هل يجب على المجتهد الإعلام بتغّير رأيه ؟
هذا، ومع تغير رأي المجتهد يجب عليه إعلام مقلّديه بذلك ؟
أقول: أما بالنسبة إلى المجتهد، فإنه مع تغيّر رأيه ـ بحيث يكون الرأي الثاني مقتضياً لفساد الأوّل من الآن على الأقل ـ يجب الإعلام لأمرين، أحدهما: إن لازم تغيّر رأيه كذلك بطلان عمل مقلّديه بالرأي السابق، والآخر: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإرشاد الجاهل، فبناء على هاتين المقدمتين يجب على المجتهد إعلام مقلّديه بتغير رأيه.
وأما مع العدول لدليل ظني لا يقتضي فساد الإجتهاد الأوّل فقيل: لا يجب الإعلام، وهو مشكل، لأنه بعد حصول الظن المعتبر عنده على خلاف الرأي السابق، لا يبقى له ظن بذلك الرأي بل ينقلب إلى الشك.
فالحق: أنه لا فرق بين العدول بدليل قطعي أو بدليل ظني، فإن كلاًّ منهما يرفع طريقية الظن السابق ويوجب سقوطه عن التأثير. ودعوى القطع بعدم وجوب الإعلام غير واضحة، والتمسك بسيرة العلماء واختلاف فتاواهم في الكتاب الواحد ، يتوقف تماميته على استمرارها واتصالها بزمن المعصوم عليه الصّلاة والسلام.
وأما بالنسبة إلى المقلّد، فإن المقلّد إذا لم يعلم بتغيّر رأي المجتهد يعمل بالفتوى التي تعلّمها، فإن لم يطابق الواقع فهو معذور وغير آثم، ومعه ، فلا يجب على المجتهد الإعلام، إذ لا موضوع للنهي عن المنكر والأمر بالمعروف بالنسبة إليه، وإن كان شاكّاً في تغير رأي مقلّده ، كان له استصحاب بقاء الرأي السابق، أو استصحاب عدم تغيره، وحينئذ، فلا إثم عليه فلا موضوع للنهي عن المنكر والأمر بالمعروف بالنسبة إليه كذلك، وإن علم بتغير الرأي ، وجب عليه العمل بالرأي اللاّحق.
وأما مع ترك التفحص والعمل بالفتوى السابقة وقد كان الرأي متغيراً في الواقع، فإن أفتى المجتهد بصحّة عمله فهو، وإلا فقد قيل بجريان الإستصحاب هنا .
وتوضيحه: إنه لو تيقّن سابقاً بأن الواجب في الصلاة ثلاث تسبيحات ثم شك في صحّة هذا اليقين،كان مقتضى دليل الإستصحاب هو العمل على طبق اليقين السابق، وهنا المقلّد متيقّن من صحّة صلاته ـ مثلاً ـ ومع الشك في صحة يقينه بالصحّة يستصحب ، فإن تمّ استفادة هذا المعنى من دليل الإستصحاب كانت صلاته بدلاً عن الواقع ، وأما على قول الجماعة الذين يستبعدون استفادة هذا المعنى من الدليل، فلا سبيل إلى تصحيحها ، إلاّ بما تقدم من أن الإجتهاد اللاّحق لا يوجب بطلان الإجتهاد السابق فلا يجب الإعلام، وأعمال المقلد صحيحة ، لأن كلاًّ من الرأيين مستند إلى دليل ظنّي.
وعن المحقق القمي قدّس سرّه: إن المقلّد إن عمل بلا تقليد ثم ظهر مطابقته لرأي مجتهد صحّ عمله، لكن في ( العروة ): عمل الجاهل المقصّر الملتفت باطل وإن كان مطابقاً للواقع، وقد ذكر الاستاذ في ( التعليقة ) إن هذا إن كان عباديّاً ولم تتمش منه القربة(1)، وأما التوصّلي فصحيح، وأما إذا اتفق مطابقته للواقع وتمشّى منه قصد القربة فلا تجب الإعادة.
وعنه قدّس سرّه: إن طابق العمل فتوى المجتهد وشك في مطابقة الفتوى للواقع ، فيحمل على الصحّة بعد العمل.
قلت: الحمل على الصّحة بعد العمل له صور:
1 ـ أن يشكّ بعد العمل، كأن يشكّ بعد الفراغ من الوضوء في تحريك خاتمه مثلاً، فهنا يحمل على الصحّة عند الكلّ.
2 ـ أن يعلم ـ في المثال المذكور ـ بعدم تحريكه للخاتم في حال الوضوء، لكن يحتمل نفوذ الماء إلى تحته. وهذه الصورة خلافيّة.
