الأقوال في شهادة الصبي
قال المحقق قدّس سرّه: «واختلفت عبارات الأصحاب في قبول شهادتهم في الجراح والقتل، فروى جميل عن أبي عبد الله عليه السلام: تقبل شهادتهم في القتل، ويؤخذ بأوّل كلامهم، ومثله روى محمد بن حمران عن أبي عبد الله عليه السلام. وقال الشيخ في النهاية: تقبل شهادتهم في الجراح والقصاص(1).
وقال في الخلاف: تقبل شهادتهم في الجراح مالم يتفرّقوا، إذا اجتمعوا على مباح(2).
والتهجّم على الدماء بخبر الواحد خطر، فالأولى الإقتصار على القبول في الجراح بالشروط الثلاثة: بلوغ العشر، وبقاء الإجتماع، إذا كان على مباح، تمسّكاً بموضع الوفاق»(3).
أقول: مقتضى الجمع بين الأخبار التي ذكرناها هو القبول في القتل، إلا أن الشروط المعتبرة فيه مختلف فيها كما سيأتي، وليس في شيء من الأخبار ذكر للجراح، إلا أن جماعة يذكرونه مع القتل كما في عبارة المحقق، ولعلّه للأولويّة، لكن إثباتها مشكل، وإلاّ لزم القبول في جميع الامور، لوضوح أهمية القتل منها، اللهم إلا أن يكون الدليل عبارة الشيخ في (النهاية) التي ذكرها المحقق، بناء على أن عباراتها متخذة من متون الأخبار، مؤيداً بخبر دعائم الإسلام(4).
أمّا في (الخلاف)، فقد ذكر الجراح ولم يذكر القتل(5)، وعليه المحقق في (النافع)(6) بل هو معقد إجماع محكي (الخلاف) و (الانتصار)(7)، فيكون هو الدليل العمدة، لكن في (التحرير) و (الدروس) الإشتراط بأن لا يبلغ الجراح النفس(8).
ومختار المحقق هنا هو أولويّة الاقتصار على القبول في الجراح، معللاً بأن التهجّم على الدماء بخبر الواحد خطر.
إنما الكلام في الشروط المعتبرة في القبول، فقد اختلفت عبارات الأصحاب فيها، تبعاً لاختلاف النصوص، فاعتبر الشيخ رحمه الله في (الخلاف) شرطين أحدهما: مالم يتفرقوا، والثاني: إذا اجتمعوا على مباح(9)، وزاد المحقق شرطاً ثالثاً وهو: بلوغ العشر، فنقول:
أمّا «بلوغ العشر» فقد ذكر في الخبر عن إسماعيل فقط، وقد عرفت آنفاً حال هذا الخبر.
وأمّا «كون اجتماعهم على مباح» فلم نعثر على نص يقتضي اعتباره.
وأمّا «بقاء الإجتماع» فيدل عليه خبر طلحة بن زيد(10)، لكنه ضعيف على المشهور(11).
ولعل السبب في اعتبار هذا الشرط هو: أن الصبي يشهد بما سمع أو رأى كما هو الواقع والحقيقة، وإن كان في شهادته ضرر على أحد من أقرب الناس إليه، أمّا إذا رجع إلى أهله فيحتمل قويّاً أن يلقّنه أهله ما يخالف الواقع، ويشوهوا عليه الحقيقة.
فظهر بما ذكرنا عدم تماميّة اعتبار شيء من الشروط الثلاثة المذكورة، بحسب النصوص الواردة في المقام(12)، لكن الظاهر من قول المحقق قدّس سرّه «تمسّكاً بموضع الوفاق»(13) هو أن مقصوده طرح النصوص والرجوع إلى الإجماع، والمتيقّن من الإجماع عنده هو الجراح بالشروط الثلاثة.
