أحكام قيام البينة على الغائب و الصبي و المجنون:
قال المحقق قدّس سرّه: « ولو شهدت على صبي أو مجنون أو غائب، ففي ضمّ اليمين إلى البينة تردد، أشبهه أنه لا يمين، ويدفع الحاكم من مال الغائب قدر الحق بعد تكفيل القابض بالمال »(1).
أقول: ذكروا أن للحاكم أو عليه أن يدفع من مال الغائب إلى المدعي، وهذا سواء قلنا بأن اليمين شرط حجية البينة هنا أو لم نقل بذلك، فإنه بعد قيام الحجة على الحكم وتماميّة الحكم من قبل الحاكم، يدفع الحاكم من مال الغائب قدر الحق الثابت عليه، لكن بعد تكفيل القابض بالمال، لأن الغائب على حجته، فلو حضر وظهر براءة ذمته من الحق المدّعى ، استرجع المال المأخوذ منه إليه….
وهل المراد من الكفالة هنا هو الضمان ؟
إن الضمان المصطلح في الدين هو: أن يضمن الشخص للدائن طلبه من المدين ، فينتقل الحق من ذمة المدين إلى ذمة الضامن، ويكون هو المطالب بالحق في حال عدم وفاء المدين بالحق، لكن يشكل، أن يكون المراد من التكفيل هنا هذا المعنى، لعدم ثبوت اشتغال ذمة القابض ـ فلا معنى لأن يضمنه غيره، لأنه من قبيل ضمان ما لم يجب وهو باطل ـ وإن لم يكن عندنا قطع بعدم اشتغال الذمة، وأما العين، فإن ضمانها يكون بنحو التعهّد لأخذها وردّها إلى صاحبها. وحينئذ يقع الشك في هذا المورد، لأنه ـ لما يدعي المدعي الحق على الغائب ويقيم البينة على ذلك ويحكم الحاكم له ، ويدفع إليه من مال الغائب بقدر الحق بعد تكفيل القابض بالمال لما ذكرنا ـ يشك في أنه هل يصح ضمان الدين المشكوك. وبعبارة أخرى: هل يصح أن يضمن الحق على تقدير ثبوته ؟
هذا في غير ما نحن فيه مشكل، لكن لمّا لم يكن ما نحن فيه من قبيل ضمان ما لم يجب، أمكن الضمان فيه على تقدير، نعم ، يبقى فيه إشكال أن الإنشائيات يشترط فيها التنجيز ولا يصح التعليق، إلا أن يدفع بأن التعليق هو في المنشأ لا في الإنشاء.
هذا، ولا حاجة إلى ذكر دليل على جواز دفع الحاكم من مال الغائب إلى المدعي، لوضوح أن ذلك هو الأثر المترتب قهراً على البيّنة وحكم الحاكم بالحق، وأما التكفيل فدليل القول به هو النص، وإلا لم تكن حاجة إليه بعد ثبوت أن الغائب على حجته وأنه يسترجع ماله فيما إذا حضر وثبت براءة ذمته، والنصّ المشار إليه هو:
ما رواه الشيخ بإسناده عن أبي القاسم جعفر بن محمد ، عن جعفر بن محمد بن إبراهيم ، عن عبد الله بن نهيك ، عن ابن أبي عمير ، عن جميل بن دراج ، عن جماعة من أصحابنا عنهما عليهما السلام : « الغائب يقضى عليه إذا قامت عليه البينة، ويباع ماله ويقضى عنه دينه وهو غائب، ويكون الغائب على حجته إذا قدم . قال: ولا يدفع المال إلى الذي أقام البينة إلا بكفلاء »(2).
ويمكن أن يستفاد منه اشتراط تعدد الكفيل، لكن في ( الجواهر ) أنه لم يعثر على قائل به، ولعلّ وجه عدم القول بذلك جعلهم العبارة نظير قولهم : إذا شهد عليه المسلمون فكذا، حيث يراد بذلك المسلم، وكذا قولهم : يشترط إذن العلماء في كذا، حيث يقصد العالم لا جميع العلماء.
قال في الوسائل: وعنه ، عن أبيه ، عن سعد بن عبد الله ، عن أيوب بن نوح ، عن محمد بن أبي عمير ، عن جميل مثله.
ونحوه ما رواه محمد بن مسلم عن الباقر عليه السلام، لكن فيه: « إذا لم يكن مليّاً »(3)فإنه ظاهر في تكفيل القابض إذا لم يكن مليّاً، وأما إذا كان ملّياً فلا يجب .
ولعلّ الوجه في ذلك أنه إن كان فقيراً ولم يؤخذ كفيل، ضاع حق الغائب على تقدير براءة ذمته، لأن المفروض إفلاس المدعي، والمفلس في أمان الله. ومن هذه الرواية يعلم أيضاً أن المدّعي يكفل من جهة المال الذي يأخذه لا من جهة شخصه، ولذا لو أقام المدّعى عليه البينة على براءة ذمته، أخذ الحاكم حقه وأرجعه إليه وإن لم يكن المدّعي حاضراً.
هذا، وليس في الروايات ذكر لليمين، ومن هنا يتوجّه القول بعدم لزومها هنا. ولو سلّم عموم التعليل في رواية الدعوى على الميت الدالّة على لزوم اليمين في تلك الصورة لما نحن فيه، كانت روايات هذا المقام مخصصة لتلك الرواية، وتكون النتيجة لزوم اليمين في كلّ مورد جهل حال المدّعى عليه من جهة أداء حق المدّعي إلا الغائب، فلا يلزم في الدعوى عليه ضم اليمين إلى البينة، إلا أن يقال بلزومها هنا أيضاً، من جهة أنه لا منافاة بين اشتراط اليمين هناك، واشتراط الكفيل هنا وعدم ذكر اليمين هنا لا ينفي لزومها، بل إن المراد من البيّنة هو البيّنة مع اليمين، ولكن هذا الإحتمال خلاف الظاهر، لأن ظاهر الأدلّة كفاية البيّنة بوحدها.
