القاعدة الثانية
قوله:
ومنها: أنْ يكون إرادة التصرّف من المملّكات…
أقول:
القاعدة الثانية التي ذكر بعض الأساطين يلزم تأسيسها بناءً على القول بأن المعاطاة تفيد الإباحة دون الملك هو: أنْ يكون إرادة التصرّفات من المملّكات.
وذلك: لأنّ التصرّفات التي تقع من المتعاطيين جائزة مطلقاً، إلاّ أنها تنقسم إلى قسمين، فمنها: لبس الشّيء أو ركوبه أو الجلوس عليه ونحو ذلك، ممّا لا يتوقّف على أنْ يكون المتصرّف مالكاً. ومنها: ما يتوقف على ذلك، كأن يوقف الشيء، أو العبد يعتقه، أو الجارية يطؤها، لأنه: لا بيع إلاّ في ملك، ولا وقف إلاّ في ملك، ولا عتق إلاّ في ملك أو بعد ملك ـ كما في الخبر ـ ولا وطي إلاّ في ملك، فإذا لم تفد المعاطاة الملكيّة، فلماذا جازت هذه التصرّفات، ولم يخطر ببال المالك الإذن في شيء منها، وإنّه لا يجوز لأحد أنْ يتصرّف في مال غيره إلاّ بإذنه؟
فالقول بجواز تلك التصرّفات يستلزم أنْ يقال بأنّ إرادة التصرّف سبب لمالكيّة المتصرّف. وهذه قاعدة جديدة.
ثم إنّ الشيخ أجاب عن سؤال مقدّر بقوله:
بخلاف من قال: أعتق عبدك عنّي وتصدّق بمالي عنك.
وذلك: لوجود الإذن منه في هذين الموردين، لأنه في الحقيقة إذنٌ في التمليك في الأوّل ثم العتق، وفي التملّك ثم التصدّق في الثاني.
ثم إنّ ما ذكره في الموردين، مبني على أنْ يكون المعتق عنه والمتصدَّق عنه مالكاً، وأمّا بناءً على عدم اعتبار ذلك ـ كما في بعض النصوص في العتق والتصدّق عن الميّت ـ فلا مجال لما ذكر. ووجه الترديد حيث قال:
بإرادة التصرّف أو معه.
هو: إن من التصرّفات ما لا يعتبر فيه سبق الملكيّة على التصرف، مثل وطيء الجارية المأخوذة بالمعاطاة، فيمكن أن يكون مالكاً لها في آن الوطي، بخلاف مثل البيع، فإنّه لا يعقل المالكيّة في آن البيع، لأن تحقّقها في هذا الآن يستلزم الجمع بين الضدّين، فإذا تحقّق ملكيّة الغير لم يعقل تحقّق الملكيّة لنفسه فيه، وكذا في العتق، فإنه يلزم تأثير الشيء في المتناقضين، لأنّ العتق سبب زوال الملك، فإذا قلنا بحصول الملكيّة في حينه، لزم الجمع بين تحقق الشيء وزواله وهو محال، ففي مثل هذين الموردين، لابدّ من اختلاف الآنين.
فإن قلنا بأنه في الآن الأول ملك، وفي الثاني باع أو أعتق أو ملك في آن التصرف كما في الوطيء، لزم الالتزام بقاعدة جديدة هي مملكيّة الإرادة. إذن، لابدّ من القول بإفادة المعاطاة من أوّل الأمر.
هذا بيان مراد الشيخ الكبير، وسأزيده بياناً فيما بعد.
وقد أجاب الشّيخ عن ذلك بقوله:
وأمّا ما ذكره من لزوم كون إرادة التصرّف مملّكاً، فلا بأس بالتزامه إذا كان مقتضى الجمع بين الأصل ودليل جواز التصرّف المطلق وأدلّة توقّف بعض التصرّفات على الملك… .