قلت: إن القدر المتيقن هو اعتبار «الأخذ بأوّل كلامهم» كما في خبري جميل ومحمد بن حمران، وعن جماعة كثيرة من أصحابنا الأعيان(14)، واعتبار قيد «الضرورة»، كما في خبر محمد بن سنان(15)، فلو أمكن الإستشهاد من بالغ عادل لم تقبل شهادة الصبي، وإلا فتسمع، سواء «بقي الاجتماع» أو لا. ومن ذلك يظهر أن قوله «بينهم» في خبر طلحة(16) بيان مصداق لـ «الضرورة» ولذا قال: «ومثل شهادة الصبيان على القتل إذا لم يوجد غيرهم»(17).
ومن هذا الباب قبول أمير المؤمنين عليه السلام شهادة الغلمان وقضاؤه بالدية، فيما رواه السكوني عن الصادق عليه السلام: «رفع إلى أمير المؤمنين عليه السلام ستة غلمان كانوا في الفرات، فغرق واحد منهم، فشهد ثلاثة منهم على اثنين أنهما غرّقاه، وشهد اثنان على الثلاثة أنهم غرقوه، فقضى بالدية ثلاثة أخماس على الاثنين وخمسين على الثلاثة»(18) بناءاً على كون المراد من الغلام في الخبر هو الصغير.
فهذا هو القدر المتيقّن من دلالة الأخبار بعد الجمع بينها، وبه يظهر النظر في كلمات صاحب (الجواهر) في هذا المقام، كما بان لك النظر في كثير من الكلمات المسطورة في هذا المبحث. هذا كلّه في القتل.
وأمّا الجراح، فلابدّ فيه من القطع بالملاك، حتى تتم الأولويّة، وذلك في غاية الإشكال، بل ظاهر خبر محمد بن حمران نفي الأولوية، حيث قال عليه السلام «لا إلا في القتل»(19)، اللهم إلا أن يقال بالجراح المنجرّ إلى القتل، لكن فيه: أن القتل قد يكون بلا جرح.
هذا، ولما كان موضوع النصوص هو «الصبي» ولا دليل على إلغاء الخصوصية، فالظاهر اختصاص الحكم بشهادته دون «الصبيّة» فإنها تبقى على مقتضى الاصول والعمومات الدالّة على عدم قبول شهادتها، وبه صرّح العلاّمة في (التحرير)(20)والشهيد الثاني في (الروضة البهية)(21) وغيرهما(22).
(1) النهاية : 331 . وفيه : في الشجاج والقصاص.
(2) كتاب الخلاف 6 : 270 ، المسألة 20.
(3) شرائع الإسلام 4 : 125.
(4) دعائم الإسلام 2 : 408/1421.
(5) كتاب الخلاف 6 : 270 ، المسألة 20.
(6) المختصر النافع : 278.
(7) جواهر الكلام 41 : 11.
(8) الدروس الشرعيّة 2 : 123 ، تحرير الأحكام 5 : 243 244.
(9) كتاب الخلاف 6 : 270 ، المسألة 20.
(10) وسائل الشيعة 27 : 345/6 . كتاب الشهادات ، الباب 22.
(11) جامع الرواة : 1/421 ، رجال ابن داود : 251/244 ، خلاصة الأقوال : 361/1.
(12) وتحصيل الإجماع بقطع النظر عن النصوص الواردة في المسألة مشكل جدّاً، وهل يمكن الإطمينان إلى هذا الإجماع مع وجود هذه النصوص الكثيرة؟
(13) شرائع الإسلام 4 : 125.
(14) المقنعة : 727 ، الإنتصار : 506 ، الكافي في الفقه : 436 ، النهاية : 331 ، السرائر 2 : 136 .
(15) وسائل الشيعة 27 : 365/50 . كتاب الشهادات ، الباب 24.
(16) وسائل الشيعة 27 : 345/6 . كتاب الشهادات ، الباب 22.
(17) وسائل الشيعة 27 : 365/50 . كتاب الشهادات ، الباب 24.
(18) وسائل الشيعة 29 : 235/1 . أبواب موجبات الضمان ، الباب 2.
(19) وسائل الشيعة 27 : 343/2 . كتاب الشهادات ، الباب 22.
(20) تحرير الأحكام 5 : 244.
(21) الروضة البهيّة 3 : 125.
(22) رياض المسائل 15 : 236.