هذا، وجميل من أصحاب الإجماع، والرواية معمول بها عند الأصحاب، فلا يقدح إرسالها في حجيتها(4).
ثم إن صاحب ( المسالك ) قال في شرح عبارة المحقق قدّس سرّه: وإنما اعتبر المصنف الكفيل، لأنه لم يوجب عليه اليمين مع البينة، فجعل الكفيل عوضاً عنه لاحتمال براءة الغائب من الحق على وجه لا تعلمه البينة ، ومن أوجب عليه اليمين لم يعتبر الكفيل إلا على تقدير تعذّرها، كما لو كان المدعي على الغائب وكيل المستحق ، فإنه لا يجوز إحلافه فيستظهر بالكفيل، ولا شك في أن الكفالة واليمين احتياط واستظهار، إلا أن ثبوتهما يحتاج إلى دليل(5).
وقد استغرب صاحب ( الجواهر ) صدور هذا الكلام منه قائلاً بأنه(6): لو اشترطنا اليمين، فإنه متى تعذّرت عليه ـ كما لو كان المدعي على الغائب وكيلاً ـ لزم القول بعدم ثبوت الدعوى لا التكفيل عوضاً عن اليمين، إلا أن يقول بأن هنا روايتين، إحداهما تفيد الإستظهار بالكفيل، والاخرى تفيد الإستظهار باليمين، وفيما نحن فيه يمكن التمسك بكلّ منهما ولا يجمع بين الأمرين، بل إن حلف فلا يكفّل ، وإن كفل فلا يحلّف، وأورد عليه في ( الجواهر ) بأنه: لا مانع من الجمع بين الأمرين، ومن هنا اعتبر في ( القواعد ) ضم اليمين إلى التكفيل(7).
( قال ): ولكن لا يجب شيء من الأمرين، لا فيما نحن فيه ولا في صورة الدعوى على الميت، بل إن القضية تتم بحكم الحاكم، بعد قيام البينة، وأما اليمين والكفيل فللإحتياط والإستظهار.
أقول: يتوجّه هذا الكلام في خصوص كون المدّعى عليه غائباً، لأن الرواية الدالّة على اعتبار ضم اليمين إلى البينة في حال كون المدّعى عليه ميتاً ، تختص بموردها ولا تشمل محلّ الكلام، وحينئذ يكون اعتبار اليمين هنا من باب الإحتياط والإستظهار، وقد استفاد في ( الجواهر )(8) أن أخذ الكفيل في حال عدم الملاءة ـ كما في رواية محمد بن مسلم ـ هو للإستظهار أيضاً، وأنه ليس الحكم متوقفاً على التكفيل، ولكن ظاهرها توقف دفع المال إليه في هذه الحالة على التكفيل.
وعن الأردبيلي قدّس سرّه(9) الإشكال في دفع المال إلى المدّعي، لأنه قد يستلزم الضرر على الغائب، وأن الخبر غير عام، فينبغي الاقتصار على موضع الوفاق، وهو فيما إذا علم الخصم بأنه إذا لم يحضر يحكم عليه وهو غائب، لأنه يكون أدخل الضرر على نفسه.
أقول: لكن الظاهر أنه في مثل هذا الحكم الذي يستلزم الضرر غالباً ، لا يمكن القول بحكومة أدلّة لا ضرر.
هذا كلّه بالنسبة إلى الغائب، وكذلك المجنون والصغير، فإنه بنفس البيّنة يحكم الحاكم على وليّهما بدفع حق المدعي، من دون حاجة إلى ضمّ اليمين إلى البيّنة، لعدم شمول رواية اعتبار اليمين الواردة في خصوص الميت لهما، وقياسهما عليه باطل بالضرورة، فالأشبه أنه لا يمين ، وفاقاً للمصنف وجماعة.
(1) شرائع الإسلام 4 : 85.
(2) وسائل الشيعة 27 : 294/1 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 26.
(3) قال في الوسائل 27 : 494/ ذيل ح1 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 26 ، بعدما رواه عن جميل : وبإسناده عن أحمد بن محمد عن علي بن الحسن عن جعفر بن محمد بن حكيم عن جميل بن دراج عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام نحوه وزاد : « إذا لم يكن ملياً » . ورواه الكليني عن أحمد بن محمد عن علي بن الحسن مثله .
(4) فيه ردّ على المحقق الأردبيلي قدّس سرّه ( مجمع الفائدة 12 : 204 ) حيث طعن فيها بالإرسال، وقد طعن فيها أيضاً بمجهولية « جعفر بن محمد بن إبراهيم » و « عبد الله بن نهيك » قلت: أما « ابن نهيك » فهو ثقة، وأما « جعفر بن محمد بن إبراهيم » وهو الموسوي فلم ينص علماء الرجال فيه على وثاقة، لكنه من رجال كامل الزيارات. وكيف كان، فالظاهر صحة الطريق الثاني، وأما الطعن بالإرسال فقد تقدم الجواب عنه بناء على ما اشتهر من تصحيح الأصحاب لما يصح عن تلك الجماعة.
(5) مسالك الأفهام 13 : 464.
(6) جواهر الكلام 40 : 203.
(7) قواعد الأحكام 3 : 448.
(8) جواهر الكلام 40 : 303.
(9) مجمع الفائدة والبرهان 12 : 205.