3 ـ أن يعلم بعدم التحريك وعدم النفوذ معاً، فلو أن مجتهداً أفتى بعدم إخلال ذلك في صحّة الوضوء وشك في مطابقة هذه الفتوى للواقع، فهل يحمل الوضوء على الصحّة الواقعية ؟ مقتضى كلام القمي: نعم. وهو مشكل جدّاً.
كالإشكال فيما قد يقال بصحة العقد من المجتهد أو مقلّده إذا أوقعاه على خلاف الإجتهاد أو التقليد، وكان موافقاً لأحد الآراء في المسألة، بل الأصل في العقود هو الفساد. هذا في صورة الاحتمال. وأما مع وجود الطريق عنده إلى بطلان هذا العقد، فلا يحكم بصحّته بالأولوية.
وأما لو أتى بالأعمال مدّةً من الزمن من غير تقليد، فإنه بعد الإلتفات إلى وجوب التقليد ، يجب عليه ذلك، ثم إن كلّ ما طابق من أعماله السابقة فتوى المجتهد الذي يريد تقليده ، فصحيح، لأن فتوى المجتهد تكون طريقاً إلى الواقع، وإلاّ ، فإن أمكن الحكم بصحتها على بعض القواعد فهو وإلاّ لزمته الإعادة….
ولو أوقعا العقد وتنازعا في صحّته تبعاً لفتوى مقلّديهما، وجب الرجوع إلى حاكم ثالث، وحكمه نافذ في حقهما.
والحاصل في مسألة الإعلام بتغيّر الرأي: أنه إن كان المجتهد يرى صحّة أعمال المقلّد حسب الفتوى السابقة، فلا يجب الإعلام، وأما مع القطع ببطلانها فيجب. قال في ( الجواهر )(2): « بل الظاهر اتّحاد الحكم والفتوى في ذلك » يعني: إنه ينكشف له بطلان الحكم من حينه لا أنه ينقضه الآن.
والمقلّد إذا شك في تغيّر رأي المجتهد استصحب وكان عمله صحيحاً، والمراد من الصحّة أنه إن طابق الواقع فهو، وإن كان على خلافه كان معذوراً ، وقد أدرك مصلحة العمل بالحكم الظاهري بناء على الإجزاء، وليس المراد من الصحة هو صحة عمله سواء طابق أولا. وإذا كان الأمر كذلك ، لم يجب على المجتهد إعلامه بتغيّر رأيه.
نعم، يمكن أن يقال بأنه حينئذ يفّوت المصلحة على المقلّد.
إلا أنه قد يجاب : بأن ذلك غير معلوم. لكن قد يقال: هل يجوز للمجتهد السكوت في مقابل إجراء المقلّد هذا الإستصحاب الذي لا يراه المجتهد مطابقاً للواقع ؟ الأقوى: إنه لا يجوز له السكوت، لأنه هو السبب في وقوع المقلّد في خلاف الواقع فيجب عليه الإعلام من هذه الجهة، لا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بخلاف ما إذا لم يكن هو السبب ، فلا يجب عليه الإعلام والمنع عن إجراء الإستصحاب ، إلاّ في الدماء والفروج لأهميّها عند الشارع.
وكذا الأمر في صورة تيقّن المقلّد بعدم تغيّر فتوى مقلّده وكون عمله طبق الفتوى السابقة ، مع تغيرها في الواقع، فهنا جهل مركب، ولا حكم ظاهري، فإن الأقوى حينئذ وجوب الإعلام وإن طابق العمل فتوى من يجوز تقليده، لأن هذا المجتهد لما تغيّر رأيه فقد قام عنده الدليل على بطلان تلك الأعمال.
وأما ما عن المحقق القمي من صحة عمله لو كان بلا تقليد عن تقصير ، فوافق فتوى من يجوز تقليده، فمبني على ما ذكروا في الأصول من أنه إذا قامت حجّة ، وكان عمل الشخص بلا التفات إليها ، ثم صادف العمل تلك الحجة ، صح عمله وجاز للعبد الإحتجاج بتلك الحجة، وإن كان حين عمله جاهلاً بها، لكن فيه نظر. نعم مطابقة العمل للواقع اتّفاقاً تكفي لصحة العمل، أما مطابقته للحجة التي ، فلا يعلمها لا توجب صحة العمل عقلاً، بل العقل يجوّز مؤاخذة المولى للعبد في مثل المورد.
ثم إنه لو كان كلّ من الصحيح والفاسد معلوماً، ثم شك في صحة عمله، جرت أصالة الصحة، وأما مع الجهل بالصحيح فلا أصل ليتمسك به .
(1) العروة الوثقى 1 : 19 / المسألة 16.
(2) جواهر الكلام 40 : 101.