عبـد المغيث البغدادي
وأصرح من ذلك كلام الشيخ عبـد المغيث بن زهير الحنبلي البغدادي; فقد ذكر في رسالته التي وضعها في الدفاع عن يزيد والمنع من لعنه وجوهاً(1)، أهمّها:
1 ـ قد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في حقّ معاوية: اللّهمّ اجعله هادياً واهد به. ومَن هو هاد لا يجوز أنْ يُطعن عليه في ما اختاره مِن ولاية يزيد.
2 ـ ولاية يزيد ثبتت برضا الجميع إلاّ خمسة: عبـد الرحمن بن أبي بكر، وابن عمر، وابن الزبير، والحسـين، وابن عبّـاس.
3 ـ أحاديث وجوب الطاعة للأئمّة وإنْ جاروا، فذهب قوم إلى أنّ الحسـين كان خارجيّـاً.
4 ـ السكوت عن يزيد احتراماً لأبيه.
أقـول:
الملاحَظ أنّ أوّل شيء يطرحه هو الدفاع عن معاوية; لأنّه صرّح بانتهاء الأمر إليه، فلا بُـدّ من الدفاع عنه، وقد تعرّض لحديث في فضله عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، لكنّه حديث موضوع بإقرار علمـاء القوم، بل قد نصَّ الأئمّة منهم على أنّـه لم يصحّ في فضل معاوية ابن أبي سفيان عن رسـول الله شيء(2).
ثمّ يدّعي موافقة رجال الأُمّة على ولاية يزيد إلاّ الخمسة، فيذكر فيهم «عبـد الله بن عمر»!
والأحاديث في وجوب طاعة الولاة غير منطبقـة على يزيد.
فيعود مرّةً أُخرى، للدفاع عن معاوية وحمايته… وهذا هو المهـمّ…!!
هذا، وقد قالوا بترجمة هذا الرجل: كان إماماً، حافظاً، محدّثاً، زاهداً، صالحاً، متديّناً، صدوقاً، ثقةً، ورعاً، أميناً، حسـن الطريقة، جميـل السـيرة، حميد الأخلاق، مجتهداً في اتّباع السُـنّة…
فقال الذهبي: «وقد ألّف جزءاً في فضائل يزيد، أتى فيه بعجائب وأوابد، لو لم يؤلّفه لكان خيراً»(3).
وقال ابن كثير: «له مصنَّف في فضل يزيد بن معاوية، أتى فيه بالغرائب والعجائب، وقد ردّ عليه أبو الفرج ابن الجوزي، فأجاد وأصاب»(4).
وقال ابن العماد: «قال الذهبي: صنَّف جزءاً في فضائل يزيد أتى فيه بالموضوعات»(5).
ثمّ لمّا سُـئل عبـد المغيث عن السـبب في دفاعه عن يزيد أجاب:
«يا هذا! إنّما قصدت كـفّ الألسـنة عن لعن الخلفاء»(6).
أقـول:
وهذا معنى كلام الشيخ السعد التفتازاني في «شرح المقاصد»، حيث قـال: «تحامياً عن أن يُرتقى إلى الأعلى فالأعلى».
وهذا نصّ كلامه بكامله:
«إنّ ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ، والمذكور على ألسنة الثقات، يدلّ بظاهره على أنّ بعضهم قد حاد عن طريق الحقّ وبلغ حدّ الظلم والفسق، وكان الباعث له الحقد والعناد، والحسد واللداد، وطلب الملك والرئاسة، والميل إلى اللذّات والشهوات; إذ ليس كلّ صحابيّ معصوماً، ولا كلّ من لقي النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم بالخير موسوماً.
إلاّ أنّ العلماء لحسن ظنّهم بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكروا لها محامل وتأويلات بها تليق، وذهبوا إلى أنّهم محفوظون عمّا يوجب التضليل والتفسـيق، صوناً لعقائد المسلمين عن الزيغ والضلالة في حقّ كبار الصحابة، سيّما المهاجرين منهم والأنصار، والمبشّرين بالثواب في دار القرار.
