ممّا روي عن الأئمة في شهادة الحسين
روى الحضرمي الشافعي باسناده عن الربيع بن المنذر عن أبيه قال: «كان الحسين بن علي رضي الله عنهما يقول: من دمعت عيناه فينا دمعة أو قطرت عيناه فينا قطرة آتاه الله ـ وفي رواية بوّأه الله ـ الجنة»(1).
روى الشيخ الطوسي باسناده عن الربيع بن المنذر عن أبيه عن الحسين ابن علي عليه السّلام قال: «ما من عبد قطرت عيناه فينا قطرة أو دمعت عيناه فينا دمعة الاّ بوأه الله في الجنة حقباً، قال أحمد بن يحيى الأزدي: فرأيت الحسين بن علي في المنام: فقلت: حدثني مخول بن إبراهيم عن الربيع بن المنذر عن أبيه عنك أنك قلت: ما من عبد قطرت عيناه فينا قطرة أو دمعت عيناه فينا دمعة الاّ بوّأه الله بها في الجنة حقباً قال: نعم قلت، سقط الاسناد بيني وبينك».
روى الصدوق باسناده عن إبراهيم بن أبي محمود قال: «قال الرضا عليه السّلام: ان المحرم شهر كان أهل الجاهلية يحرمون فيه القتال فاستحلت فيه دماؤنا وهتك فيه حرمتنا، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأضرمت النيران في مضاربنا، وانتهب ما فيها من ثقلنا، ولم ترع لرسول الله حرمة في أمرنا. ان يوم الحسين أقرح جفوننا وأسبل دموعنا واذل عزيزنا بأرض كرب وبلاء وأورثنا الكرب والبلاء الى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون فان البكاء عليه يحط الذنوب العظام، ثم قال: كان أبي إذا دخل شهر المحرم لا يُرى ضاحكاً وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبة وحزنه وبكائه ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه الحسين»(2).
وروى باسناده عن الريان بن شبيب، قال: «دخلت على الرضا عليه السّلام في أول يوم من المحرم، فقال لي: يا ابن شبيب أصائم أنت؟ فقلت: لا، فقال ان هذا اليوم هو اليوم الذي دعا فيه زكريا ربه عزّوجل فقال: (رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء) فاستجاب الله له وأمر الملائكة فنادت زكريا وهو قائم يصلي في المحراب (أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى) فمن صام هذا اليوم، ثم دعا الله عزّوجل استجاب الله له كما استجاب لزكريا ثم قال: يا ابن شبيب ان المحرم هو الشهر الذي كان أهل الجاهلية فيما مضى يحرمون فيه الظلم والقتال لحرمته، فما عرفت هذه الأمة حرمة شهرها ولا حرمة نبيها صلّى الله عليه وآله وسلّم، لقد قتلوا في هذا الشهر ذريته وسبوا نساءه وانتهبوا ثقله فلا غفر الله لهم ذلك أبداً، يا ابن شبيب ان كنت باكياً لشيء فابك للحسين بن علي بن أبي طالب عليه السّلام فانه ذبح كما يذبح الكبش، وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلا ما لهم في الأرض شبيهون، ولقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله، ولقد نزل الى الأرض من الملائكة أربعة آلاف لنصره فوجدوه قد قتل، فهم عند قبره شعث غبر الى أن يقوم القائم فيكونون من أنصاره وشعارهم: يا لثارات الحسين. يا ابن شبيب لقد حدثني أبي عن أبيه عن جده عليه السّلام انه لما قتل الحسين جدي صلوات الله عليه مطرت السماء دماً وتراباً أحمر. يا ابن شبيب ان بكيت على الحسين عليه السّلام حتى تصير دموعك على خديك غفر الله لك كل ذنب أذنبته صغيراً كان أو كبيراً، قليلا كان أو كثيراً. يا ابن شبيب ان سرك أن تلقى الله عزّوجل ولا ذنب عليك فزر الحسين عليه السّلام. يا ابن شبيب ان سرك أن تسكن الغرف المبنية في الجنة مع النبي وآله صلوات الله عليه فالعن قتلة الحسين. يا ابن شبيب ان سرك أن يكون لك من الثواب مثل ما لمن استشهد مع الحسين عليه السّلام فقل متى ما ذكرته: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً. يا ابن شبيب ان سرك أن تكون معنا في الدرجات العلى من الجنان فاحزن لحزننا، وافرح لفرحنا وعليك بولايتنا فلو أن رجلا تولى حجراً لحشره الله معه يوم القيامة»(3).
