ما الدليل على كون صلة «الأوْلى» هو «بالتصرّف»؟
ثمّ إنّهم بعدما اضطرّوا إلى التسليم والاعتراف بمجيء «المولى» بمعنى «الأوْلى»، جعلوا يطالبون بالدليل على كون صلة «الأوْلى» هو «بالتصرّف»، وإنّه لماذا لا تكون الصلة «بالمحبّة» مثلاً؟
فنقول:
أوّلاً: قد ثبت أنّ «المولى» يجيء بمعنى «المتصرّف في الأمر»؛ فقد ذكر الرازي بتفسير قوله تعالى: (واعتصموا باللّه هو مولاكم)(1): «… هو مولاكم: سيّدكم والمتصرّف فيكم…»(2).
وقال النيسابوري بتفسير الآية: (ثمّ رُدّوا إلى اللّه مولاهم الحقّ)(3): «والمعنى: إنّهم كانوا في الدنيا تحت تصرّفات الموالي الباطلة، وهي النفس والشهوة والغضب، فإذا ماتوا انتقلوا إلى تصرف المولى الحقّ»(4).
وثانياً: قد ثبت مجيء «المولى» بمعنى «متولّي الأمر»(5)، ولا فرق بين «المتولّي» و«المتصرّف» كما لا يخفى.
ونكتفي بعبارة الفخر الرازي بتفسير قوله تعالى: (أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين)(6)، قال: «وفي قوله: (أنت مولانا)، فائدة أُخرى، وذلك: إنّ هذه الكلمة تدلّ على نهاية الخضوع والتذلّل والاعتراف بأنّه سبحانه هو المتولّي لكلّ نعمة يصلون إليها، وهو المعطي لكلّ مكرمة يفوزون بها، فلا جرم أظهروا عند الدعاء أنّهم في كونهم متّكلين على فضله وإحسانه، بمنزلة الطفل الذي لا تتمّ مصلحته إلاّ بتدبير قيّمه، والعبد الذي لا ينتظم شمل مهمّاته إلاّ بإصلاح مولاه، فهو سبحانه قيّوم السماوات والأرض والقائم بإصلاح مهمّات الكلّ، وهو المتولّي في الحقيقة للكلّ على ما قال، (نعم المولى ونعم النصير)(7)»(8).
وثالثاً: قد ثبت مجيء «المولى» بمعنى «المليك»، وهل «المليك» إلاّ «المتصرّف في الأُمور»؟!
لقد نصَّ على مجيء «المولى» بالمعنى المذكور البخاري في كتاب التفسير؛ قال: «باب (ولكلٍّ جعلنا موالي ممّا ترك الوالدان والأقربون والّذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبَهم إنّ اللّه كان على كلّ شيء شهيداً)(9): وقال معمر: موالي: أولياء، ورثة. عاقد أيمانكم: هو مولى اليمين، وهو الحليف. والمولى أيضاً: ابن العم، والمولى: المنعم المعتق، والمولى: المعتق، والمولى: المليك، والمولى: مولىً في الدين»(10)..
فالمولى يجيء بمعنى «المليك».
قال العيني والقسطلاني في شرحيهما على صحيح البخاري: «المولى: المليك؛ لأنّه يلي أُمور الناس»(11).
ورابعاً: قد ثبت مجيء «المولى» بمعنى «السيّد»، ومن الواضح أنّ «الإمام» و«الرئيس» و«ولي الأمر» هو: «السيّد» المطلق.
