4 ـ حكم ما لو قال في الجواب « لا أدري »:
إذا أجاب المدّعى عليه بقوله « لا أدري »، فإن كان للمدّعي بينة على دعواه فهو ، وإلا فوجوه:
منها: سقوط الدعوى، لأن المدّعي ـ بعد فرض عدم البينة ـ يقرّ بأن من لا يدري هل هو مدين أو لا، لا يجب عليه دفع شيء.
ومنها: أن يحلف المدّعى عليه بأنه لا حق للمدّعي في ذمته استناداً إلى الأصل، فإن شك في مشروعية هذه اليمين وسقوط الدعوى بها، فالأصل هو العدم ، ولكن تعارضه أصالة عدم استحقاق الحق.
ومنها: إن يردّ اليمين على المدّعي.
ومنها: إنه منكر وعليه اليمين بنفي العلم باستحقاق المدعي ما يدّعيه عليه، قال في ( الجواهر ): « ثم إن ظاهر حصر الأصحاب حال المدّعى عليه في الثلاثة عدم حال آخر رابع مخالف لها في الحكم، وحينئذ، فإذا كان جوابه لا أدري ولا أعلم ونحو ذلك ، فهو منكر، ضرورة عدم كونه إقراراً كضرورة عدم كونه ساكتاً فليس إلا الإنكار، وانسياق القطع بالعدم منه لا ينافي كونه فرداً آخر له ، مرجعه عدم استحقاق ما يدعيه وإن لم يعلمه في نفس الأمر، ضرورة اقتضاء تعلّق الدعوى به استحقاق المدّعى به عليه، فإذا نفى العلم بسببه كان نافياً للاستحقاق المزبور الذي هو روح الدعوى عليه، وبذلك يكون منكراً لا يتوجّه عليه إلا اليمين لموافقته للأصل وغيره، ولا ينافي ذلك ما تسمعه من الأصحاب ـ من غير خلاف فيه يعرف بينهم ـ من اعتبار الحلف على البت في فعله نفياً وإثباتاً، المنزّل على الصورة الغالبة من الإنكار، بخلاف ما إذا كان إنكاره بالصورة الثانية، فإنه يحلف على عدم العلم نحو يمين الوارث »(1).
ومنها: ما ذكره السيّد قدّس سرّه ـ ولا يبعد كونه الأصح ـ وهو التفصيل بين صورة تصديق المدّعي دعوى المدعى عليه عدم الدراية وبين صورة عدم تصديقه لها، فقال ما حاصله بلفظه(2): « إذا أجاب المدّعى عليه بقوله: لا أدري، فإما أن يصدّقه المدعي في هذه الدعوى أو لا. فعلى الأوّل: إن كان للمدعي بينة على دعواه فهو وإلاّ فلا حق له، لأن المفروض تصديقه في عدم علمه، ومعه ليس مكلّفاً بالأداء في مرحلة الظاهر، لأن الأصل براءة ذمته والمدعي أيضاً معترف بذلك، فالمقام نظير الدعوى على الميت مع عدم البينة واعتراف المدعي بعدم علم الوارث، فإنه لا خلاف في سقوط دعواه حينئذ. ويمكن أن يستدلّ على ما ذكرنا بالأخبار الواردة في ادّعاء رجل زوجيّة امرأة لها زوج، وأنه لا تسمع دعواه إذا لم تكن بينة، كموثقة سماعة(3) ورواية يونس(4) وحسنة عبد العزيز(5)، فإن المفروض في هذه الأخبار عدم علم الزوج بصدق المدعي وكذبه، والظاهر عدم الفرق بين دعوى الزوجيّة وغيرها.
وعلى الثاني، فللمدّعى عليه أن يحلف على عدم اشتغال ذمّته فعلاً بحسب الظاهر، لأنه منكر من هذه الحيثية، فالمنكر قسمان: منكر للإشتغال الواقعي، ومنكر للإشتغال بحسب ظاهر الشرع، وللمدّعي أن يحلّفه على نفي العلم إن ادّعى علمه بثبوت الحق، فإن حلف كفى في سقوط الدعوى، وإن ردّ اليمين على المدعي أو الحاكم ردّها عليه فحلف ثبت حقه، ولكن هذا الحلف لا يوجب سقوط حقه واقعاً حتى لا تسمع منه البينة بعد ذلك ولا يجوز له المقاصّة ».
هذا إذا كانت الدعوى ديناً.
وأما إذا كانت متعلّقة بعين في يده وأجاب المدّعى عليه بقوله: « لا أدري » ، فقد ذكروا : أنه إن كانت تحت تصرف تلك اليد فقط ، ولم تشاركها يد أخرى في الأخذ والوضع من الصندوق الذي وضعت تلك العين فيها مثلاً، كانت اليد المنحصرة حجة، وإلاّ وجب على المدعي إقامة البينة، فإن أقامها حكم له وإلاّ فبما أن المدعى عليه غير متمكن من الحلف لعدم درايته بالواقع ـ ومن هنا أيضاً لايمكنه ردّ اليمين على المدعي ـ تكون الدعوى ساقطة ظاهراً.
