لقد اختلف الأصحاب في المسألة على قولين، فعن الشيخ وجماعة: اعتبار العين(1)، بل في الجواهر دعوى الإجماع عليه(2)، وعن جماعة(3) ـ كالمحقق والعلاّمة في ـ بعض كتبه ـ والشهيد والنراقي في المستند(4) وغيرهم ـ التعبير بما هو ظاهر في الأعمّ، لكنّ الشهيد الثاني في المسالك(5) نزّل كلمات هؤلاء على الاختصاص بالعين، ومع ذلك، فقد ادّعى المحقق الإيرواني(6) القطع بالأعم.
والعمدة للقول الثاني هو: ظواهر النصوص الآتية، مضافاً إلى الإطلاقات الكثيرة ـ كتاباً وسنّةً ـ مثل (يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا)(7) و(يَشْتَري لَهْوَ الْحَديثِ)(8)و(لا تَشْتَرُوا بِآياتي ثَمَنًا قَليلاً)(9) ونحوها.
وقد أجاب الشيخ قدّس سرّه ـ كما سيأتي ـ بأنها مسامحة في التعبير.
لكنّ حمل هذه الكثرة من الاستعمالات على المسامحة، بعيد جدّاً، وكأنّه يريد الحمل على المجاز، إلاّ أنّه لا توجد أيّة قرينة من حال أو مقال توجب الحمل على ذلك، فالقول بذلك مشكل، كالقول بحملها على الحقيقة، لأنّ الاستعمال أعم منها، ودعوى اقترانها بقرائن موجبة للحمل عليها، مدفوعة بعدم القرائن.
كما أنّ دعوى تبادر الأعم من لفظ البيع، دون إثباتها خرط القتاد.
واستدلّ للقول الأوّل بوجوه:
الأول: الإجماع.
وفيه: أوّلاً: إنه لا إجماع في المسألة كما عرفت. وثانياً: مثل هذا الإجماع ـ على فرض ثبوته ـ ليس بحجّة، لأنه في مسألة أصوليّة كما لا يخفى.
والثاني: التبادر وعدم صحّة السّلب.
وفيه نظر، لأن شرط التبادر أن يكون من حاقّ اللّفظ، بأنْ يكون المتبادر فعلاً من لفظ «باع زيد» بيع العين، وأنّه كذلك في زمن الأئمّة عليهم السلام، وثبوت الأمرين مشكل، لاحتمال دخل كثرة الاستعمال وشهرته في العين في هذا التبادر.
وقد استدلّ بعضهم ـ لإثبات التبادر ـ بكلمات الفقهاء، فقد اشتهر بينهم أنّ البيع لنقل الأعيان(10)، من جهة أنهم من أهل اللّسان، فتدلُّ كلماتهم على أنّ على ذلك عرف المتشرعة.
لا يقال: لعلّ كلماتهم متّخذة من أقوال أهل اللّغة.
لأنّ اللّغويين ـ إنْ لم يكن كلّهم فأكثرهم ـ على أنّ البيع مبادلة مال بمال، فكلمات الفقهاء مستندة إلى حاقّ لفظ البيع.
وفيه نظر، لأن كلماتهم فتاوى منهم بأنّ البيع يقع على العين، وأنّ الذي يقع على المنفعة هو الإجارة، فهم في كلماتهم بصدد هذا، ولا يقصدون بيان المعنى الحقيقي للفظ البيع، وأمّا عرف المتشرّعة، فالظاهر كونه متّخذاً من النصوص والفتاوى.
وعلى فرض التنزّل، فإنّ ثبوت هذا المعنى في زمن الأئمة أوّل الكلام، وإنْ أريد الاستدلال له بالاستصحاب القهقرائي وأصالة عدم النقل(11)، لما تقدم من كثرة استعمال لفظ البيع كتاباً وسنّةً في الأعم من العين.
الثالث: بعد التنزّل عن دعوى التبادر: إن شمول إطلاقات البيع لغير العين مشكوك فيه. قاله المحقق النائيني وتبعه المحقق الخوئي(12).
وقد أشكل عليه بعض مشايخنا دام بقاه: بأنّ لازمه الالتزام بالملك بلا مالك، وذلك، لأنه: إذا وقع البيع على منفعة ولم يمكن تصحيحه بمثل قوله تعالى: (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ)(13)، تصل النوبة إلى استصحاب عدم البيع واستصحاب عدم جواز تصرّف المتعاملين في العوضين، وبقاء كلّ منهما على ملك صاحبه، إلاّ أنها شبهة مفهوميّة للفظ البيع، والمحقق الخوئي لا يرى جريان الإستصحاب في الشبهات المفهوميّة، وأمّا بالنسبة إلى الحكم، فهي شبهة حكميّة، وهو لا يرى جريانه في الشبهات الحكميّة الكلّية، فالمبيع إذا كان منفعةً غير باق على ملك صاحبه لعدم جريان الإستصحاب، والمعاملة لم تصحّح بعموم (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) حتى ينتقل المبيع إلى المشتري، فهو ـ إذن ـ ملك مجهول المالك.
ولو أُريد التمسّك بعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(14).
توجّه الإشكال: بأن العقود تابعة القصود، فإنْ وقع العقد تابعاً للقصد ثم شكّ في صحّته، تمّ التمسّك بالآية، لكنّ الذي أُدّعي عليه الاتّفاق بين الأصحاب، عدم صدق عنوان البيع إذا لم يكن المبيع عيناً، وعليه، فلا عقد حتى يصحّ التمسّك بعموم الآية.
الرابع: دعوى إنصراف إطلاقات البيع عن المنفعة، لكونها منصرفةً إلى ما هو المعهود والمتعارف في المعاملات البيعيّة وهو العين. قاله الميرزا النائيني(15):
وقد يشكل عليه: بأنّ المقصود معرفة المعنى الحقيقي والمجازي للفظ البيع، والتّمسك بالإطلاقات لا يفي بذلك.
وفيه: إنّه لا مانع من التّمسك بالإطلاقات لمعرفة المفاهيم الحقيقيّة لموضوعات الأحكام الشرعيّة، كما يتمسّك بالتبادر وبالانصراف وغير ذلك.
بل الحق في الإشكال عليه: أن التحقيق ـ كما هو عليه أهله وهو منهم ـ أنّ المعهود والمتعارف لا يكون منشأً للإنصراف، والتفصيل في الأصول.
وتلخّص: عدم تماميّة شيء من أدلّة القولين.
هذا بالنسبة إلى المطلب الأوّل.
(1) المبسوط 2 / 76، السرائر 2 / 240، تذكرة الفقهاء 10 / 5.
(2) جواهر الكلام 22 / 208.
(3) مفتاح الكرامة 12 / 480.
(4) مستند الشيعة 14 / 243.
(5) مسالك الأفهام 1 / 161.
(6) حاشية المكاسب: 72.
(7) سورة النساء: 74.
(8) سورة لقمان: 6.
(9) سورة المائدة: 44.
(10) مفتاح الكرامة 12 / 481، جواهر الكلام 22 / 208 و 209.
(11) مصباح الفقاهة 2 / 11، حاشية السيد اليزدي 1 / 272.
(12) المكاسب والبيع 1 / 88 ، مصباح الفقاهة 2 / 11.
(13) سورة البقرة: 275.
(14) سورة المائدة: 1.
(15) المكاسب والبيع 1 / 88 .