وخامساً: إن صلة «الأوْلى» هي لفظة «التصرّف» أو نحوها من الألفاظ الدالّة على وجوب الإطاعة والامتثال والانقياد… ممّا هو مقتضى الولاية العامّة، ولقد فهم الشيخان أبو بكر وعمر من لفظ حديث الغدير الأولويّة «بالاتّباع والقرب» كما اعترف بذلك ابن حجر المكّي في مقام الجواب عن حديث الغدير؛ ـ إذ قال:
«سلّمنا إنّه (أوْلى) لكنْ لا نسلّم أنّ المراد أنّه أولى بالإمامة، بل بالاتّباع والقرب منه، فهو كقوله تعالى: (إنّ أوْلى الناس بإبراهيم للّذين اتّبعوه)، ولا قاطع بل ولا ظاهر على نفي هذا الاحتمال، بل هو واقع إذ هو الذي فهمه أبو بكر وعمر، وناهيك بهما في الحديث، فإنّهما لمّا سمعاه قالا له: أمسيت يا ابن أبي طالب مولى كلّ مؤمن ومؤمنة. أخرجه الدارقطني..
وأخرج أيضاً أنّه قيل لعمر: إنّك تصنع بعلي شيئاً لا تصنعه بأحد من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم؟ فقال: إنّه مولاي»(12).
ولقد فُسّر «المولى» في قوله تعالى: (ولكلٍّ جعلنا موالي…) بـ: «الوارث الأوْلى» ضمن وجوه عديدة؛ قال الرازي: «وكلّ هذه الوجوه حسنة محتملة»(13).
وسادساً: إنّه قد جوّز غير واحد من كبار علماء القوم أن يكون «بالتصرّف» صلة للفظة «الأوْلى»، إلاّ أنّهم توهّموا أن ذلك يستلزم أن يكون الإمام عليه السلام متصرّفاً في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم؛ فقال القاري بشرح حديث الغدير: «في شرح المصابيح للقاضي: قالت الشيعة: المولى هو المتصرّف، وقالوا: معنى الحديث أنّ عليّاً رضي اللّه عنه يستحقّ التصرّف في كلّ ما يستحقّ الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم التصرّف فيه، ومن ذلك أُمور المؤمنين، فيكون إمامهم. قال الطيّبي: لا يستقيم أن يحمل الولاية على الإمامة التي هي التصرّف في أُمور المؤمنين؛ لأنّ المتصرّف المستقلّ في حياته صلّى اللّه عليه وآله وسلّم هو لا غير، فيجب أن يحمل على المحبّة وولاء الإسلام ونحوهما»(14).
أقول:
وحاصل هذا الكلام: وجود المقتضي لأن تكون الصلة «بالتصرّف»، بل إنّ الحديث ظاهر في ذلك، وهذا هو المطلوب، لكنّ استقلال النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بالتصرّف مانع من الأخذ بالظاهر؛ قال: «فيجب أن يحمل على المحبّة وولاء الإسلام ونحوهما». وسيأتي الجواب عن هذا.
(1) سورة الحج 22 : 78.
(2) تفسير الرازي 23 : 74.
(3) سورة الأنعام 6 : 62.
(4) تفسير غرائب القرآن 3 : 95، وانظر: تفسير الفخر الرازي 13 : 18.
(5) الكشّاف 2 : 356، أنوار التنزيل وأسرار التأويل: 716، تفسير النسفي 1 : 369، البحر المحيط 5 : 433 و 6 : 52، تفسير غرائب القرآن 6 : 320، تفسير الجلالين بهامش تفسير البيضاوي 2 : 101، تفسير أبي السعود 8 : 266.
(6) سورة البقرة 2 : 286.
(7) سورة الأنفال 8 : 40.
(8) تفسير الرازي 7 : 161.
(9) سورة النساء 4 : 33.
(10) تفسير ابن كثير والكشّاف ذيل الآية، تهذيب الأسماء واللّغات 4 : 196، النهاية ـ لابن الأثير ـ: مادّة «ولي»، مرقاة المفاتيح 5 : 568، فتح الباري 8 : 199 وغيرها.
(11) عمدة القاري 18 : 170، ارشاد الساري 7 : 80.
(12) الصواعق المحرقة: 67.
(13) تفسير الرازي 10 : 86.
(14) مرقاة المفاتيح 5 : 568.