وروى المجلسي بإسناده عن عبد الملك قال: «سألت أبا عبد الله عليه السّلام عن صوم تاسوعا وعاشورا من شهر المحرم، فقال: تاسوعا يوم حوصر فيه الحسين وأصحابه بكربلا، واجتمع عليه خيل أهل الشام وأناخوا عليه، وفرح ابن مرجانة وعمر بن سعد بتوافر الخيل وكثرتها، واستضعفوا فيه الحسين وأصحابه وأيقنوا أنه لا يأتي الحسين ناصر ولا يمدّهُ أهل العراق، بأبي المستضعف الغريب.
ثم قال: وأما يوم عاشورا فيوم أصيب فيه الحسين صريعاً بين أصحابه، وأصحابه حوله صرعى عراة، أفصوم يكون في ذلك اليوم؟ كلا ورب البيت الحرام ما هو يوم صوم، وما هو الاّ يوم حزن ومصيبة دخلت على أهل السماء وأهل الأرض وجميع المؤمنين، ويوم فرح وسرور لابن مرجانة وآل زياد وأهل الشام غضب الله عليهم وعلى ذرياتهم، وذلك يوم بكت جميع بقاع الأرض خلا بقعة الشام. فمن صامه أو تبرك به حشره الله مع آل زياد ممسوخ القلب، مسخوطاً عليه، ومن أدخر الى منزله ذخيرة أعقبه الله تعالى نفاقاً في قلبه الى يوم يلقاه، وانتزع البركة عنه وعن أهل بيته وولده، وشاركه الشيطان في جميع ذلك»(4).
قال المفيد: «قال علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام:… فسمعت أبي يقول لأصحابه: أثني على الله أحسن الثناء وأحمده على السراء والضراء، اللهم اني أحمدك على أن كرمتنا بالنبوة وعلمتنا القرآن وفقّهتنا في الدين وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة فاجعلنا من الشاكرين.
أما بعد، فاني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني خيراً. ألا واني لا أظن يوماً لنا من هؤلاء. ألا واني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حل ليس عليكم مني ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا. فقال له اخوته وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبد الله بن جعفر: لم نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبداً، بدأهم بهذا القول العباس بن علي واتبعه الجماعة عليه فتكلموا بمثله ونحوه.
فقال الحسين عليه السّلام: يا بني عقيل حسبكم من القتل بمسلم فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم، قالوا: سبحان الله فما يقول الناس؟ يقولون انا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا، لا والله ما نفعل ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبّح الله العيش بعدك.
وقام اليه مسلم بن عوسجة فقال: أنحن نخلي عنك وبما نعتذر الى الله في اداء حقك؟ اما والله حتى أطعن في صدورهم برمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح اقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة، والله لا نخليك حتى يعلم الله انا قد حفظنا غيبة رسوله فيك، أما والله لو قد علمت أني أقتل، ثم أحيى، ثم أحرق ثم أحيى، ثم أذرى، يفعل ذلك بي سبعين مرة، ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك وانما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً.
وقام زهير بن القين رحمة الله عليه فقال: والله لوددت أني قتلت ثم نشرت، ثم قتلت حتى أقتل هكذا ألف مرة، وأن الله عزّوجل يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك. وتكلم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً في وجه واحد. فجزاهم الحسين عليه السّلام خيراً، وانصرف إلى مضربه.
