الكلام في:
كتاب قاض إلى قاض
إعلم أن حكم الحاكم موضوع لأحكام بالنسبة إلى غيره من الحكّام، كوجوب الإنفاذ في بعض الموارد، وعدم جوازه في بعض الموارد، ووجوب التفحص عن دليله في موارد، وعدم جوازه في أخرى.
ثم الحكم الذي يصدره الحاكم، يمكن إنهاؤه إلى الحكّام الآخرين: بالقول، وبالكتابة، بشهادة العدلين، وبإقرار المحكوم عليه بذلك الحكم.
حكم إنهاء الحكم بالكتابة
وبالنسبة إلى إنهائه بالكتابة قال المحقق(1): «أما الكتابة فلا عبرة بها».
أي: فلا تكون موضوعاً لشيء من الأحكام، قال: «لإمكان التشبيه».
وهذا التعليل يتوجّه في عصرنا بالنسبة إلى الأحكام التي يصدرها الحكّام أو ينهونها بواسطة الهاتف أيضاً، لإمكان التشبيه في الصوت بسهولة جدّاً.
وأضاف في (الجواهر): «وعدم القصد إلى الحقيقة، وعدم الدليل شرعاً على اعتبار دلالتها».
وقد ادّعي الإجماع على عدم العبرة بالكتابة، وحكي عن بعضهم نفي الخلاف فيه، وقيل: لا مخالف إلا أبو علي ابن الجنيد الإسكافي، والأردبيلي حيث اعتبرها في صورة العلم بالكتابة، وكونه قاصداً لمعناها، قال: ولهذا جاز العمل بالمكاتبة في الرواية، وأخذ المسألة والعلم، والحديث من الكتاب المصحح عند الشيخ المعتمد، ولأنه قد يحصل منها ظن أقوى من الظن الحاصل من الشاهدين، بل يحصل منها الظن المتاخم للعلم، بل العلم مع الأمن من التزوير، وأنه كتب قاصداً للمدلول، وحينئذ يكون مثل الخبر المحفوف بالقرائن المفيدة للعلم بأن القاضي الفلاني الذي حكمه مقبول حكم بكذا، فإنه يجب إنفاذه وإجراؤه من غير توقف، ويكون ذلك مقصود ابن الجنيد، ويمكن أن لا ينازعه فيه أحد، بل يكون مقصودهم الصورة التي لم يؤمن فيها التزوير، أو لم يعلم قصد الكاتب إرادة مدلول الرسم(2).
وأجاب عنه في (الرياض) بقوله: وفيه نظر، لأن ذلك فرع قيام دليل قاطع على جواز العمل بالظن مطلقاً، ولم نجده في نحو محل البحث ممّا يتعلق بموضوعات الأحكام التي لم تتوقف عليها مطلقاً، ولو كان الظن للعلم متاخماً، ومجرّد كون الظن بالكتابة أقوى من الظن الحاصل من شهادة الشاهدين لايوجب قطعيتّه ولا حجيته إلا على تقدير أن تكون حجيتها من حيث إفادتها المظنة وهو ممنوع، بل كلمة القائلين بحجيّتها وسماعها هنا مطبقة على أنها من جهة الأدلّة الأربعة التي سيأتي ذكرها، وهي أدلّة قاطعة أو ظنية ظناً مخصوصاً مجمعاً عليه، ومثلها لم يقم على اعتبار ظن الكتابة، بعد إمكان دفع الضرورة ـ التي هي الأصل في تلك الأدلّة ـ بالشهادة على الحكم وإقامة البينة وإنفاذ الحاكم الثاني الحكم بها.
وعلى الجملة، لو كان السبب لاعتبار شهادة الشاهدين هو إفادتها المظنة أمكن ما ذكره، أما لو كان قضاء الضرورة وغيره مما هو كالدليل القاطع، فلا وجه له ولا لقياس الكتابة بالشهادة، ولا بالإكتفاء بالرواية المكاتبة، وأخذ المسألة، ونحوهما مما ذكره، لأن مستند الإكتفاء بهذه الامور المعدودة في نحو الأحكام الشرعية إنما هو من حيث قضاء الضرورة، وانسداد باب العلم بها بالكليّة، وعدم إمكان تحصيلها إلا بالمظنة، وأن عدم اعتبارها حينئذ يوجب إما الخروج عن التكليف، أو التكليف بما لا يطاق، وهما ممتنعان قطعاً، عقلاً وشرعاً، وهذا السبب يختص بها دون ما نحن فيه مما لم ينسد فيه باب العلم(3)…
وقال في (الجواهر) بعد كلام الأردبيلي المذكور: التحقيق: أن الكتابة من حيث أنها كتابه لا دليل على حجيّتها قطعاً مطلقاً، سواء في إقرار وغيره، بل عن ابن إدريس في نوادر القضاء التصريح بأنه لا يجوز للمستفتي أن يرجع إلا إلى قول المفتي دون ما يجده بخطّه ـ إلى أن قال ـ بغير خلاف من محصّل ضابط لاصول الفقه، وبنى على ذلك عدم حجية المكاتبة، قال: لأن الراوي للكتابة ما سمع الإمام يقول، ولا شهد عنده شهوده أنه قال، وإن كان فيه ما ستعرف.
