حكم ما لو كانت الدعوى على الميت:
قال المحقق قدّس سرّه: « ولا يستحلف المدعي مع البينة إلاّ أن تكون الشهادة على ميّت… »(1).
أقول: في هذا الفرع حكمان:
الأوّل: إنه لا يستحلف المدّعي مع البينة، والدليل على ذلك الإجماع المدّعى ، مضافاً إلى النصوص الواردة فيه، مثل خبر محمد بن مسلم إذ قال : « سألت أبا جعفر عليه السلام عن الرجل يقيم البينة على حقه ، هل عليه أن يستحلف ؟ قال: لا »(2).
وخبر أبي العباس عن أبي عبد الله عليه السلام قال: « إذا أقام الرجل البيّنة على حقّه فليس عليه يمين، فإن لم يقم البينة فردّ عليه الذي ادّعى عليه اليمين، فإن أبى أن يحلف له فلا حق له »(3).
لكن في الخبر في وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام لشريح: « وردّ اليمين على المدعي مع بيّنته، فإن ذلك أجلى للعمى وأثبت للقضاء »(4) ولكنه ليس بحجة ، لضعفه، ولم يأخذ به أحد من الأصحاب، فضعفه غير منجبر، وقد حمل على بعض الوجوه، ولكن الأولى في الجواب عنه ما ذكر.
وبالجملة: فالحكم في الفرع الأوّل خال عن الإشكال.
والحكم الثاني: إنه لو كانت الشهادة على ميت اُستحلف المدعي على بقاء حقّه في ذمّة الميت استظهاراً، قال في ( الجواهر )(5): بلا خلاف أجده فيه بين من تعرّض له، كما اعترف به غير واحد، والعمدة في الاستدلال عليه هو النصوص مثل:
ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: « قلت للشيخ: خبّرني عن الرجل يدّعي قبل الرجل الحق فلم تكن له بينة. قال: فيمين المدّعى عليه ، فإن حلف فلا حق له، وإن ردّ اليمين على المدعي فلم يحلف فلا حق له ] وإن لم يحلف فعليه [ وإن كان المطلوب بالحق قد مات فاُقيمت عليه البينة، فعلى المدعي اليمين بالله الذي لا إله إلاّ هو، لقد مات فلان وإن حقه لعليه وإلاّ فلا حق له، لأنا لا ندري لعلّه قد أوفاه ببينة لا نعلم موضعها، أو غير بينة قبل الموت، فمن ثم صارت عليه اليمين مع البينة، فإن ادّعى بلا بينة فلا حق له، لأن المدّعى عليه ليس بحي، ولو كان حيّاً لاُلزم اليمين أو الحق أو يردّ اليمين عليه، فمن ثم لم يثبت الحق »(6).
وبالجملة، فلا إشكال في أصل الحكمين المذكورين، إنما الكلام في جهات:
] الأولى [ : هل البينة في الدعوى على الميت ساقطة عن الحجية إلا إذا ضمّ إليها اليمين، أو أنها باقية على حجيتها ولكن وجبت اليمين على المدعي معها، من جهة أن المدّعى عليه لو كان حيّاً وادّعى وفاء الدين وأنكر هو ذلك ، لوجبت عليه اليمين ؟ وثمرة هذا البحث واضحة، إذ على الأوّل ، لا حجّية للبيّنة بدون اليمين مطلقاً ، وأما على الثاني ، فيترتب الأثر على البينة لو كان معذوراً عن اليمين.
] الثانية [ : هل يمكن التعدّي عن مورد السؤال في النصوص إلى غيره أو لا ؟
للتعدّي عن مورد النص أنحاء، كالتعدّي عن احتمال الوفاء إلى احتمال الإبراء ، أو الوفاء بواسطة غيره في حياته ، أو بواسطة وصيّه بعد موته.
وكالتعدّي عن الدائن إلى وليّه، بأن نقول لا يشترط أن يكون مقيم الدعوى هو الدائن ، بل تسمع حتى لو أقامها وليّه أو وصيّه.
وكالتعدّي عن الدين إلى العين.
وكالتعدّي عن البينة إلى الشاهد الواحد واليمين.
