المسألة التاسعة
( في تفريق الشهود عند الشهادة )
قال المحقق قدّس سرّه(1): « لا بأس بتفريق الشهود، ويستحب في من لا قوّة عنده »(2).
أقول: إن الميزان الشرعي للقضاء هو البيّنات والأيمان كما في الحديث الشريف، ولكن هل تعبّدنا الشارع بالأخذ بذلك ، أو يجوز القضاء بالسؤال عن الخصوصيات والنظر في القرائن وغير ذلك ما يستكشف به الواقع ويتوصّل به إلى حقيقة الحال(3) ؟ قال المحقق: « لا بأس بتفريق الشهود ، ويستحب في من لا قوّة عنده ».
أقول: إن إطلاق الآية الكريمة: ( وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ )(4) وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: « إنما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان »(5) يشمل ما إذا شهدا معاً أو شهد كلّ واحد من الشاهدين على حدة، فيجوز الأمران، لكن في صورة التفريق بينهما ربما يظهر كذبهما أو خطؤهما في الشهادة ، بخلاف ما إذا شهدا معاً… هذا بحسب القاعدة وقطع النظر عن الأخبار الخاصة الواردة، لكن المحقق أفتى بالإستحباب في صورة كون الشاهد لا قوّة عقل عنده، ولعلّ وجهه عمل النبي وأمير المؤمنين صلى الله عليهما وآلهما في بعض الموارد.
وفي ( الجواهر ): قد يقال باختصاص جواز التفريق قبل إثبات العدالة وطلب المدّعي الحكم. وهذا غير واضح، إذ لا أثر لتفريق الشهود واستماع شهادتهما بعد ذلك إلاّ التأكّد والإطمئنان…
وكيف كان، فلا شبهة في الجواز، ويدلّ على ذلك روايات منها:
ما روي عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله عليه السلام قال: « أتي عمر بن الخطاب بجارية قد شهدوا عليها أنها بغت، وكان من قصّتها أنها كانت يتيمة عند رجل ، وكان الرجل كثيراً مّا يغيب عن أهله، فشبّت اليتيمة، فتخوّفت المرأة أن يتزوّجها زوجها، فدعت بنسوة حتى أمسكنها، فأخذت عذرتها بأصبعها، فلمّا قدم زوجها من غيبته رمت المرأة اليتيمة بالفاحشة وأقامت البينة من جاراتها اللاّتي ساعدنها على ذلك، فرفع ذلك إلى عمر، فلم يدر كيف يقضي فيها، ثم قال للرجل: إيت علي بن أبي طالب عليه السلام واذهب بنا إليه.
فأتوا عليّاً عليه السلام، وقصّوا عليه القصة، فقال لامرأة الرجل: ألك بيّنة أو برهان ؟ قالت: لي شهود، هؤلاء جاراتي يشهدن عليها بما أقول، فأحضرتهن، فأخرج علي بن أبي طالب عليه السلام السيف من غمده فطرح بين يديه، وأمر بكلّ واحدة منهن فاُدخلت بيتاً، ثم دعا بامرأة الرجل فأدارها بكلّ وجه، فأبت أن تزول عن قولها، فردّها إلى البيت الذي كانت فيه، ودعا إحدى الشهود وجثى على ركبتيه ثم قال: تعرفيني أنا علي بن أبي طالب وهذا سيفي، وقد قالت امرأة الرجل ما قالت ورجعت إلى الحق وأعطيتها الأمان، وإن لم تصدقين لأمن السيف منك، فالتفتت إلى عمر فقالت: يا أمير المؤمنين الأمان علي، فقال أمير المؤمنين: فاصدقي، فقالت: لا والله، إلاّ أنها رأت جمالاً وهيئة، فخافت فساد زوجها عليها، فسقتها المسكر، ودعتنا فأمسكناها فافتضتها بأصبعها، فقال علي عليه السلام: الله اكبر، أنا أوّل من فرّق بين الشاهدين ] الشهود [ إلاّ دانيال النبي. فألزم علي المرأة حدّ القاذف وألزمهن جميعاً العقر، وجعل عقرها أربعمائة درهم، وأمر امرأة الرجل أن تنفى من الرجل ويطلّقها زوجها، وزوّجه الجارية ، وساق عنه علي المهر . فقال عمر: يا أبا الحسن ، فحدّثنا بحديث دانيال، فقال علي عليه السلام: إن دانيال… »(6).
