الوصف الثالث: الإيمان
قال المحقق قدّس سرّه: «الثالث: الإيمان، فلا تقبل شهادة غير المؤمن وإن اتصف بالإسلام لا على مؤمن ولا على غيره، لاتّصافه بالفسق والظلم المانع من قبول الشهادة»(1).
أقول: إن الإيمان بالمعنى الأخص الذي هو الإقرار بإمامة الأئمة الاثني عشرعليهم السلام من الأوصاف المعتبرة في الشاهد بلا خلاف، فلا تقبل شهادة غير المؤمن بالمعنى المذكور وإن اتصف بالإسلام، لا على مؤمن ولا على غيره، إلاّ ما سيأتي.
وقد جعل المحقق دليل عدم القبول اتصاف غير المؤمن بالفسق والظلم المانعين من قبول الشهادة، وفي (الجواهر): لاتصافه بالكفر فضلاً عن الفسق والظلم(2).
لكن كفر غير المؤمن بالمعنى الأخص محلّ خلاف، فعلى القول به كما هو مذهب جماعة بل قد حكى بعضهم الإجماع عليه فالمطلب تام بلا إشكال.
واستدلّ صاحب (الجواهر) لعدم قبول شهادة غير المؤمن بعدم الخلاف بل عن جماعة الإجماع عليه، بل لعلّه من ضروريّ المذهب في هذا الزمان.
لكن في المسألة خلاف من بعض المتأخرين.
واستدّل رحمه الله بالأصل بعد اختصاص إطلاقات الكتاب والسنّة ولو للتبادر وغيره بالمؤمن.
قلت: إن كانت الأدلة منصرفة عن المخالف أو لا تشمله إطلاقاتها، فالأصل تام، بل قد ذكرنا أن الأصل في صورة الشك هو عدم قبول الشهادة مطلقاً.
قال: خصوصاً نحو (رجالكم) و (ممن ترضون) بناءاً على المعلوم من مذهب الاماميّة من اختصاص الخطاب بالمشافهين دون غيرهم، وليس المخالف بموجود في زمن الخطاب. ولو سلّم العموم، فقد عرفت الخبر المفسر لقوله تعالى: (ترضون) برضا دينه، ولا ريب في كونه غير مرضي الدين(3).
قلت: يشكل أن يكون الخطاب للمؤمنين الواقعيين، على أنه يقتضي عدم تكليف المخالفين بطائفة من الأحكام التكليفية الصادرة بالخطابات.
ثم استدلّ بالنصوص الواردة في لعن المخالفين والدعاء عليهم، وأنهم «مجوس هذه الاُمة»(4) و «شرّ من اليهود والنصارى»(5)، وأنهم «لغير رشدة»(6) ونحو ذلك(7).
أقول: والعمدة في الإستدلال إسقاط المخالف عن العدالة، لعدم اعتقاده بالولاية، فإذا ثبت ذلك تم الاستدلال.
ومذهب المحقق وجماعة صدق «الفاسق» و «الظالم» عليه(8). فإن كان المراد هو الصدق العرفي، فإن الفسق ليس من المفاهيم العرفية التي يرجع في تشخيصها إلى أهل العرف. وأما في الشرع فالفسق، يتحقق بمعصية الله، وتحقق ذلك من المخالف محلّ خلاف، فهل فعل المعصية مع الجهل بكونها معصية فسق؟.
لا إشكال في تحقق الفسق بحسب الواقع بفعل المعصية مع الجهل بكونها معصية، وأما بحسب الظاهر، فالشهيد الثاني في (المسالك) على العدم، فإنه بعد أن اعترف بأن ظاهر الأصحاب الاتفاق على اشتراط الإيمان قال: وينبغي أن يكون هو الحجّة. ثم ذكر الاستدلال بصدق «الفاسق» و «الظالم» عليه، ثم قال: «وفيه نظر، لأن الفسق إنما يتحقق بفعل المعصية المخصوصة مع العلم بكونها معصية، أما مع عدمه بل مع اعتقاد أنها طاعة بل من اُمّهات الطاعات، فلا، والأمر في المخالف للحق في الإعتقاد كذلك، لأنه لا يعتقد المعصية، بل يزعم أن اعتقاده من أهم الطاعات، سواء كان اعتقاده صادراً عن نظر أم تقليد، ومع ذلك لا يتحقق الظلم أيضاً، وإنما يتفق ذلك ممن يعاند الحق مع علمه به، وهذا لا يكاد يتفق وإن توهّمه من لا علم له بالحال، والعامّة مع اشتراطهم العدالة في الشاهد يقبلون شهادة المخالف لهم في الاصول مالم يبلغ خلافه حدّ الكفر، أو يخالف اعتقاده دليلاً قطعيّاً بحيث يكون اعتقاده ناشئاً عن محض التقصير.
والحق: إن العدالة تتحقق في جميع أهل الملل مع قيامهم بمقتضاها بحسب اعتقادهم، ويحتاج في إخراج بعض الأفراد إلى الدليل، وسيأتي في شهادة أهل الذمّة في الوصيّة ما يدلّ عليه.
وعلى ما ذكره المصنف من فسق المخالف، فاشتراط الإيمان بخصوصه مع ما سيأتي من اشتراط العدالة لا حاجة إليه، لدخوله فيه»(9).
وقد شدّد عليه النكير الأردبيلي(10) وصاحب (الجواهر)(11). وقال كاشف اللثام: هو من الضعف بمكان(12).
وهو كذلك، ومواقع النظر فيه كثيرة، ومنها استدلاله بقبول شهادة أهل الذمّة في الوصيّة، فإن قبول الشهادة لا يدلّ على العدالة، وعلى ما ذكره، لا يبقى وجه لاشتراط الإيمان، بل المعتبر هو العدالة سواء اعتقد بالولاية بالإضافة إلى سائر اعتقاداته أو لا، فيكون «العادل» مثل «العاقل» إذ يصدق «العاقل» على من كانت أعماله مطابقة لحكم العقل، سواء كان مسلماً أو لا.
وإن أراد تحقق «العدالة» عنده بحسب اعتقاداته في ملّته وكونه معذوراً، ففيه: إنه يخالف ظاهر قوله تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالاَْخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)(13) إذ لا فرق بين هؤلاء والكفّار والمشركين في أنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
والتحقيق: إن العذر يكون قبل تماميّة الحجّة، وهذا ما يحكم به العقل ويرشد إليه قوله عز وجل (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا)(14) لكن الحجّة قد تمّت(15)، و (قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)(16) فالمخالفون فاسقون لا سيّما وأن أكثرهم متعصبون ومعاندون، وفي الخبر: «نحن الذين فرض الله طاعتنا، لا يسع الناس إلا معرفتنا، ولا يعذر الناس بجهالتنا، من عرفنا كان مؤمناً، ومن أنكرنا كان كافراً، ومن لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ضالاًّ حتى يرجع إلى الهدى الذي افترض الله عليه من طاعتنا الواجبة، فإن يمت على ضلالته يفعل الله به ما يشاء»(17).
ويدلّ هذا الخبر ـ كغيره من الأخبار المستفيضة ـ على أن المخالفين معاقبون وأن جميعهم مقصرون، وإليك نصوص بعضها:
1 ـ محمد بن مسلم قال: «سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: كلّ من دان الله عزوجل بعبادة يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله، فسعيه غير مقبول، وهو ضال متحير، والله شانئ لأعماله، ومثل