] الثالثة [ : إنه بناءاً على عدم التعدّي عن مورد النص إلى الموارد المذكورة، فلو ادّعى عيناً على ميّت ، فهل تسمع دعواه وتكفي البينة أو الشاهد الواحد مع اليمين لإثباتها أو لا تسمع أصلاً ؟ وبناءاً على التعدي والإلحاق، فهل تسمع دعواه لو كان معذوراً عن اليمين ، ويكتفى لإثباتها بالبينة أو هي حينئذ ساقطة ؟
] الرابعة [ : هل الوجوه والإحتمالات التي يذكرها الإمام عليه السلام في جواب عبد الرحمن بن أبي عبد الله تقتضي قصور حجية البينة في الدعوى على الميت ؟.
أقول: إن التعدي والخروج عن مورد النص إلى الموارد الاخرى يحتاج إلى القطع بملاك الحكم الوارد في النص، ووجود ذلك الملاك بالقطع واليقين في غيره، أو الإستظهار من نفس اللّفظ، أو العلم بعلّة الحكم بمناسبة الحكم والموضوع، فيحكم به في كلّ موضوع وجدت فيه تلك العلّة ، وأما تعدية الحكم من موضوع إلى آخر من باب « حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد » فهو قياس باطل، وأما تنقيح المناط فالمعتبر منه القطعي، وتحصيله مشكل.
فالمتعيّن هو الاستظهار من النصوص والدقّة فيها للوصول إلى أحكام الفروع المشار إليها في الجهات المذكورة…
ففي خبر عبد الرحمن: « … فإن كان المطلوب بالحق قد مات فأُقيمت عليه البينة، فعلى المدعي اليمين بالله الذي لا إله إلاّ هو لقد مات فلان وإن حقه لعليه، فإن حلف وإلاّ فلا حق له، لأنا لا ندري لعلّه قد وفّاه ببيّنة لا نعلم موضعها أو بغير بينة قبل الموت، فمن ثم صارت عليه اليمين مع البيّنة، فإن ادّعى ولا بيّنة فلا حق له، لأن المدّعى عليه ليس بحي ، ولو كان حياً لأُلزم اليمين أو الحق أو يردّ اليمين عليه ، فمن ثم لم يثبت له عليه الحق »(7) . وهو ظاهر في أن يكون المدّعي نفس صاحب الحق لا وليّه أو وارثه أو وصيه.
اللهم إلاّ أن يقال بأن ما ذكره الإمام عليه السلام فيه هو على سبيل التمثيل، ولكنه مشكل .
وأما دعوى الإطلاق في « المطلوب بالحق » فمشكل أيضاً، لا سيما بالنظر إلى ما جاء بعده من قوله: « فعلى المدعي اليمين … وإن حقه لعليه ».
وكذا التمسك لذلك بالتعليل المذكور في الخبر، وهو قوله عليه السلام « لأنا لا ندري لعلّه قد وفّاه ببينة لا نعلم موضعها… » بأن نقول بأنه في كلّ مورد لا ندري لعلّ المدّعى عليه قد وفّى ما للمدّعى ببينة كذلك وجبت اليمين لإثبات الحق، سواء كان الحالف المدعي نفسه أو وليّه أو وصيّه أو وارثه، إذ يحتمل كون هذا الكلام تعليلاً للحكم بوجوب اليمين على المدعي نفسه.
نعم، لا مانع من التمسك به للتعدّي عن الدين إلى العين، وعن الوفاء إلى الإبراء ونحوه .
وبالجملة، لا نتمكّن أن نستفيد من هذه الرواية جواز حلف الولي أو الوصي أو الوارث ـ مثلاً ـ بدلاً من المدّعي، كما أنه ليس عندنا دليل يدلّ على جواز يمين أحد بدلاً عن غيره، بل من المسلّم به أن اليمين حجة للحالف فقط، ولا أثر ليمين غير ذي الحق وإن كان وليّه وكان عالماً بالواقع، وسيأتي وجهه في محلّه إن شاء الله تعالى.
وهل يتعدّى الحكم من الميت إلى الغائب والطفل والمجنون ؟
قولان، ذكرهما الشهيد الثاني قدّس سرّه في ( المسالك )(8) واختار العدم تبعاً للمحقق وخلافاً للأكثر.