وما عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام في حديث: « إن شابّاً قال لأمير المؤمنين عليه السلام: إن هؤلاء النفر خرجوا بأبي معهم في السفر، فرجعوا ولم يرجع أبي، فسألتهم عنه فقالوا: مات، فسألتهم عن ماله فقالوا: ما ترك مالاً، فقدّمتهم إلى شريح فاستحلفهم ، وقد علمت أن أبي خرج ومعه مال كثير، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: والله لأحكمنّ بينهم بحكم ما حكم به خلق قبلي إلاّ داود النبي عليه السلام. يا قنبر اُدع لي شرطة الخميس فدعاهم، فوكّل بكلّ رجل منهم رجلاً من الشرطة، ثم نظر إلى وجوههم فقال: ماذا تقولون ؟ تقولون : إني لا أعلم ما صنعتم بأبي هذا الفتى ؟ إني إذاً لجاهل. ثم قال: فرّقوهم وغطّوا رؤوسهم، قال: ففرّق بينهم وأقيم كلّ رجل منهم إلى أسطوانة من أساطين المسجد ورؤوسهم مغطاة بثيابهم. ثم دعا بعبيد الله بن أبي رافع كاتبه فقال: هات صحيفة ودواة، وجلس أمير المؤمنين عليه السلام في مجلس القضاء، وجلس الناس إليه، فقال لهم: إذا أنا كبّرت فكبّروا، ثم قال للناس: اُخرجوا.
ثم دعا بواحد منهم فأجلسه بين يديه وكشف عن وجهه، ثم قال لعبيد الله: أكتب إقراره وما يقول، ثم أقبل عليه بالسؤال فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: في أي يوم خرجتم من منازلكم وأبو هذا الفتى معكم ؟ فقال الرجل: في يوم كذا وكذا. فقال: وفي أي شهر ؟ فقال: في شهر كذا وكذا، قال: في أي سنة ؟ فقال: في سنة كذا وكذا. فقال: وإلى أين بلغتم في سفركم حتى مات أبو هذا الفتى ؟ قال: إلى موضع كذا وكذا. قال: وفي منزل من مات ؟ قال: في منزل فلان ابن فلان. قال: وما كان مرضه ؟ قال: كذا وكذا. قال: وكم يوماً مرض ؟ قال: كذا وكذا. قال: ففي أي يوم مات ؟ ومن غسّله ؟ ومن كفّنه ؟ وبما كفّنتموه ؟ ومن صلّى عليه ؟ ومن نزل قبره ؟ فلمّا سأله عن جميع ما يريد، كبّر أمير المؤمنين عليه السلام وكبّر الناس جميعاً، فارتاب أولئك الباقون، ولم يشكّوا أن صاحبهم قد أقرّ عليهم وعلى نفسه، فأمر أن يغطّى رأسه وينطلق به إلى السجن.
ثم دعا بآخر، فأجلسه بين يديه وكشف عن وجهه وقال: كلاّ ، زعمتم أني لا أعلم ما صنعتم ؟ فقال: يا أمير المؤمنين ما أنا إلاّ واحد من القوم، ولقد كنت كارهاً لقتله، فأقرّ.
ثم دعا بواحد بعد واحد، كلّهم يقرّ بالقتل وأخذ المال.
ثم ردّ الذي كان أمر به إلى السجن فأقرّ أيضاً.
فألزمهم المال والدم.
ثم ذكر حكم داود عليه السلام بمثل ذلك… »(7).
(1) شرائع الإسلام 4 : 77.
(2) هذا كلامه قدّس سرّه هنا، وسيأتي في المسألة الرابعة عشرة: يكره للحاكم أن يعنّت الشهود إذا كانوا من ذوي البصائر والأديان القويّة، مثل أن يفرّق بينهم، لأن في ذلك غضاضة لهم، ويستحب ذلك في موضع الريبة. وقال في النافع في الآداب المستحبة للقاضي: وتفريق الشهود عند الإقامة فإنه أوثق، خصوصاً في موضع الريبة، عدا ذوي البصائر لما يتضمن من الغضاضة. وقال العلاّمة قدّس سرّه في القواعد: وينبغي للحاكم إذا طلب الإستظهار في موضع الريبة أن يفرّق الشهود خصوصاً في من لا قوّة عنده، ويكره إذا كان الشهود من ذوي البصائر والأديان القوية. وفي الرياض: عدا ذوي البصائر والشأن من العلماء والصلحاء الأعيان، فلا يستحب تفريقهم بل ويكره وربّما حرم، لما يتضمن تفريقهم من الغضاضة والمهانة بهم، بل وربما يحصل في ذلك كسر قلوبهم.
(3) إستفاد السيّد الأستاذ تبعاً لسائر الفقهاء من الخبرين الآتيين عدم الإختصاص بتفريق الشهود ، وأن للحاكم التوصّل إلى معرفة الحق بما يراه في ذلك الوقت مما لا ينافي الشرع.
(4) سورة البقرة 2 : 282.
(5) وسائل الشيعة 27 : 232/1 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 2.
(6) وسائل الشيعة 27 : 277/1 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 19.
(7) وسائل الشيعة 27 : 279/1 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 20.