حكم ما إذا حلف المنكر:
قال: « فإذا حلف سقطت الدعوى »(1).
أقول: إذا حلف المنكر سقطت دعوى المدّعي ولا حق له على المنكر ، ثم إن أثر هذه اليمين هو أنه إن كان صادقاً فكالأول، أي: إن كان الشيء المتنازع فيه له حقاً فهو، وإن كان كاذباً فكذلك، أي لا يكون الشيء له باليمين، ويحرم عليه التصرف فيه كما كان كذلك من قبل، هذا بالنسبة إلى المنكر نفسه، وأما بالنسبة إلى المدّعي، فلا تجوز له مطالبة المدّعى عليه بالشي بحسب الظاهر، وهذا معنى سقوط دعواه، وأما بالنسبة إلى الحاكم ، فأثر اليمين أن عليه أن يحكم للمنكر بما يطابق قوله ، وأما بالنسبة إلى سائر الناس ، فإنهم إذا أرادوا التصرف في الشي المتنازع فيه لزمهم الاستيذان من المدّعى عليه.
قال المحقق: « ولو ظفر المدّعي بعد ذلك بمال الغريم لم تحل له المقاصّة »(2).
أقول: وإذا سقطت الدعوى، فهل للمدعي التقاص من مال المدّعى عليه بحيث لا يشعر بذلك أحد ؟ ادعي الإتّفاق على عدم جواز التقاصّ منه إن كان مورد النزاع ديناً، وأما إذا كان عيناً، فالمشهور على الجواز، وقال جمع بالعدم وبقاء الحق إلى الآخرة، بل قالوا بعدم جواز التصرف في العين المتنارع فيها وإن لم يكن تصرفاً منافياً، لكونها بيد المدّعى عليه، كأن تكون عبداً ويعتقه في سبيل الله عزّ وجل، أو يبرأ ذمة المنكر قربة إلى الله تعالى، لأن ذلك ينافي حكم الحاكم المقتضي لعدم كون المنكر مديناً للمدّعي، ومقتضى الإبراء كونه مديناً له.
أقول: إن مقتضى القاعدة هو جواز التقاصّ منه ، إلا أن يقوم الدليل على المنع ، إذ ليس الحكم من المملّكات والنواقل للأموال، وإلاّ لما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: « … فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنما قطعت له به قطعة من النار » فلا يقال بأنه على أثر اليمين والحكم يكون الحالف مالكاً وإن أثم في اليمين الكاذبة ، نظير البيع وقت النداء من يوم الجمعة.
وحيث لا تصبح العين ملكاً للحالف بيمينه، فإما أن تكون ملكاً بلا مالك أو تبقى على ملك المدّعي ؟ والأوّل ساقط ، فثبت الثاني، فللمدّعي التصرف في العين أينما وجدها ، غير أنه يكون حينئذ رادّاً على الله ، لمخالفته لحكم الحاكم، ولكن لو فعل ذلك خفية ، أمكن القول بالجواز لعدم تحقق الردّ. اللهم إلا أن يقال بوجوب التزام المدّعي بترتيب آثار مالكية المدعى عليه وإن كانت العين ملكاً له في اعتقاده ، وأن سائر الناس ملزمون بمعاملة هذه العين معاملة ملك المنكر كالمدّعي نفسه، فعليهم الإستيذان من المنكر إن أرادوا التصرف فيها، وقيل بوجوب ذلك عليهم إن لم يكونوا عالمين بكونها ملكاً للمدعي في نفس الأمر، إلاّ أن الكلام في أثر إذن المدعى عليه ، حيث قد حلف كاذباً وهو يعلم بأن العين لم تدخل في ملكه واقعاً بل هي باقية على ملك المدّعي، فإنه لا يجوز له الإذن، ولو أذن لم يؤثر، فالأحوط لهم الإستجازة من المتداعيين كليهما في التصرف في العين.
قال المحقق: « ولو عاود المطالبة أثم ولم تسمع دعواه »(3).
