الحق
و«الحق» له معنيان شائعان في الاستعمال:
أحدهما: أنّه اسم مصدر من حقّ يحقّ، بمعنى الأهليّة وأنه ينبغي أن يكون كذا.
والثاني: أنّه صفة مشبهة، بمعنى كونه ذا واقعيّة، فهذا «حق» في قبال طرفه «الباطل».
ومن استعمالاته بالمعنى الثاني: قوله تعالى: (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إي وَرَبّي إِنَّهُ لَحَقٌّ)(1)، وقوله: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرينَ)(2)، وقد يكون فعلاً، مثل (حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ)(3)، وفاعلاً، مثل (الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ)(4)، ومفعولاً، مثل: هذا القول حق.
ومن استعمالاته بالمعنى الأوّل ـ وهو الأهليّة واللّياقة وما ينبغي أن يكون الشيء عليه ـ قوله تعالى: (حَقيقٌ عَلى(5) أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ)(6)، (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ)(7) ويقال للناقة: «حِقّة» إذا حصل لها الأهليّة والجدارة لأن يستفاد منها.
فهل الحق في الاصطلاح حيث قلنا أنه أمر اعتباري، هو بمعنى اسم المصدر، أي الأهليّة وكونه حقيقاً، أو هو صفة مشبهة بمعنى كونه ذا واقعيّة؟ وبعبارة أخرى: هل الحق الاعتباري اعتبار الأهليّة أو اعتبار كونه ذا واقعيّة؟
الظاهر هو الأوّل، إذ نقول: له حق الشّفعة، وهو ذو حق، فعلى كونه صفة مشبهة، لا يصح أن يقال هو ذو حق، لأن الصّفة المشبهة معناها كون الشيء ذا مبدء، فلا يعقل إضافة «ذو» أو «له» إليه، فقولنا: هو ذو حق كذا، متّخذ من معنى الأهليّة واللّياقة والجدارة، فللقاضي حق القضاء، أي هو أهل لذلك، وللحاكم حق التولية، أي: فيه أهليّة التصدّي لأمر الموقوفة مثلاً، وحق القيموميّة معناه: الأهليّة لتصدّي أمور من هو قيّم عليه… فهذا المعنى الاعتباري الذي نعبّر عنه بالأهليّة، متّخذ من الأمر التكويني المصدري.
وعلى الجملة، فإنّ الأمر الاعتباري منوط بمصحّح الاعتبار، يقال: هذا الكلام سيف قاطع، ويعتبر للكلام السيفيّة بلحاظ أثره، وفي حق الشفعة وحق التولية وحق الرّهانة وغيرها، ليس المعتَبر كون هذه الأمور لها واقعيّة وثبوت بالمعنى المقابل للبطلان، بل هو الأهليّة، فمشتري الحيوان اعتبر له حق الفسخ، وكذا المغبون، وفي حق الشفعة: اعتبر للشريك الأهليّة لأن يشفع، أي يضمّ إلى نفسه حصّة صاحبه، ووليّ الدم له حق القصاص، أي هو أهل لأنْ يقتص، والمجتهد العادل له حق القضاوة، أي هو أهل لأن يقضي، ومن أخذ ماله غصباً له حق التقاصّ، أي هو أهل لأنْ يقتص.
فالمعنى المطّرد في جميع هذه الموارد ما ذكرناه، وهذا هو المختار خلافاً للأكابر، كما سيجيء.
ثم «الحق» دائماً يتعلَّق بفعل من الأفعال، إمّا فعلاً يصدر منه، كحقّ الفسخ، وإمّا فعلاً يُفعل لأجله، كحق النفقة، حيث اعتبر له الأهليّة لأنْ ينفق عليه، فإنْ كان فعلاً صادراً منه يكون الحق «له»، وإنْ فعلاً يفعل لأجله يكون الحق «عليه»، فيقال لصاحب حق التولية مثلاً: حق له، ويقال لمن تجب عليه النفقة: حق عليه، وهذا الحق المعتَبر للغير، قد يكون بإيجاب من الشّخص على نفسه للغير، قال اللّه تعالى: (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ)(8). وليتأمّل مدى رأفة اللّه وعنايته بالمؤمنين!! فاللّه عزّ وجلّ «عليه الحق» أي: إن للمؤمنين الأهليّة والجدارة لأن ينصرهم، فهو «عليه الحق» و «لهم الحق» لكنْ بجعل منه.
وفي زيارة الإمامين العسكرييّن عليهما السّلام: «بحقّ من أوجبت حقّه عليك».
فمتعلّق الحق هو الفعل على كلّ حال، إلاّ في مقام الإضافة، فإنه إلى الفعل فيقال: حق الفسخ، حق النفقة، حق التولية… وقد يضاف إلى سببه كحق الرّهانة، بمعنى أن الوثيقة سبب لأنْ يكون له الأهليّة لبيع العين المرهونة في قبال دينه، وكحق الأبوّة، حيث أنّ الأبوّة سبب يؤهّل الأب لأن يطاع مثلاً.
فالحقّ لا يتعلّق بالعين، بخلاف الملك، إذ يتعلَّق بالعين ويتعلَّق بالفعل، وهذا من موارد الفرق بين الحق والملك.
ثم إنّه قد تقدم أنه إن كان موضوع هذا الأمر الاعتباري ـ أعني الأهليّة والجدارة ـ عنواناً خاصّاً، لم يعقل نقله إلى الغير.
(1) سورة يونس: 53.
(2) سورة البقرة: 147.
(3) سورة يونس: 33.
(4) سورة الحاقّة: 1 ـ 3.
(5) في هذه الكلمة قراءتان: «عليَّ» و«على» والاُولى عندي أولى. منه قدّس سرّه.
(6) سورة الأعراف: 105.
(7) سورة البقرة: 228.
(8) سورة الروم: 47.