وحاصل كلامه: الإلتزام بمملكيّة الإرادة وعدم استلزام ذلك تأسيس قاعدة جديدة، فكلامه ناظر إلى الجهتين، فما في كلام بعضهم من أنه لم يُجب عن استلزام تأسيس قاعدة جديدة، ليس في محلّه. وقد جاء في كلامه ثلاثة أمور:
أحدها: إنه لا دليل على إفادة المعاطاة الملكيّة، ومقتضى الإستصحاب بقاء المأخوذ بها في ملك مالكه.
والثاني: إنه قد قام الدّليل على جواز مطلق التصرّفات في المأخوذ حتى المتوقفة على المالك.
والثالث: إنّه لا بيع إلاّ في ملك، وكذا العتق والوطي… .
وهذه الأمور تدلّ ـ بدلالة الإقتضاء ـ على كون إرادة التصرّف أو التصرّف موجباً للملك، لأنّا إنْ قلنا: بأنّ التصرّف أو إرادته غير مملّك، لزم بطلان: لا بيع إلاّ في ملك ونحوه، وإنْ قلنا: بأنّ التصرّفات المتوقفة على الملك غير جائزة، لزم ردّ السّيرة وغيرها من الأدلّة القائمة على حلّية تلك التصرّفات وغيرها، وإنْ قلنا: إن المعاطاة توجب الملكيّة، فالمفروض عدم الدليل عليه. فيستكشف من هذه الأمور أنّ إرادة التصرّف ـ أو نفس التصرّف ـ موجب للملكيّة. ولابدّ حينئذ من الالتزام بكون: لا يجوز لأحد أن يتصرف في مال غيره إلاّ بإذنه، ونحوه من الأدلّة، مخصَّصاً بالدلالة الاقتضائيّة المذكورة.
قوله:
فيكون كتصرّف ذي الخيار والواهب فيما انتقل عنهما بالوطي والبيع والعتق وشبهها.
فما نحن فيه نظير تلك الموارد، فإنّ ذا الخيار يدخل مال الغير في ملكه عملاً، وكذا الهبة لغير ذي رحم مع بقاء العين، فلا يكون ما ذكره هنا في المعاطاة شيئاً جديداً.
أقول:
لكن الإنصاف عدم تماميّة التنظير المزبور، إذْ فرقٌ بين حصول الملكيّة بالتصرف أو إرادته، وبين ارتفاع سبب ملكيّة الغير ـ وهو العقد ـ بالتصرّف، وتصرّف ذي الخيار والواهب من قبيل الثاني. فالحق أن ما نحن فيه لا نظير له]1[.
]1[ وقال المحقق الإصفهاني: وما يترائى أنه نظير له هو تصرّف ذي الخيار أو من له الرجوع كما في الهبة، لما تسالموا عليه من حصول الفسخ والرجوع بالفعل، إمّا بعنوان السبب أو بعنوان الكاشف عن قصد الفسخ والرجوع على الخلاف المحرّر في محلّه. والجواب: إن باب التصرّف في الفسخ والرجوع باب الفسخ الذي يقصد بالتصرّف أو الرجوع، فهناك إمّا فعل قصد بنفسه الفسخ ـ مثلاً أو يكشف عن قصد الفسخ، وأمّا هنا، فنفس التصرّف مملّك قهري، لا أنه به يقصد التملّك ولا أنه كاشف عن قصد التملّك، فلا يقاس ما نحن فيه بباب الفسخ والرجوع، لعدم دوران حصول الملكيّة مدار التسبّب إليها بنفس التصرف أو بما هو كاشف عن قصد حصولها، فسببيّة التصرّف وقصده باقية على غرابتهما.
نعم، الرجوع في الطلاق ـ بناءً على حصوله بمجرّد الاستمتاع ولو لم يقصد به الرجوع ـ يكون نظيراً لما نحن فيه(1).
وقد أشار بما ذكره أخيراً إلى ما رواه محمّد بن قاسم عن الإمام عليه السّلام أنه قال: «من غشي امرأته بعد انقضاء العدّة جلد الحدّ، وإن غشيها قبل انقضاء العدّة كان غشيانه إيّاها رجعة»(2).
(1) حاشية المكاسب 1 / 119 ـ 120.
(2) وسائل الشيعة 28 / 131، الباب 29 من أبواب حدّ الزنا، الرقم: 1.