أقول: أي إن الحاكم بعدما حكم بأن الشي للمنكر ، أو بأنه ليس مديناً للمدّعي، لا يجوز له سماع الدّعوى مرة ثانية، ولا استماع شهادة بيّنة المدّعي على مالكيّته للشي المتنازع فيه، قال المحقق: « ولو أقام بيّنة بما حلف عليه المنكر لم تسمع » وهذا مذهب المشهور، بل حكي عليه الإجماع ، وذلك لحكومة خبر ابن أبي يعفور عن الصادق عليه السلام: « إذا رضي صاحب الحق بيمين المنكر لحقه فاستحلفه فحلف لاحقّ له قبله، ذهبت اليمين بحق المدعي فلا دعوى له. قلت له: وإن كانت عليه بيّنة عادلة ؟ قال : نعم وإن أقام بعد ما استحلفه خمسين قسامة ما كان له، وكانت اليمين قد أبطلت كلّ ما ادّعاه قبله مما قد استحلفه عليه. قال رسول الله: من حلف لكم بالله فصدّقوه وإن سألكم بالله فأعطوه، ذهبت اليمين بدعوى المدّعي ولا دعوى له »(4) ونحوه من الأخبار ، على : « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر »(5).
وهنا قولان آخران، قال المحقق(6): « وقيل: يعمل بها ما لم يشترط المنكر سقوط الحق باليمين، وقيل: إن نسي بيّنته سمعت وإن أحلف » والثالث: إنها تسمع مطلقاً، قال المحقق: « والأوّل هو المروي » وتلك الأقوال مخالفة للنصوص الواردة في المقام، وهي تدلّ على أن يمين المنكر يذهب بحق المدعي ، وأنه لا تسمع بعد ذلك دعواه أبداً ، وقد عمل الأصحاب بتلك النصوص إلاّ من شذّ.
قال المحقق: « وكذا لو أقام بعد الإحلاف شاهداً وبذل معه اليمين، وهنا أولى » وهذا واضح.
قال: « أما لو أكذب الحالف نفسه جاز مطالبته وحلّ مقاصّته… »(7).
أقول: لو أكذب المدّعى عليه الحالف نفسه بعد يمينه، فهل يكون إقراره بالكذب كالبيّنة التي يقيمها المدعي بعد يمين المنكر في عدم التأثير، أو يؤثر هذا الإقرار ؟
إن دليل حجيّة الإقرار مطلق، فهو حجة سواء كان قد حلف أو لا، ودليل حجية اليمين وذهابها بحق المدّعي مطلق، فهي تذهب بحقّه سواء أكذب الحالف نفسه بعدها أو لا، فالنسبة بين الدليلين هو العموم من وجه، فهل يتقدّم دليل الإقرار ، لذهاب الأصحاب إلى ذلك، أو أنه لا تعارض بينهما في مورد الاجتماع ، لحكومة دليل ذهاب اليمين بحقّه على دليل الإقرار ، لأنه رافع لموضوعه ؟
المستفاد من المعتبرة: « إني كنت استودعت رجلاً مالاً فجحدنيه فحلف لي عليه، ثم إنه جاءني بعد ذلك بسنتين بالمال الذي أودعته إيّاه، فقال: هذا مالك فخذه ، وهذه أربعة آلاف درهم ربحتها ، فهي لك مع مالك واجعلني في حلّ، فأخذت منه المال وأبيت أن آخذ الربح منه، ورفعت المال الذي كنت استودعته وأبيت أخذه، أستطلع رأيك فما ترى ؟ فقال: خذ نصف الربح وأعطه النصف وحلّله، فإن هذا الرجل تائب والله يحبّ التوّابين »(8) كون الإقرار مسموعاً، وأنه يتقدّم على أدلّة ذهاب اليمين بحقّ المدّعي.
بل إن تلك الأدلّة منصرفة عن صورة تكذيب الحالف نفسه. بل إن اليمين من الطرق العقلائية، وقد جعل الشارع يمين صاحب اليد طريقاً لتثبيت حقه لو نازعه أحد على ما في يده، كما أن الدليل المعتمد في حجّية خبر الواحد هو السيرة وبناء العقلاء، لكن اعتبارهم لليمين والخبر ، مقيّد بما إذا لم يكذب الحالف أو المخبر نفسه، وعليه، فلا معنى للقول بإطلاق دليل حجية خبر الواحد ويمين الحالف، لأن عدم ترتيب العقلاء الأثر على ذلك حينئذ يكشف عن عدم اعتبار الشارع لتلك اليمين، وأنها ليست مصداقاً عنده لأدلّة ذهاب اليمين بحق المدّعي… وكذلك البيّنة لو أكذب الشاهدان أنفسهما بعد الشهادة…
وأما بقاء مالكيّة المدّعي على المال، فهو مقتضى خبر مناهي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، حيث ورد فيه النهي عن أكل أموال الناس بشهادة الزور، فعن الصّادق عليه السلام عن آبائه عن النبي: « في حديث المناهي: إنه نهى عن أكل مال بشهادة الزور »(9) . وكذا قوله : « … فإنما قطعت له قطعة من النار ».
