تكلّم الشافعي فيه بسبب ردّه الأحاديث الصحيحة
وأيضاً: فقد تكلّم فيه بسبب ردّه للأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعدم عمله بها… قال الرازي ـ بعد نقل قاعدة في الأحاديث عن الشافعي ـ :
«ولمّا قرّر الشافعي هذه القاعدة، ذكر أنّ مالكاً اعتبر هذه القاعدة في بعض المواضع دون البعض، ثمّ ذكر المسائل التي ترك الأخبار الصحيحة فيها لقول واحد من الصحابة أو لقول بعض التابعين أو لرأي نفسه، ثم ذكر ما ترك فيه من أقاويل الصحابة لرأي بعض التابعين أو لرأي نفسه، وذلك أنّه ربّما يدّعي الإجماع وهو مختلف فيه، ثمّ بيّن الشافعي أن ادعاء أنّ إجماع أهل المدينة حجّة قول ضعيف، وذكر من هذا الباب أمثلة منها: أنّ مالكاً قال أقول: أجمع الناس على أنّ سجود القرآن إحدى عشرة سجدة وليس في المفصّل منها شيء. ثمّ قال الشافعي: قد روى هو عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه سجد في (إذا السماء انشقّت)، وإنّ عمر بن الخطّاب سجد في النّجم، فقد روى السجود في المفصل عن النبي عليه السلام وعن عمر وعن أبي هريرة رضي الله عنهما، فليت شعري من الناس الذين أجمعوا على أنه لا سجدة في المفصّل، ثمّ بين أنّ أكثر الفقهاء ذهبوا إلى أنّ في المفصّل سجوداً. ومنها: أنّ مالكاً زعم أنّ الناس أجمعوا على أنه لا سجدة في الحجّ إلاّ مرّةً واحدة، وهو يروي عن عمر وابن عمر أنّهما سجدا في الحجّ سجدتين. ثمّ قال الشافعي: وليت شعري من هؤلاء المجمعون الذين لا يسمّون، فإنّا لا نعرفهم، ولا يكلّف الله أحداً أن يأخذ دينه عمّن لا يعرفه»(1).
وقال أيضاً بعد كلام الشافعي في عكرمة: «ولقائل أن يقول: حاصل هذه الإعتراضات يرجع إلى أمرين:
الاعتراض الأوّل: أنّ مالكاً يروي الحديث ثمّ إنّه يترك العمل به لأجل أنّ أهل المدينة تركوا العمل به، وهذا يقتضي تقديم عمل علماء المدينة على قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإنّه لا يجوز.
ولمالك أن يجيب عنه فيقول: هذه الأحاديث ما وصلت إلينا إلاّ برواية علماء المدينة، فهؤلاء إمّا أن يكونوا من العدول أو لا يكونوا من العدول; فإن كانوا من العدول وجب أن يعتقدوا أنّهم إنما تركوا العمل بهذا الحديث لاطّلاعهم على ضعف فيه، إمّا لأجل ضعف في الرواية أو لأجل أنّه وجد ناسخ أو مخصّص، وعلى جميع التقديرات فترك العمل به واجب.
فإن قالوا: فلعلّهم اعتقدوا في هذا الحديث تأويلاً خاطئاً، فلأجل ذلك التأويل الخاطىء تركوا العمل به، وعلى هذا التقدير لا يلزم من تركهم العمل بالحديث حصول ضعف فيه. قلنا: إنّ علماء المدينة الذين كانوا قبل مالك كانوا أقرب الناس إلى زمان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأشدّهم مخالطة للصحابة وأقواهم رغبة في الدين، وأبعدهم عن الميل إلى الباطل، فيبعد اتفاق جمهور علماء المدينة على تأويل فاسد.
وأمّا إن قلنا: إنّ علماء المدينة ليسوا بعدول، كان الطعن فيهم يوجب الطعن في الخبر.
فثبت بهذا الطريق أنّ الدليل الذي ذكرناه يقتضي ترجيح عمل علماء المدينة على ظاهر خبر الواحد، وليس هذا قولاً بأنّ إجماعهم حجّة، بل هو قول بأنّ عملهم إذا كان على خلاف ظاهر الحديث أورث ذلك قدحاً وطعناً في الحديث…»(2).
أقول:
وما ذكره الرازي حمايةً لمالك ومذهبه ركيك جدّاً، لأنّه تخطئة للشافعي، وقد اعترف هو بأنّه إيذاء لله ورسوله وموجب للّعن والعذاب، ولأنّ القول بوجوب ترك العمل بالأحاديث الصحيحة بسبب عمل أهل المدينة على خلافها وكذا ما قاله في الجواب عن احتمال الخطأ في التأويل… من غرائب الهفوات، ويكفي للردّ على دعوى حجّيّة إجماع أهل المدينة كلام وليّ الدين العراقي، حيث قال في مقام بيان تأويلات حديث خيار المجلس الذي أخذ به المالكيّة والحنفيّة:
«أحدها ـ ما تقدّم من مخالفته لإجماع أهل المدينة، وتقدّم ردّه بأنّهم لم يجمعوا على مخالفته، وأيضاً: فإجماعهم ليس بحجّة، وقال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة: الحق الذي لا شكّ فيه أنّ إجماعهم لا يكون حجّة فيما طريقه الاجتهاد والنظر، لأنّ الدليل العاصم للاُمّة من الخطأ في الإجتهاد لا يتناول بعضهم، ولا مستند للعصمة سواه، وكيف يمكن أن يقال: إنّ من كان بالمدينة من الصحابة يقبل خلافه مادام مقيماً بها فإذا خرج منها لم يقبل خلافه، هذا محال. فإنّ قبول قوله باعتبار صفات قائمة به حيث حلّ، وقد خرج منها علي وهو أفضل أهل زمانه بإجماع أهل السنّة، وقال أقوالاً بالعراق كيف يمكن أن تهدر إذا خالفها أهل المدينة وهو كان رأسهم، وكذلك ابن مسعود…»(3).
(1) مناقب الامام الشافعي: 53.
(2) مناقب الإمام الشافعي: 54 ـ 55.
(3) شرح الأحكام الصغرى ـ مبحث خيار المجلس.