السادس: ثم أدخل أبوذر على عثمان، فروى الواقدي وغيره من أهل الأخبار أنه قال له: «أنت الذي فعلت ما فعلت؟ فقال له أبوذر: نصحتك فاستغششتني ونصحت صاحبك فاستغشّني. فقال عثمان: كذبت، ولكنك تريد الفتنة وتحبّها، قد أنغلت الشام علينا. فقال له أبوذر: اتّبع سنة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام. قال عثمان: مالك وذلك لا اُمّ لك؟ قال أبو ذر: واللّه ما وجدت لي عذراً إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فغضب عثمان وقال: أشيروا عليَّ في هذا الشيخ الكذّاب، إما أن أضربه أو أحبسه أو أقتله، فإنه قد فرّق جماعة المسلمين، أو أنفيه من أرض الإسلام.
فتكلّم علي وكان حاضراً وقال: اشير عليك بما قاله مؤمن آل فرعون (وَإِنْ يَكُ كاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ).
قال: فأجابه عثمان بجواب غليظ لا أحبّ ذكره وأجابه علي بمثله.
قال: ثم إن عثمان حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر أو يكلّموه، فمكث كذلك أياماً، ثم أمر أن يؤتى به فأتي به، فلما وقف بين يديه قال: ويحك يا عثمان، أما رأيت رسول اللّه ورأيت أبا بكر وعمر؟ هل رأيت هذا هديهم؟ إنك لتبطش بي بطش جبّار. قال: أخرج عنا من بلادنا. فقال أبو ذر: ما أبغض إليَّ جوارك. فإلي أين أخرج؟ فقال: حيث شئت. قال: فأخرج إلى الشام أرض الجهاد. قال: إنما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها، أفأردّك إليها؟ قال: فأخرج إلى العراق، قال: لا، قال: ولم؟ قال: تقدم على قوم أهل شبه وطعن في الأمة. قال: فأخرج إلى مصر. قال: لا. قال: فإلى أين أخرج؟ قال: حيث شئت. قال أبوذر: فهو إذن التعرّب بعد الهجرة. أأخرج إلى نجد؟ فقال عثمان: الشرف الأبعد أقصى فأقصى، إمض على وجهك هذا ولا تعدَونّ الربذة، فسر إليها. فخرج إليها.
وفي رواية اليعقوبي: «فلم يقم بالمدينة إلا أيّاماً حتى أرسل إليه عثمان: واللّه لتخرجنّ عنها. قال: أتخرجني من حرم رسول اللّه؟ قال: نعم وأنفك راغم، قال: فإلى مكة؟ قال: لا. قال: فإلى البصرة؟ قال: لا. قال: فإلى الكوفة؟ قال: لا ولكن إلى الربذة التي خرجت منها حتى تموت فيها. يا مروان، أخرجه ولا تدع أحداً يكلّمه حتى يخرج، فأخرجه على جمل ومعه امرأته وبنته…»(1).
وفي رواية المسعودي: «فقال له عثمان: وار عنّي وجهك. فقال: أسير إلى مكة؟ قال: لا واللّه ـ إلى أن قال ـ أبو ذر: فسيّرني حيث شئت من البلاد. قال: فإني مسيّرك إلى الربذة. قال: اللّه أكبر، صدق رسول اللّه، قد أخبرني بكلّ ما أنا لاق…»(2).
لكن البخاري حاول التكتّم على كلّ هذا، فروى عن أبي ذر أنه لمّا قدم المدينة قال: «فكثر الناس علىَّ كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان فقال: إن شئت تنحّيت فكنت قريباً»(3).
وقد تقدّم في رواية البلاذري: «فلما قدم أبوذر المدينة جعل يقول: تستعمل الصبيان وتحمي الحمى وتقرّب أولاد الطلقاء. فبعث إليه عثمان: إلحق بأيّ أرض شئت. فقال: بمكة، فقال: لا، قال: فبيت المقدس، قال: لا. قال: فبأحد المصرين، قال: لا، ولكنّي مسيّرك إلى الربذة. فسيّره إليها، فلم يزل بها حتى مات».
وقال ابن حجر بشرح حديث البخاري: «وفي رواية الطبري: أنهم كثروا عليه يسألونه عن سبب خروجه من الشام، قال: فخشي عثمان على أهل المدينة ما خشيه معاوية على أهل الشام»(4).
(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 172.
(2) مروج الذهب 2 / 631.
(3) صحيح البخاري 2 / 111.
(4) فتح الباري 3 / 218.