وفي خبر عبدالله بن وضاح: « كانت بيني وبين رجل من اليهود معاملة فخانني بألف درهم، فقدّمته إلى الوالي فأحلفته فحلف، وقد علمت أنه حلف يميناً فاجرة، فوقع له بعد ذلك عندي أرباح ودراهم كثيرة، فأردت أن أقتص الألف درهم التي كانت لي عنده وأحلف عليها، فكتبت إلى أبي الحسن فأخبرته… فكتب : لا تأخذ منه شيئاً ، إن كان قد ظلمك فلا تظلمه، ولولا أنك رضيت بيمينه فحلّفته ، لأمرتك أن تأخذ من تحت يدك، ولكنك رضيت بيمينه ، فقد مضت اليمين بما فيها »(10).
بناء على أنه عليه السلام قد استعمل لفظ « الظلم » فيها من باب المشاكلة كما في قوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ )(11)، وإلاّ فإن أخذ الحق ليس ظلماً حقيقة، نعم هو بعد حكم الحاكم غير جائز شرعاً…
فتحصّل: ثبوت ملكية المدعي للمال المتنازع فيه بعد إقرار الحالف بالكذب وسقوط يمينه عن التأثير، بخلاف البينة التي يقيمها المدعي بعد حلف المنكر، فقد دلّت النصوص على تقدم اليمين وعدم سماع البينة بعدها.
هذا، وفي كلمات صاحب ( الجواهر ) أن اليمين لا تذهب بالمال بل تذهب بحق المدّعي على المنكر.
وفيه: إنه لا يثبت لصاحب المال المدعي حق على المنكر، بل ليس لصاحب المال المغصوب منه حق على غاصبه، وإنما له المطالبة بماله وإيقاع أنحاء التصرّفات فيه، ومن الواضح أن هذه التصرفات من آثار سلطنته على ماله وليست حقوقاً له على من عنده المال.
فالصحيح: أن أدلّة ذهاب اليمين بحق المدعي تمنع عن تصرّفه في ماله الذي بيد المنكر بعد يمينه، لكن لا مانع من بقاء اعتبار مالكيته له، والمنكر مخاطب بترتيب آثارها على هذا المال الذي بيده، فإن أكذب نفسه جاز للمدّعي مطالبته بالمال وحلّت له مقاصته إن امتنع من تسليمه.
وفي ( المسالك ): « أما لو أكذب الحالف… كما يحلّ له مع امتناعه من التسليم ، لتصادقهما حينئذ على بقاء الحق في ذمة الخصم ، فلا وجه لسقوطه »(12).
أقول : هذا يتوقّف على عدم تماميّة إطلاق أدلّة « ذهبت اليمين بحقّه » كما ذكرنا، وإلا كان الإطلاق هو الوجه لسقوط الحق.
ثم إنه هل يسقط حق المدّعي بمجرد يمين المدّعى عليه، أو يتوقف ذلك معها على حكم الحاكم ؟ ظاهر النصوص هو الأوّل، قال السيّد(13): والإنصاف أنه ليس كلّ البعيد إن لم يكن الإجماع على خلافه.
والصحيح هو الثاني وفاقاً للجواهر، لأن اليمين مقدّمة للحكم ـ كالبينة ـ وفصل الخصومة يحصل بالحكم، وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: « إنما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » أي: إن الحكم القاطع للنزاع يصدر بعد قيام البينة أو تحقق اليمين، فكلّ واحدة منهما في موردها مقدّمة لحكم الحاكم، وبه ينقطع النزاع، فلو حلف المدّعى عليه ولم يصدر الحكم من الحاكم لسبب من الأسباب جاز للمدّعي استيناف الدعوى.
هذا كلّه إذا حلف المنكر.
(1) شرائع الإسلام 40 : 84.
(2) شرائع الإسلام 4 : 84.
(3) شرائع الإسلام 4 : 84.
(4) وسائل الشيعة 27 : 245/2 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 9.
(5) وسائل الشيعة 27 : 293/3 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 25.
(6) شرائع الإسلام 4 : 84.
(7) شرائع الإسلام 4 : 84.
(8) وسائل الشيعة 23 : 286/3 . كتاب الأيمان ، الباب 48.
(9) وسائل الشيعة 27 : 232/1 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 2 .
(10) وسائل الشيعة 27 : 246/2 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 10.
(11) سورة البقرة 2 : 194.
(12) مسالك الأفهام 13 : 450.
(13) العروة الوثقى 3 : 64.