وأمّا ما جرى بعدهم من الظلم على أهل بيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فمن الظهور بحيث لا مجال للإخفاء، ومن الشناعة بحيث لا اشتباه على الآراء، إذ تكاد تشهد به الجماد والعجماء، ويبكي له من في الأرض والسماء، وتنهدّ منه الجبال وتنشقّ الصخور، ويبقى سوء عمله على كرّ الشهور ومرّ الدهور، فلعنة على من باشر أو رضي أو سعى، (وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَـدُّ وأَبْقَى)(7).
فإن قيل: فمِن علماء المذهب مَن لم يجوّز اللعن على يزيد، مع علمهم بأن يسـتحقّ ما يربو على ذلك ويزيد؟!
قلنا: تحامياً عن أن يُرتقى إلى الأعلى فالأعلى، كما هو شعار الروافض على ما يروى في أدعيتهم ويجري في أنديتهم، فرأى المعتنون بأمر الدين إلجام العوامّ بالكلّية طريقاً إلى الاقـتصاد في الاعتـقاد، وبحيـث لا تزلّ الأقدام عن السواء، ولا تضلّ الأفهام بالأهواء، وإلاّ فمَن يخفى عليه الجواز والاستحقاق؟! وكيف لا يقع عليهما الاتّفاق؟! وهذا هو السرّ في ما نقل عن السلف من المبالغة في مجانبة أهل الضلال، وسدّ طريق لا يؤمن أن يجرّ إلى الغواية في المآل، مع علمهم بحقيقة الحال وجليّة المقال»(8).
أقـول:
إنّه ليس تحامياً عن أنْ يُرتقى إلى الأعلى فالأعلى فقط، بل لئلاّ ينزل إلى الأسفل والأسفل…
إنّهم بتحاميهم عن يزيد ومعاوية يريدون الإبقاء على حكومات الجور في أزمنتهم أيضاً; ولذا رووا أنّه لمّا سأل الخليفةُ الناصر عبـدَ المغيث الحنبلي عن سـبب منعه من لعن يزيد، أجابه بأنّـه: لو فتحنا هذا الباب لزم لعن خليفتنا ـ يعني الناصر ـ وعَـزْله عن الخـلافة…(9).
ومن هنا يظهر سرّ ممانعة الحكومات الجائرة عن لعن يزيد وقراءة مأتم الإمام عليه السلام وإقامة العزاء عليه…
هذا، ولا يخفى التهافت والتناقض بين كلام عبـد المغيث كلام ابن العربي، فإنّ ابن العربي أكّد على أنّ ابن عمر قد بايع يزيد بن معاوية، وكذّب القولَ بأنّه لم يبايع، واستند إلى خبر رواه البخاري ووصفه بـ «شيخ الصحابة»(10)، وعبـد المغيث ينصُّ على عدم مبايعته ليزيد…
وهذا من موارد تناقضات القوم فيما بينهم في دفاعهم عن الأشياخ!
وسـيأتي أنّ واحدهم أيضاً قد يناقض نفسَه وتتهافت كلماته…
(1) رسالته غير مطبوعة، وقد وردت هذه الوجوه في رسالة معاصره الحافظ أبي الفرج ابن الجوزي، التي أسماها بـ «الردّ على المتعصّب العنيـد المانع من لعن يزيد»، وهي مطبوعة; انظر: الردّ على المتعصّب العنيـد: 67 ـ 68.
(2) تقـدّم مفصّـلا في الصفحـتين 407 و 408; فراجـع.
(3) سـير أعلام النبلاء 21 / 160.
(4) البداية والنهاية 12 / 290 حوادث سـنة 583 هـ.
(5) شذرات الذهب 4 / 276 حوادث سـنة 583 هـ.
(6) سـير أعلام النبلاء 21 / 161.
(7) سورة طـه 20: 127.
(8) شرح المقاصد 5 / 310 ـ 311.
(9) انظر: البداية والنهاية 12 / 290 حوادث سـنة 583 هـ، سير أعلام النبلاء 21 / 161، ذيل طبقات الحنابلة 3 / 299.
(10) العواصم من القواصم: 213.