وقال علي بن الحسين عليهما السلام: «اني جالسٌ في تلك العشية التي قتل أبي في صبيحتها وعندي عمتي زينب تمرضني، إذا اعتزل أبي في خباء له وعنده جون مولى أبي ذر الغفاري وهو يعالج سيفه ويصلحه وأبي يقول:
يا دهر أفّ لك من خليل *** كم لك بالإشراق والأصيل
من صاحب أو طالب قتيل *** والدهر لا يقنع بالبديل
وانما الأمر الى الجليل *** وكلّ حيٍّ سالك سبيلي
فأعادها مرتين أو ثلاثاً حتى فهمتها، وعرفت ما أراد، فخنقتني العبرة فرددتها ولزمت السكوت وعلمت أن البلاء قد نزل، وأما عمتي فانها سمعت ما سمعت وهي امرأة ومن شأن النساء الرقة والجزع، فلم تملك نفسها أن وثبت تجرُّ ثوبها وانها لحاسرة حتى انتهت اليه فقالت: واثكلاه ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت أمي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن، يا خليفة الماضين وثمال الباقين، فنظر اليها الحسين عليه السّلام فقال لها: يا أخيّة لا يذهبن حلمك الشيطان وترقرقت عيناه بالدموع، وقال: لو تُرك القطا لنام فقالت: يا ويلتاه أفتغتصب نفسك اغتصاباً؟ فذاك أقرح لقلبي وأشد على نفسي، ثم لطمت وجهها وهوت الى جيبها فشقته وخرت مغشياً عليها. فقام اليها الحسين عليه السّلام فصب على وجهها الماء وقال لها: ايهاً يا أختاه، اتقي الله وتعزي بعزاء الله، واعلمي أن أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون وان كل شيء هالك الاّ وجه الله الذي خلق الخلق بقدرته، ويبعث الخلق ويعيدهم وهو فرد وحده، جدي خير مني وأبي خيرٌ مني وأمي خيرٌ مني وأخي خيرٌ مني، ولي ولكل مسلم برسول الله صلّى الله عليه وآله أسوة، فعزاها بهذا ونحوه وقال لها: يا أخية اني أقسمت عليك فأبري قسمي لا تشقي علي جيباً ولا تخمشي علي وجهاً ولا تدعي علي بالويل والثبور، إذا أنا هلكت، ثم جاء بها حتى أجلسها عندي، ثم خرج الى أصحابه فأمرهم أن يقرب بعضهم بيوتهم من بعض وأن يدخلوا الأطناب بعضها في بعض، وأن يكونوا بين البيوت فيستقبلون القوم من وجه واحد والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم قد حفت بهم الاّ الوجه الذي يأتيهم منه عدوهم. ورجع عليه السّلام الى مكانه، فقام الليل كله يصلي ويستغفر ويدعو ويتضرع، وقام أصحابه كذلك يصلون ويدعون ويستغفرون»(5).
وروى المجلسي بإسناده عن الثمالي قال: «قال علي بن الحسين عليه السّلام كنت مع أبي في الليلة التي قتل في صبيحتها، فقال لأصحابه: هذا الليل فاتخذوه جنة فان القوم انما يريدونني، ولو قتلوني لم يلتفتوا اليكم وأنتم في حل وسعة، فقالوا: والله لا يكون هذا أبداً، فقال: انكم تقتلون غداً كلكم ولا يفلت منكم رجل، قالوا: الحمد لله الذي شرّفنا بالقتل معك.
ثم دعا فقال لهم: ارفعوا رؤوسكم وانظروا، فجعلوا ينظرون الى مواضعهم ومنازلهم من الجنة، وهو يقول لهم: هذا منزلك يا فلان، فكان الرجل يستقبل الرماح والسيوف بصدره ووجهه ليصل الى منزله من الجنة»(6).
وروى البحراني عن الصادق عليه السّلام «أن الحسين قام في أصحابه خطيباً فقال: اللهم اني لا أعرف أهل بيت أبر ولا ازكى ولا أطهر من أهل بيتي ولا أصحاباً هم خير من أصحابي وقد نزل بي ما ترون وأنتم في حل من بيعتي ليست لي في أعناقكم بيعة ولا لي عليكم ذمة، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا وتفرقوا في سواده فان القوم انما يطلبوني، ولو ظفروا بي لذهلوا عن طلب غيري.
فقام اليه عبدالله بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب، فقال: يا ابن رسول الله ماذا يقول الناس ان نحن خذلنا شيخنا وكبيرنا وسيدنا وابن سيد الأعمام وابن سيدنا سيد الأنبياء، لم نضرب معه بسيف ولم نقاتل معه برمح، لا والله أو نرد موردك،ونجعل أنفسنا دون نفسك ودماءنا دون دمك، فإذا نحن فعلنا ذلك قضينا ما علينا وخرجنا مما لزمنا. وقام اليه رجل يقال له زهير بن القين البجلي فقال: يا ابن رسول الله وددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت ثم نشرت فيك وفي الذين معك مائة قتلة وان الله تعالى دفع بي عنكم أهل البيت فقال له وأصحابه: جزيتم خيراً»(7).
