مسائل
تتعلّق بالحكم على الغائب
الأصل ـ لولا الدليل ـ عدم نفوذ الحكم على الغائب، إلا أنه لا ريب في سماع الدعوى ونفوذ الحكم عليه، وفي ( الجواهر )(1) الإجماع بقسميه عليه ، وقد يستدلّ لذلك بالأدلّة التالية:
1 ـ إطلاق أدلّة القضاء، كقوله تعالى (فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ )(2).
2 ـ إطلاق أدلّة الحكم بالبيّنة واليمين، كقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم « إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان »(3).
إلا أن التمسك بهاتين الطائفتين من الأدلّة غير تام، لعدم الإطلاق الشامل للغائب فيها، بحيث يمكن أن يكون دليلاً للجواز، لولا الأخبار الخاصة والإجماع، لأن هذه الأدلّة في مقام بيان الحكم على الإجمال، فهي تبين أصل القضاءوتشريعه من غير تعرّض للشرائط والخصوصيات، ويكون معنى « إنما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان »: إني لا أقضي بينكم عن طريق العلم بالغيب ولا بالمعجزة ، بل أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان ، بل إن هذا الحديث ونحوه منصرف عن صورة كون أحد المتخاصمين غائباً.
3 ـ ما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من أنه قال لهند زوجة أبي سفيان ـ بعد أن ادّعت أنه رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي ـ: « خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف »(4) وكان أبو سفيان غائباً.
وفيه ـ مع الغض عن سنده، وعمّا قيل من أن كون أبي سفيان غائباً غير معلوم ـ أنه لا ظهور له في كون ذلك من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من باب الحكم، بل كونه من باب الولاية على الممتنع أولى، فلا يتم الإستدلال به.
4 ـ ما روي عن أبي موسى الأشعري: « كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا حضر عنده خصمان فتواعدا الموعد ، فوفى أحدهما ولم يف الآخر، قضى للذي وفى على الذي لم يف. أي مع البينة »(5).
وهذا الحديث ـ مع الغض عن سنده ـ صريح في حضور كليهما عند الحاكم وغياب أحدهما عند الحكم، فلا يستدلّ به لصورة غياب أحدهما من الأوّل.
5 ـ خبر جميل: « الغائب يقضى عليه إذا قامت عليه البينة ويباع ماله ويقضى عنه دينه وهو غائب، ويكون الغائب على حجته إذا قدم، ولا يدفع المال إلى الذي أقام البينة إلاّ بكفلاء »(6).
6 ـ خبر محمد بن مسلم: « الغائب يقضى عليه إذا قامت عليه البينة ويباع ماله ويقضى عنه دينه وهو غائب، ويكون الغائب على حجته إذا قدم، ولا يدفع المال إلى الذي أقام البينة إلاّ بكفلاء إذا لم يكن مليّاً »(7).
7 ـ إطلاق ما روي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: « القضاة أربعة، ثلاثة في النار وواحد في الجنة، رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة »(8).
لكن الظاهر كونه في مقام بيان لزوم العلم بالحق والحكم بالحق فقط، فلا إطلاق له ليستدلّ به في المقام.
وببعض ما ذكر يتقيّد إطلاق ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: « إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأوّل حتى تسمع من الآخر، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء »(9) وإن كان يحتمل ظهور « تقاضى إليك رجلان » في كونهما حاضرين، فيكون وجه الجمع : الحكم في القضية جزماً ويكون الغائب على حجته إذا قدم.
وما عن علي عليه السلام قال: « قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا وجّهني إلى اليمن: إذا تحوكم إليك فلا تحكم لأحد الخصمين دون أن تسأل من الآخر. قال: فما شككت في قضاء بعد ذلك »(10).
وما رواه العياشي في تفسيره عن الحسن عن علي عليه السلام: إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعثه ببراءة ـ إلى أن قال ـ فقال: « إن الناس سيتقاضون إليك، فإذا أتاك الخصمان فلا تقض لواحد حتى تسمع من الآخر، فإنه أجدر أن تعلم الحق »(11) بناء على ظهورهما في الإطلاق ، ويكون مفاد أخبار الأمر بالسؤال من الآخر أنه إذا حضرا معاً ، فلا يجوز الحكم قبل السؤال من الآخر وسماع كلامه، وقد حمل الأمر بالسؤال منه على الإرشاد ، ولكنه خلاف الظاهر.
وأما ما رواه أبو البختري عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السلام من أنه قال: « لا يقضى على غائب »(12) فلا يعارض ما تقدّم، لضعف سنده(13)، ولإعراض الأصحاب عنه، مع إمكان حمله على بعض الوجوه.
وبعد، فهل يقضى على الغائب في كلّ دعوى وعلى كلّ حال ؟
يتضح الأمر في هذا المقام في مسائل:
(1) جواهر الكلام 40 : 220.
(2) سورة ص 38 : 26.
(3) وسائل الشيعة 27 : 232/1 . أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، الباب 2.
(4) حديث عامي ـ انظر : مسند أحمد 6 : 39 ـ ووصفه صاحب الجواهر بالمستفيض ، انظر مسند أحمد 6 : 39.
(5) حديث عامي ، انظر : الحاوي الكبير 16 : 298.
(6) وسائل الشيعة 27 : 294/1 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 26.
(7) وسائل الشيعة 27 : 295/ ذيل ح1 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 26.
(8) وسائل الشيعة 27 : 22/6 . أبواب صفات القاضي ، الباب 4.
(9) وسائل الشيعة 27 : 216/2 . أبواب آداب القاضي ، الباب 4.
(10) وسائل الشيعة 27 : 217/6 . أبواب آداب القاضي ، الباب 4.
(11) وسائل الشيعة 27 : 217/7 . أبواب آداب القاضي ، الباب 4.
(12) وسائل الشيعة 27 : 296/4 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 26.
(13) لأن راويه أبا البختري ـ وهو : وهب بن وهب ـ ضعيف كما نصّ عليه علماء الرجال.