وكيف كان، فعلى التعدّي لا حجية للبيّنة إلا بضمّ اليمين إليها، وكذا في الموارد التي لا يتمكّن المدعي من اليمين لأنها حقّه ولا يتولاّه غيره، وقال جماعة : بأنه إن وجب الجمود في كيفية اليمين على ظاهر اللفظ الوارد في الخبر فهو، وأما إن كان المراد هو اليمين بحسب حال الحالف ـ كما هو ظاهر الخبر الآخر ـ فلا مانع من يمين الولي ـ مثلاً ـ حيث يقيم الدعوى بدلاً عن الطفل المولى عليه على الميت، فيحلف بالله الذي لا إله إلاّ هو لقد مات فلان وإن حق هذا الطفل لعليه، إن كان عالماً بذلك، وإلاّ لم يحلف، فإن ادّعى وارث الميت على الولي العلم بأن الميت قد وفّى الطفل حقه ، كان له أن يحلف على نفي العلم بذلك.
ولو فرض كون الولي عالماً بأداء الميت حق الطفل، لم يجز له المطالبة بشي، ولكن هذا لا يمنع الطفل من المطالبة بحقه عند كبره.
هذا كله بناءاً على القول بسقوط البينة عن الحجيّة ما لم تضم إليها اليمين، وإن كان المدعي غير متمكن منها، إلا أن المختار أنه في الفرض المذكور يعتمد على البينة ويحكم له بها.
ثم إن صاحب ( الجواهر )(9) قدّس سرّه لما كان يميل إلى القول بالتعدّي بالنسبة إلى بعض الموارد، اعترض على معاصره القائل بكفاية البيّنة فيما لو ادّعى وارث ميت على ميت آخر ـ لأن الدليل إنما يدلّ على ثبوت اليمين على نفس المدعي ، فيبقى ما عداه على الأصل ، وأقصى ما يتوجه عليه بعد ذلك يمين نفي العلم ـ بأن ظاهر الفتوى والنص ـ خصوصاً الصحيح ـ كون ذلك ـ أي البينة مع اليمين ـ هو الحجة على الميت، فيتّجه حينئذ سقوط الحق.
أقول: مراده من « الصحيح » هو صحيحة الصفار: « كتب محمد بن الحسن الصفار إلى أبي محمد الحسن بن علي عليه السلام، هل تقبل شهادة الوصي للميت بدين له على رجل مع شاهد آخر عدل ؟ فوقّع عليه السلام : إذا شهد معه آخر عدل ، فعلى المدعي يمين. وكتب: أيجوز للوصي أن يشهد لوارث الميت صغيراً أو كبيراً وهو القابض للصغير وليس للكبير بقابض ؟ فوقّع عليه السلام: نعم، وينبغي للوصي أن يشهد بالحق ولا يكتم الشهادة. وكتب: أو تقبل شهادة الوصي على الميت مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع عليه السلام : نعم من بعد يمين »(10).
ثم قال قدّس سرّه « إلاّ أنه ـ كما ترى ـ مناف لمذاق الفقه، فقد يقال إن للوارث الحلف على مقتضى الإستصحاب كما يحلف على مقتضى اليد. لكن هو ـ مع أنه كما ترى أيضاً ، خصوصاً إذا كان المستصحب غير معلوم له وإنما شهدت به البينة ـ لا يتم في الوصي الذي لا يجوز حلفه لإثبات مال الغير، اللهم إلاّ أن يقال به هنا باعتبار أنه ليس مثبتاً، بل هو شرط في حجية البينة التي هي في الحقيقة المثبتة، أو يقال بالإكتفاء بيمين الوارث مع البينة في إثبات مفادها الذي لا فرق فيه بين متعلق الوصايا والإرث، لأنها من الحجة المثبتة للموضوع في نفسه(11).
بل منه ينقدح عدم وجوب اليمين على كلّ واحد من الورثة، بل يكفي يمين واحدة من أحدهم، لأن مقتضى إطلاق النص اعتبار يمين واحدة في تماميّة حجية البينة التي قد عرفت ثبوت الموضوع بها لسائر الشركاء وإن أقامها أحدهم، فتأمل ، فإنه دقيق نافع وإن كان لا يخلو من بحث، ضرورة كون اليمين هنا نحوها مع الشاهد الواحد، فلا يكتفي بها لغير ذي الحق.