وروى ابن قولويه بإسناده عن الحلبي، قال: «سمعت أبا عبدالله عليه السّلام يقول: ان الحسين صلى بأصحابه الغداة ثم التفت اليهم فقال: ان الله قد أذن في قتلكم فعليكم بالصبر»(8).
وروى المفيد بإسناده عن علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام أنه قال: «لما أصبحت الخيل تقبل على الحسين عليه السّلام رفع يديه، وقال: اللهم أنت ثقتي في كل كرب وأنت رجائي في كل شدة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من هم يضعف فيه الفؤاد وتقل فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو، أنزلته بك وشكوته اليك رغبة مني اليك عمن سواك ففرجته عني وكشفته، فأنت ولي كل نعمة وصاحب كل حسنة ومنتهى كل رغبة»(9).
وروى البحراني عن الصادق عليه السّلام قال: «وثب الحسين متوكئاً على سيفه فنادى بأعلى صوته، فقال: أنشدكم الله هل تعرفوني؟ قالوا: نعم أنت ابن رسول الله وسبطه، فقال: أنشدكم الله هل تعلمون أن جدي رسول الله؟ قالوا: اللهم نعم. قال: أنشدكم هل تعلمون أن علي بن أبي طالب أبي؟ قالوا اللهم نعم. قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن جدتي خديجة بنت خويلد أول نساء هذه الأمة إسلاماً؟ قالوا: اللهم نعم. قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن حمزة سيد الشهداء عم أبي؟ قالوا اللهم نعم، قال: هل تعلمون أن جعفر الطيار في الجنة عمي؟ قالوا: اللهم نعم، قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن هذا سيف رسول الله وأنا متقلده؟ قالوا: اللهم نعم، قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن هذه عمامة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنا لا بسها؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن أبي كان أولهم اسلاماً وأعلمهم علماً وأعظمهم حلماً، وأنه ولي كل مؤمن ومؤمنة؟ قالوا: اللهم نعم، قال: فبم تستحلون دمي، وأبي الذائد عن الحوض غداً يذود عنه رجالا كما يذاد البعير الصادر عن الماء، ولواء الحمد في يد جدي يوم القيامة قالوا: علمنا ذلك كله، وانا غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشاً. فأخذ عليه السّلام بطرف لحيته وهو يومئذ ابن سبع وخمسين سنة، ثم قال: اشتد غضب الله على اليهود حين قالوا عزير ابن الله واشتد غضب الله على النصارى حين قالوا: المسيح ابن الله، واشتد غضب الله على المجوس حين عبدوا النار من دون الله، واشتد غضب الله على قوم قتلوا ابن بنت نبيهم، واشتد غضب الله على هذه العصابة الذين يريدون قتل ابن نبيهم»(10).
وروى المجلسي باسناده عن أبي جعفر الثاني عن آبائه عليهم السلام قال: «قال علي بن الحسين عليه السّلام: لما اشتد الأمر بالحسين بن علي بن أبي طالب نظر اليه من كان معه فإذا هو بخلافهم، لانهم كلما اشتد الأمر تغيرت ألوانهم، وارتعدت فرائصهم ووجلت قلوبهم. وكان الحسين عليه السّلام وبعض من معه من خصائصه تشرق ألوانهم وتهدىء جوارحهم وتسكن نفوسهم. فقال بعضهم لبعض: انظروا لا يبالي بالموت.
فقال لهم الحسين عليه السّلام: صبراً بني الكرام فما الموت الاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضراء الى الجنان الواسعة والنعيم الدائم، فأيكم يكره أن ينتقل من سجن الى قصر؟ وما هو لأعدائكم الاّ كمن ينتقل من قصر الى سجن وعذاب. ان أبي حدثني، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، والموت جسر هؤلاء الى جنانهم، وجسر هؤلاء الى جحيمهم، ما كذبت لولا كذبت»(11).
