: إن كان المحذور سقوط الخمس والزكاة، فإنّه غير وارد، لأنهما يتعلَّقان بالملك، وغاية الأمر هنا هو توجّه التكليف إلى المالك دون الآخذ بالمعاطاة.
وأمّا في الإستطاعة، فإنّ المناط فيها هو التمكّن من الذهاب إلى الحج، ولا دليل على اعتبار الملكيّة في الزاد والراحلة، ومن كان بيده الزاد والراحلة فهو متمكن ويجب عليه الحج.
وأمّا في الديون، فإنّ مثال تعلّق الدين بالمأخوذ بالمعاطاة هو ما لو أخذ الشخص بالمعاطاة شيئاً في مقابل شيء أعطاه، ثم مات والمالان باقيان، فإن المأخوذ بالمعاطاة يكون من جملة تركته والدّين يكون متعلّقاً بهذا المال.
والظاهر أنْ لا مورد لتعلّق الدين بالمأخوذ بالمعاطاة إلاّ ما ذكرناه، وما في كلام بعض الأكابر(3) من أنّه لا مانع من أداء الدين الذي في ذمّته ممّا كان بيده من مال غيره المأذون في التصرّف فيه، فليس جواباً عن إشكال الشيخ الكبير، لأنّ الكلام هو في تعلّق الدين بمال، فمنشأ الإشكال هو «التعلّق»، لأنّ الدين إنما يتعلّق بذمّة المدين مادام حيّاً، فإذا مات تعلّق بما تركه، فكيف يتعلّق دين الدائن بما هو لغير المدين؟ نظير المفلَّس، حيث أن الغرماء يقتسمون ما في يده من الأموال، فإذا كان فيها شيء مأخوذ بالمعاطاة، والمفروض أنها لا تفيد إلاّ الإباحة، لم يكن لهم تقسيمه، إذْ لا يتعلّق حق الغرماء إلاّ بما هو ملك للمفلّس، وإنْ أمكن القول بجواز أخذهم المال، لأنه عوض عن ملك الغريم الموجود بيد المتعاطي معه.
وبالجملة، فالمثال الذي ذكرناه، هو الذي ينطبق عليه البحث تماماً.
ولنا أنْ نقول في الجواب: إن الفتوى في الهبة الجائزة التي للواهب أن يرجع فيما وهبه، هي اللّزوم بموت الموهوب له، فلم لا يكون الموت سبباً في ملكيّة المال المباح كذلك؟ وبعبارة أخرى: إنه لا ريب في مملكيّة التصرّف المالكي والإتلاف، والمناط في التصرّف المالكي هو الخروج عن الملك، وبالموت يتحقّق الخروج عن الملك ويتعلّق الدين بالتركة.
وأمّا النفقات، فلا دليل على أنها تتعلّق بالملك، بل على الزوج المتمكّن أن ينفق على من تجب النفقة عليه، من أيّ مال يجوز له أنْ ينفق منه، سواء كان مباحاً له أو ملكاً.
وأمّا المقاسمة: بأنْ يكون شخصان شريكين في مال على نحو الإشاعة، فلكلٍّ منهما الحق في المطالبة بتقسيم المال، فلو كان المال مأخوذاً بالمعاطاة ـ وهي تفيد الإباحة ـ لم يكن لأحدهما الحق في مطالبة الإفراز، لأنّ هذا الحق يختص بالمالك في ملكه.
والجواب هو: إن نفس التقسيم تصرّف مخرج عن الملك، لأن حصّة كلّ واحد هو النصف المشاع بما هو مشاع، ولا تعيّن للملكيّة خارجاً، ومجرّد إيجاد التعيّن بالإفراز مخرج عن الملك، ولا أقلّ من أنه يوجب تملّك الطرف المقابل لما أخذه، فالتقسيم كالبيع وغيره من التصرّفات المخرجة عن الملك، والمفروض إباحة جميع التصرّفات.
نعم، يتوجّه هنا ما أوردناه سابقاً من لزوم اجتماع الضدّين، لكنّا نتكلّم هنا على ما مشى عليه القوم.
وأمّا حق الشفعة، فإذا أخذ شيئاً بالمعاطاة مشاعاً وأراد صاحبه أنْ يبيع سهمه، كان لهذا الحق في الأخذ بالشفعة، لكنّ المفروض أنه مباح له وليس بمالك حتى يجوز له الأخذ بها.
والجواب: إنه إنْ جاز القول بأنّ له الأخذ بالشّفعة في ظرف تصرّف المتعاطي فيما بيده، بأنْ يكون الحقّ ثابتاً له بشرط تصرّف الطّرف، كما ذكر المحقق الخراساني: من أنّ المعاطاة مملّكة بشرط التصرف أو التلف، نظير بيع الصرّف والسّلم، فهو، وإلاّ فلا مناص من التسليم بالإشكال.
وأمّا الرّبا، فإن المفروض قصدهما البيع وأنّ الشارع قد رتّب الإباحة، لكنّ ترتيبه الإباحة إنما يكون في المعاطاة الشرعيّة الصحيحة، فإذا كانت المعاوضة ربويّة فهي منهيٌّ عنها، لأنّ أدلّة حرمة الربا جاريةٌ في كلّ معاوضة بين المتجانسين مع التفاضل، فتكون جارية في المعاطاة، وحينئذ، لا معنى لترتّب الإباحة عليها.
وأمّا الوصايا، فالجواب عن الإشكال فيها ظاهر ممّا سبق، إذ نلتزم بأنّه بالموت يعتبر الملكيّة.
وأمّا الغنى والفقر، فالغنيّ من كان واجداً لمؤنة السنة، سواء كان مالكاً أو مباحاً له، والفقير من ليس واجداً للمؤنة مطلقاً.
(1) حاشية المكاسب 1 / 351.
(2) حاشية المكاسب 1 / 121.
(3) حاشية الإصفهاني 1 / 122.