بل قد يناقش في قبول اليمين من الوارث لتضمن يمين الاستظهار عدم الوفاء والإبراء ونحوهما، ولا يكون منه على البت لأنه فعل الغير، فمع فرض اعتبار يمين البت في يمين الإستظهار يتّجه حينئذ سقوط الحق كما سمعته أولاً، بل قد يؤيّد بأنه مقتضى أصل عدم ثبوت الحق بعد فرض تعارض الأمارات على وجه لا وثوق بشي منها ».
قلت: لكن الشك في ثبوت الحق وعدمه مسبب عن الشك في تخصيص أدلّة حجية البينة زائداً على القدر المتيقن، وقد تقرّر في محلّه جريان الأصل في السبب، فلو أريد الرجوع إلى الأصل في هذا المقام ، كان المرجع أصالة عدم التخصيص الزائد لأدلّة حجية البينة، ويكون الحاصل حجيتها في المورد، من غير توقّف على ضم ، اليمين إليها.
ثم قال رحمه الله « نعم ، قد يقال ـ بعد استبعاد سقوط الحق مع البينة العادلة خصوصاً مع قطع الوارث بالحق، بل يمكن دعوى معلومية خلافه ولو بالسيرة القطعية، واستبعاد سقوط اليمين في الدعوى على الميت مع ظهور النص والفتوى فيه ـ إن المتجه إلزام الوارث باليمين على نفي العلم باستيفاء مورثه أو إبرائه »(12).
لكن فيه: أن اليمين على نفي العلم تفيد فيما إذا كان عدم علم الوارث مؤثراً، وهنا لا أثر لعدم علمه باستيفاء مورثه حقه أو إبرائه إياه، إذ لا ملازمة بين عدم علمه بذلك وثبوت الحق، والمفروض أن هذه اليمين هي للإستظهار، وحيث لا أثر لهذه اليمين، فإن المتجه هو القول بخروج هذا الفرع من تحت تلك النصوص ولو بالسيرة القطعية، فلابدّ من الأخذ بالبينة .
ومن فروع المقام ما ذكره في ( المسالك ) بقوله: « لو أقرّ له قبل الموت بمدّة لا يمكن فيها الإستيفاء عادة، ففي ضمّ اليمين إلى البينة وجهان، من إطلاق النص الشامل لموضع النزاع وقيام الاحتمال وهو إبراؤه منه وقبضه من ماله ولو بعد الموت ، ومن البناء على الأصل والظاهر من بقاء الحق. وهذا أقوى »(13).
قلت: والصحيح هو الوجه الثاني، وأما ما أورد عليه في ( الجواهر ) من أنه مناف لإطلاق صحيح الصفّار، ففيه: أن التعليل الموجود في خبر عبد الرحمن بن أبي عبد الله حيث قال عليه السلام: « لأنا لا ندري لعلّه قد وفّاه … » يقيّد إطلاق صحيح الصفّار، فلا يشمل هذا المورد الذي نعلم بعدم وفاء الميت للحق… ومما ذكرنا يظهر الإشكال في قوله بعد ذلك: « مع أن ظاهر الصحيح المزبور التعبد » لأنه لا مجال لهذا الاستظهار مع وجود التعليل المذكور الذي يقتضي كون اليمين للاستظهار.
قال: ثم إن ظاهر قوله: « وقبضه من ماله ولو بعد الموت » مراعاة نفي الاحتمال بعد الموت أيضاً، لكن ظاهر اليمين في الخبر المزبور اعتبار نفيه إلى حين الموت دون ما بعده.
أقول: لكن مقتضى التعليل في الخبر هو العموم لما بعد الموت.
(1) شرائع الإسلام 4 : 85.
(2) وسائل الشيعة 27 : 343/1 . أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، الباب 8.
(3) وسائل الشيعة 27 : 343/2 . أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، الباب 8.
(4) وسائل الشيعة 27 : 211/1 . أبواب آداب القاضي ، الباب 1.
(5) جواهر الكلام 40 : 194.
(6) وسائل الشيعة 27 : 236/1 . أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، الباب 4.
(7) تقدم تخريجه ص : 285.
(8) مسالك الأفهام 13 : 462.
(9) جواهر الكلام 40 : 196 ـ 197.
(10) وسائل الشيعة 27 : 371/1 . كتاب الشهادات ، الباب 28.
(11) جواهر الكلام 40 : 197.
(12) جواهر الكلام 40 : 198.
(13) مسالك الأفهام 13 : 463.