حكم الهدية للقاضي:
وأما الهديّة، فهي في نفسها أمر مرغوب فيه، وقد كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والأئمة عليهم السلام يأمرون بها ويقبلونها، إلا أنه لا ريب في حرمة الهدية للقاضي والعامل، وقد ورد أن هدايا العمال « غلول » . و « سحت »(1)، وفي حديث عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال « … ما بال العامل نبعثه على أعمالنا يقول: هذا لكم وهذا اُهدي لي ، فهلاّ جلس في قلب بيت اُمّه وأبيه ينظر أيهدى له أم لا. والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منها شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته… »(2) وهذا الحديث يدلّ على أن أخذ العمّال مطلقاً ـ أي سواء كانوا عمّال الظلمة أو غيرهم ـ الهديّة حرام، ولا يبعد صدق عنوان « الرشوة » على هذا المال، وتخصيص بعض الأصحاب ذلك بعمّال سلاطين الجور، خلاف ظاهر الأخبار.
وأما صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام: « عن رجل يرشو الرجل على أن يتحوّل من منزله فيسكنه. قال: لا بأس »(3).
فإن كان المنزل ملكاً له فلا بأس بأن يأخذ شيئاً حتى يتحوّل عن ملكه، وإن لم يكن ـ كما ذكر صاحب ( الوسائل ) ـ فيمكن حملها على المنزل المشترك، كالموقوف للسكنى، فيعطي الثاني للأوّل لأجل النزول عن حقّه الحاصل له بالسبق، هذا بناء على ثبوت حق له بالسبق إليه، وأما بناء على أن الوقف مال محرّر ، فلا يكون ملكاً ولا متعلّق حق لأحد، فإن سبق إلى مكان موقوف فلا يجوز إزاحته عن ذلك المكان جبراً، فلا بأس بأن يطالب بشى في مقابل قيامه عن هذا المكان ، وإن لم يكن له حق فيه كما هو المفروض.
وهذا البحث جار في المسجد ومكان المصلي، وكذا في سوق المسلمين ، حيث قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : « سوق المسلمين كمسجدهم فمن سبق إليه كان أحق به إلى الليل »(4).
وعلى كلّ حال ، يكون التعبير عن الشيء المأخوذ في مقابل التحوّل عن المنزل بـ « الرشوة » تعبيراً مجازيّاً، أو يقال بأنه رشوة ـ لأنه مال أعطي له لأجل التوصّل إلى الغرض ـ ولكنه لا بأس به هنا، لكونه في مورد محلّل.
فتلخص، إن الرشوة هو ما يبذل للقاضي أو الوالي أو العامل في مقابل عمله الواجب عليه، سواء كان بعنوان الرشوة أو الهدية.
وإن بذل للقاضي مال وجهل عنوانه فهل يحمل على الصحّة ؟
قال السيد: نعم(5)، وهو مشكل، فإن أثر حمل فعل المسلم على الصحّة هو أن لا يكون فاعلاً لمحرّم، ولكن هذا لا يثبت كون المال المأخوذ صدقة مثلاً حتى يجوز له أخذه. وبعبارة أخرى: الحمل على الصحة إنما يفيد الحلّ مع العلم بالعنوان ، كأن يعلم بأنه هدية ويشك في كونها هدية صحيحة أو فاسدة، فيحمل فعل المسلم على الصحة ويجوز التصرف في المال المأخوذ.
هذا، ولا ينفذ حكم الحاكم الآخذ للرشوة وإن كان حكمه بالحق، لصيرورته فاسقاً بأخذها، وعليه ردّ ما أخذ على صاحبه.
قال المحقق: « ويجب على المرتشي إعادة الرشوة إلى صاحبها ، ولو تلفت قبل وصولها إليه ضمنها له »(6).
أقول: القول بالضمان هو المختار، وعن بعضهم نفي الخلاف فيه، ويدلّ عليه عموم قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: « على اليد ما أخذت حتى تؤدّي »(7).
(1) وسائل الشيعة 27 : 223/6 و7 . أبواب آداب القاضي ، الباب 8.
(2) مسند أحمد 5 : 423.
(3) وسائل الشيعة 17 : 278/2 . أبواب ما يكتسب به ، الباب 85.
(4) وسائل الشيعة 17 : 405/1 . أبواب آداب التجارة ، الباب 17.
(5) العروة الوثقى 3 : 25.
(6) شرائع الإسلام 4 : 78.
(7) عوالي اللئالي 1 : 224/106.