وروى بإسناده عن الثمالي قال: «نظر علي بن الحسين سيد العابدين الى عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب عليهم السّلام فاستعبر، ثم قال: ما من يوم أشد على رسول الله صلّى الله عليه وآله من يوم أحد، قتل فيه عمه حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله، وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب، ثم قال عليه السّلام: ولا يوم كيوم الحسين، ازدلف اليه ثلاثون ألف رجل يزعمون أنهم من هذه الأمة كل يتقرب الى الله عزّوجل بدمه وهو بالله يذكرهم فلا يتعظون، حتى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً، ثم قال عليه السّلام: رحم الله العباس فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه حتى قطعت يداه، فأبدل الله عزّوجل بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة كما جعل لجعفر بن أبي طالب. وان للعباس عند الله عزّوجل منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة»(12).
روى السيد ابن طاووس عن مولانا الصادق عليه السّلام أنه قال: «سمعت أبي يقول: لما التقى الحسين وعمر بن سعد وقامت الحرب، أنزل الله تعالى النصر حتى رفرف على رأس الحسين عليه السّلام ثم خير بين النصر على أعدائه وبين لقاء الله فاختار لقاء الله»(13).
روى ابن شهر آشوب باسناده عن جعفر بن محمّد بن علي عليه السّلام قال:«وجدنا بالحسين عليه السّلام ثلاثاً وثلاثين طعنة وأربعاً وثلاثين ضربة وقال الباقر عليه السّلام: أصيب عليه السّلام ووجد به ثلاثمائة وبضعة وعشرين طعنة برمح أو ضربة بسيف أو رمية بسهم»(14).
قال السيد نعمة الله الجزائري: «روينا مسنداً الى الباقر عليه السّلام: اُصيب الحسين بن علي ووجد فيه ثلاثمائة وبضع وعشرون طعنة برمح، أو ضربة بسيف، أو رمية بسهم، وروي أنها كانت في مقدمه لأنه كان لا يولي»(15).
وقال: «روينا مسنداً الى الصادق عليه السّلام قال: لما ضرب الحسين عليه السّلام بالسيف ثم ابتدر ليقطع رأسه نادى مناد من قبل رب العزة تبارك وتعالى من بطنان العرش، فقال: أيتها الأمة المتحيرة الظالمة(16) بعد نبيها لا وفقكم الله لأضحى ولا فطر.
ثم قال أبو عبدالله عليه السّلام: لا جرم والله ما وفقوا ولا يوفقون أبداً حتى يقوم ثائر الحسين»(17).
ونجد في زيارة الامام المهدي صلوات الله وسلامه عليه وصفاً دقيقاً لما جرى على جده الحسين عليه السّلام: «السلام على الجيوب المضرجات، السلام على الشفاه الذابلات، السلام على النفوس المصطلمات، السلام على الأرواح المختلسات، السلام على الأجساد العاريات، السلام على الجسوم الشاحبات، السلام على الدماء السائلات، السلام على الأعضاء المقطعات، السلام على الرؤوس المشالات، السلام على النسوة البارزات.. السلام على القتيل المظلوم، السلام على أخيه المسموم، السلام على علي الكبير، السلام على الرضيع الصغير، السلام على الأبدان السليبة، السلام على العترة القريبة، السلام على المجدلين في الفلوات، السلام على النازحين عن الأوطان، السلام على المدفونين بلا أكفان، السلام على الرؤوس المفرقة عن الأبدان.
السلامُ على المحتسب الصابر، السلام على المظلوم بلا ناصر، السلام على ساكن التربة الزاكية، السلام على صاحب القبة السامية، السلام على من طهره الجليل، السلام على من افتخر به جبرئيل، السلام على من ناغاه في المهد ميكائيل،السلام على من نكثت ذمته، السلام على من هتكت حرمته، السلام على من أريق بالظلم دمُه، السلام على المغسل بدم الجراح، السلام على المجرح بكاسات الرماح،السلام على المضام المستباح، السلام على المنحور في الورى، السلام على من دفنه أهل القرى، السلام على المقطوع الوتين، السلام على المحامي بلا معين، السلام على الشيب الخضيب، السلام على الخد التريب، السلام على البدن السليب، السلام على الثغر المقروع بالقضيب، السلام على الرأس المرفوع.
السلام على الأجسام العارية في الفلوات تنهشها الذئاب العاديات، وتختلف اليها السباع الضاريات.