وقال السيد رحمه الله ما ملخّصه: بل يمكن أن يقال بجواز حلفه على عدم الحق للمدعي على الميت، اعتماداً على يد من انتقلت منه إليه، كما يظهر من خبر حفص بن غياث(6)، فإنه يظهر منه جواز الحلف إذا اشترى من ذي يد، بل يظهر منه جواز الشهادة باليد، مع أن أمر الشهادة أصعب، بل وكذا إذا كانت في يده ولم يعلم حالها يحكم بمقتضى يده أنها له، ولا يضرّ قوله: لا أدري من أين صارت في يدي وأنها في الواقع لي أو ليست لي(7).
لكن قال في ( المستند ) في هذه الصورة: إن ردّ اليمين على المدعي فحلف كانت له، وإن لم يدّع عليه العلم أو ادّعى وحلف على نفي العلم لا يحكم بكونها له بل يقرع بينه وبين المدّعي، لأنه يشترط في دلالة اليد على الملكية عدم اعتراف ذيها بعدم علمه بأنه له أو لا(8).
قلت: والأولى ما ذكره السيد قدّس سرّه، لأنه مقتضى قاعدة اليد.
ثم إنه بناء على ما ذكرنا من سقوط الدعوى في صورة تصديق المدعي دعوى المدعى عليه عدم درايته، وأنه لا أثر لليمين حينئذ ـ لأن الغرض منها إزالة الشك في صدقه، فمع العلم به لا أثر لها ـ يحكم بسقوط الدعوى كذلك لو علم بصدقه في دعوى عدم الدراية، من دون حاجة إلى يمين المدّعى عليه على ذلك.
وقال بعض أعلام العصر: وإذا أجاب المدّعى عليه بعدم العلم، فقد يقال مع تصديق المدّعي له، فإما أن يكون له بينة فهو، ومع عدمها لا حق له، لعدم كون المدعى عليه مكلّفاً بالأداء في الظاهر والمدعي معترف بذلك ، فلا يجوز مطالبته، ومعه ليست الدعوى مسموعة حتى يقال يصدق عليه المدعي، وكلّ دعوى مسموعة يكون الفصل فيها بالبيّنة واليمين، وذلك لعدم البينة وعدم إمكان الحلف على الواقع لعدم العلم به ولا على الظاهر لتصديقه له في براءته بحسب الظاهر(9).
وفيه: أنه ليس الشك في الصدق ملحقاً بالعلم به في عدم جواز الإحلاف، لأن اليمين هي للإستظهار في حال تكذيبه دعوى نفي العلم أو الشك في صدق هذه الدعوى.
وإنما يحلّف مع كون الأصل عدم كونه مديناً، لأن الصحيح ـ كما ذكر الشيخ الاستاذ قدّس سرّه(10) ـ إن قولهم بعدم وجوب الفحص في الشبهة الموضوعية ليس على إطلاقه، لأنه قد يكون الفحص من السهولة بحيث لا يصدق معه الشك والشبهة عرفاً، فلو توقّف ظهور حقيقة الحال في المنازعة على حق ، على مراجعة دفتر الحساب، لم يؤثر جواب المدعى عليه بالشك في صدق الدعوى وتمسّكه بأصالة العدم حينئذ… وما نحن فيه من هذا القبيل، فالحلف لابدّ منه في هذا المقام.
(1) جواهر الكلام 40 : 211 ـ 212.
(2) تكملة العروة الوثقى 3 : 104.
(3) وسائل الشيعة 20 : 300/2 . أبواب عقد النكاح ، الباب 23.
(4) وسائل الشيعة 20 : 300/3 . أبواب عقد النكاح ، الباب 23.
(5) وسائل الشيعة 20 : 300/3 . أبواب عقد النكاح ، الباب 23.
(6) وهو: « عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال له رجل: إذا رأيت شيئاً في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنه له ؟ قال: نعم. قال الرجل: أشهد أنه في يده ولا أشهد أنه له فلعلّه لغيره. فقال أبو عبد الله عليه السلام: أفيحلّ الشراء منه ؟ قال: نعم. فقال أبو عبد الله عليه السلام: فلعلّه لغيره، فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكاً لك ثم تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك ؟ ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق ».
(7) العروة الوثقى 3 : 106.
(8) مستند الشيعة 17 : 355.
(9) جامع المدارك : 6/41.
(10) آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم اليزدي الحائري طاب ثراه ، مؤسس الحوزة العلمية.