نعم، إذا قامت القرائن الحاليّة وغيرها على إرادة الكاتب بكتابته مدلول اللفظ المستفاد من رسمها، فالظاهر جواز العمل بها، للسيرة المستمرة في الأعصار والأمصار على ذلك، بل يمكن دعوى الضرورة على ذلك، خصوصاً مع ملاحظة عمل العلماء في نسبتهم الخلاف والوفاق، ونقلهم الإجماع وغيره في كتبهم المعوّل عليها بين العلماء… ولكن مقتضى ذلك أن تكون الكتابة فيما نحن فيه ـ بعد انتفاء احتمال التزوير وعدم القصد وغيرهما من الاحتمالات ـ بمنزلة إخباره بالحكم، فإن قلنا بقبوله قبلت وإلا فلا.
وربما أشعر التعليل الأول في عبارة المصنف، والثاني في عبارة غيره بإرادة غير هذا الفرد من الكتابة، كما أنه يمكن حمل كلام ابن الجنيد ومن وافقه على ما ذكرنا، فيعود النزاع لفظياً.
وتحمل الروايتان على العمل بالحكم بالكتابة، بمعنى إيجاد الحكم بها باللّفظ، لا على العمل بها من حيث أنها كتابة، إذ من المعلوم عدم دلالتها على كونها منه، وأنه قصد بها معنى اللفظ المستفاد من رسمها(4)…
قلت: والتحقيق هو النظر في الجهات الموجبة للشك بحجية الكتابة والمفرقة بينها وبين القول، والذي يوجب الشك في الاعتبار ليس إلا احتمال الكذب، أو احتمال السهو والنسيان، أو احتمال عدم القصد.
أمّا الأول فالمفروض عدمه للوثاقة.
وأما غيره من الاحتمالات، فكلّها منتفية بالأصل.
والفرق بين القول والكتابة هو: مجى احتمال التشبيه في الثاني دون الأول، ولذا لم يذكر المحقق غير هذا الاحتمال لعدم العبرة بالكتابة، وإن كان احتمال عدم القصد في الكتابة أقوى منه في القول، لكنه يندفع بالأصل كما تقدم، ويندفع أيضاً بالعلم بالكتابة وكونها خط فلان.
وأضاف في (السرائر): إحتمال التزوير(5)، وهو ـ كما في مجمع البحرين ـ: تزيين الكذب. ولكن هذا الاحتمال مشترك بين القول والكتابة.
وأما الإجماع المدعى فهو منقول، وتبقى الروايتان:
1 ـ عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السلام: «إنه كان لا يجيز كتاب قاض إلى قاض، في حدّ ولا غيره، حتى وليت بنوا اُمية، فأجازوا بالبيّنات»(6).
2 ـ عن طلحة بن زيد عن جعفر عن أبيه عن علي مثلها(7).
وهما ـ بناء على اعتبار هما بعمل الأصحاب(8) ـ محمولتان على أن ذلك كان منه عليه السلام في مورد عدم حصول الإطمينان بالكتابة، وقصد كاتبها لما كتبه.
فالعمدة في الاستدلال على عدم العبرة بالكتابة هو عدم الدليل النقلي على العبرة بها، إلا أنا نستدل بالسيرة العقلائية القائمة على الإعتبار في حال الوثوق والإطمينان، ولا رادع عن هذه السيرة، والروايتان قد عرفت حملهما على مورد خاص.
والحاصل: إن الاحتمالات مشتركة بين القول والكتابة، فحيث تنتفي عن الكتابة قبلت كالقول بلا فرق.
(1) شرائع الإسلام 4 : 95.
(2) جواهر الكلام 40 : 303 ـ 304.
(3) رياض المسائل 15 : 134 ـ 136.
(4) جواهر الكلام 40 : 304 ـ 305.
(5) السرائر في الفقه 2 : 187.
(6) وسائل الشيعة 27 : 297/1 . كتاب القضاء ، الباب 28.
(7) وسائل الشيعة 27 : 298/1 . كتاب القضاء ، الباب 28.
(8) سند رواية السكوني: الشيخ بإسناده عن سعد بن عبد الله عن أحمد عن أبيه عن ابن المغيرة عن السكوني عن جعفر عليه السلام… قال المحقق الرشتي: سند رواية السكوني إلى السكوني على ما أخبر به شيخنا دام ظله صحيح، والسكونى عامي إلا أن رواياته معمول بها عند الأصحاب، فلا شين فيها من حيث السند.
قال في الوسائل بعد رواية السكوني: « وعنه عن محمد بن عيسى عن محمد بن سنان عن طلحة بن زيد عن جعفر… » وفي (محمد بن سنان) و (طلحة بن زيد) بحث كما لا يخفى.
وكيف كان، ففي الجواهر ( 40 : 303 ) عن المختلف ( 8 : 428 ) وصف الخبرين بالمشهورين المستفيضين.
وسيأتي بعض الكلام حول (السكوني) و (طلحة بن زيد).