السلام عليك يا مولاي وعلى الملائكة المرفرفين حول قبتك، الحافين بتربتك، الطائفين بعرصتك، الواردين لزيارتك، السلام عليك فاني قصدت اليك ورجوت الفوز لديك، السلام عليك سلام العارف بحرمتك، المخلص في ولايتك المتقرب الى الله بمحبتك البريء من أعدائك، سلام من قلبه بمصابك مقروح، ودمعه عند ذكرك مسفوح، سلام المفجوع المحزون الواله المستكين، سلام من لو كان معك في الطفوف لوقاك بنفسه حد السيوف وبذل حشاشته دونك للحتوف، وجاهد بين يديك ونصرك على من بغى عليك وفداك بروحه وجسده وماله وولده، وروحه لروحك فداء، وأهله لأهلك وقاء.
فلئن أخرتني الدهور وعاقني عن نصرك المقدور ولم أكن لمن حاربك محارباً ولمن نصب لك العداوة مناصباً، فلأ ندبنّك صباحاً ومساء، ولأبكيّن لك بدل الدموع دماً، حسرة عليك وتأسفاً على ما دهاك وتلهّفاً، حتى أموت بلوعة المصاب وغصة الاكتئاب.
وأمر اللعين جنده فمنعوك الماء ووروده، وناجزوك القتال وعاجلوك النزال، ورشقوك بالسهام والنبال وبسطوا اليك اكف الاصطلام، ولم يرعوا لك ذماماً، ولا راقبوا فيك أثاماً في قتلهم أولياءك ونهبهم رحالك وأنت مقدم في الهبوات ومحتملٌ للأذيات، قد عجبت من صبرك ملائكة السماوات، فأحدقوا بك من كل الجهات، وأثخنوك بالجراح وحالوا بينك وبين الرواح ولم يبق لك ناصر وأنت محتسب صابر، تذب عن نسوتك وأولادك، حتى نكسوك عن جوادك فهويت الى الأرض جريحاً، تطؤك الخيول بحوافرها وتعلوك الطغاة ببواترها، قد رشح للموت جبينك، واختلف بالانقباض والانبساط شمالك ويمينك، تدير طرفاً خفياً الى رحلك وبيتك وقد شغلت بنفسك عن ولدك وأهاليك.
وأسرع فرسك شارداً إلى خيامك قاصداً محمحماً باكياً، فلما رأين النساء جوادك مخزيّاً ونظرن سرجك عليه ملويِّاً، برزن من الخدور ناشرات الشعور، على الخدود لاطمات وبالعويل داعيات، وبعد العز مذللات، وإلى مصرعك مبادرات، والشمر جالسٌ على صدرك مولع سيفه على نحرك، قابضٌ على شيبتك بيده ذابح لك بمهنّده، قد سكنت حواسك وخفيت أنفاسك، ورفع على القنا رأسُك، وسبي أهلك كالعبيد وصفدوا في الحديد فوق اقتاب المطيات يلفح وجوههم حر الهاجرات، يساقون في البراري والفلوات، أيديهم مغلولة إلى الأعناق، يطاف بهم في الأسواق»(18).
روى ابن قولويه باسناده عن أبي عبد الله قال: «إذا أردت زيارة الحسين عليه السّلام فزره وأنت كئيب حزين مكروب شعثاً مغبراً جائعاً عطشاناً. فان الحسين قتل حزيناً مكروباً شعثاً مغبراً جائعاً عطشاناً، وسله الحوائج وانصرف عنه ولا تتخذه وطناً»(19).
وروى باسناده عن قدامة بن زائدة عن أبيه، قال: «قال علي بن الحسين عليه السّلام بلغني ـ يا زائدة ـ أنك تزور قبر أبي عبد الله الحسين عليه السّلام أحياناً فقلت: ان ذلك لكما بلغك، فقال لي: فلماذا تفعل ذلك، ولك مكان عند سلطانك الذي لا يحتمل أحداً على محبتنا وتفضيلنا وذكر فضائلنا و الواجب على هذه الأمة من حقنا؟ فقلت: والله ما أريد بذلك الاّ الله ورسوله، ولا أحفل بسخط من سخط، ولا يكبر في صدري مكروه ينالني بسببه، فقال: والله ان ذلك لكذلك، فقلت: والله ان ذلك لكذلك، يقولها ثلاثاً وأقولها ثلاثاً.
فقال: أبشر ثم ابشر ثم أبشر، فلأخبرنك بخبر كان عندي في النخب المخزون، فانه لما أصابنا بالطف ما أصابنا وقتل أبي عليه السّلام وقتل من كان معه من ولده واخوته وسائر أهله، وحملت حرمه ونساؤه على الأقتاب يراد بنا الكوفة فجعلت انظر اليهم صرعى ولم يواروا، فعظم ذلك في صدري واشتد لما أرى منهم قلقي، فكادت نفسي تخرج، وتبينت ذلك مني عمتي زينب الكبرى بنت علي عليه السّلام فقالت: ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي واخوتي؟ فقلت: وكيف لا أجزع واهلع، وقد أرى سيدي واخوتي وعمومتي وولد عمي وأهلي مصرعين بدمائهم مرملين بالعرى، مسلبين لا يكفنون ولا يوارون، ولا يعرج عليهم أحد ولا يقربهم بشر، كأنهم أهل بيت من الديلم والخزر؟ فقالت: لا يجزعنّك ما ترى، فوالله ان ذلك لعهد من رسول الله إلى جدك وأبيك وعمك، ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأمة وهم معروفون في أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها وهذه الجسوم المضرجة، وينصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيام، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره الاّ ظهوراً وأمره الاّ علواً»(20).
وروى الشيخ الطوسي عن الصادق عليه السلام قال: «أصبحت يوماً أم سلمة رضي الله عنها تبكي، فقيل لها: مم بكاؤك؟ فقالت: لقد قتل ابني الحسين الليلة، وذلك أنني ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله منذ مضى الاّ الليلة، فرأيته شاحباً كئيباً فقالت: قلت: ما لي أراك يا رسول الله شاحباً كئيباً؟ قال: ما زلت الليلة احفر القبور للحسين وأصحابه عليه وعليهم السلام»(21).
وروى باسناده عن ابن كثير قال: «قدمت الكوفة في المحرم سنة احدى وستين منصرف علي بن الحسين عليهما السلام بالنسوة من كربلاء ومعهم الاجناد يحيطون بهم، وقد خرج الناس للنظر اليهم، فلما أقبلوا بهم على الجمال بغير وطاء جعل نساء الكوفة يبكين وينشدن، فسمعت علي بن الحسين عليه السّلام يقول بصوت ضئيل ـ وقد نهكته العلة وفي عنقه الجامعة ويده مغلولة الى عنقه ـ: ان هؤلاء النسوة يبكين، فمن قتلنا؟»(22).
قال السيد نعمة الله الجزائري: «روينا عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: لما وفدنا على يزيد بن معاوية لعنهما الله تعالى أتوا بحبال وربقونا مثل الأغنام، وكان الحبل بعنقي وعنق أم كلثوم وبكتف زينب وسكينة والبنات تساق، كلما قصرن عن المشي ضربنا، حتى أوقفونا بين يدي يزيد، فتقدمت اليه وهو على سرير مملكته، وقلت له: ما ظنك برسول الله لو يرانا على هذه الصفة؟ فبكى وبكى كل من كان حاضراً في مجلسه. فأمر بالحبال فقطعت من أعناقنا وأكتافنا»(23).
(1) وسيلة المآل ص115 ورواه السمهودي في جواهر العقدين العقد الثاني، الذكر العاشر ص255.
(2) أمالي الصدوق المجلس السابع والعشرون ص128 الحديث 2.
(3) الأمالي للصدوق ص129 الحديث 5.
(4) بحار الأنوار ج45 ص95 الطبعة الحديثة.
(5) الإرشاد ص214.
(6) بحار الأنوار ج44 ص298 الطبعة الحديثة.
(7) حلية الأبرار ج1 ص601.
(8) كامل الزيارات ص73.
(9) الإرشاد ص217.
(10) حلية الأبرار ج1 ص602.
(11) بحار الأنوار ج44 ص297 الطبعة الثانية.
(12) المصدر ص98.
(13) اللهوف ص98.
(14) مناقب آل أبي طالب ج4 ص110.
(15) الأنوار النعمانية ج3 ص245.
(16) في نسخة الظالّة ولعلّه اصوب.
(17) المصدر ص246.
(18) تحفة الزائر ص351.
(19) كامل الزيارات ص131.
(20) كامل الزيارات ص260.
(21) أمالي الشيخ الطوسي ج3 ص56.
(22) الأمالي ص56.
(23) الأنوار النعمانية ج3 ص251.