القدح في النسائي وكتابه
لكنّ الأئمّة الأعلام تكلّموا ـ مع هذا كلّه ـ في النسائي وكتابه وحطّوا عليه، في مواضع كثيرة:
(منها): عندما تكلّم في أحمد بن صالح المصري، فإنّهم بعدما ذكروا سبب تكلّمه فيه، عادوا فتكلّموا في النسائي نفسه، لأنّه بعد العلم بسبب ذلك ـ كما ذكروا ـ يظهر قلّة ديانة النسائي ومتابعته للهوى في الجرح والتعديل، وسقوط كلماته في الرجال:
قال السبكي: «قال الحافظ أبو يعلى في كتاب الإرشاد: ابن صالح ثقة حافظ، واتفق الحفّاظ على أنّ كلام النسائي فيه تحامل، ولا يقدح كلام أمثاله فيه، وقد نقم على النسائي كلامه فيه. وقال ابن العربي في كتاب الأحوذي: إمام ثقة من أئمّة المسلمين لا يؤثر فيه تجريح، وإنّ هذا القول ليحط من النسائي أكثر ممّا حطّ من ابن صالح، وكذا قال الباجي»(1).
قال: «لا يلتفت إلى كلام ابن أبي ذئب في مالك، وابن معين في الشافعي، والنسائي في أحمد بن صالح، لأنّ هؤلاء أئمّة مشهورون، صار الجارح لهم كالآتي بخبر غريب لو صحّ لتوفّرت الدواعي على ما نقله، فكان القاطع قائماً على كذبه فيما قاله»(2).
وقال العراقي في (شرح الألفية): «ثمّ إنّ الجارح وإن كان إماماً معتمداً في ذلك فربّما أخطأ فيه، كما جرح النسائي أحمد بن صالح المصري بقوله: غير ثقة ولا مأمون، وهو ثقة إمام حافظ، احتجّ به البخاري في صحيحه وقال ثقة، ما رأيت أحداً يتكلّم فيه بحجّة، وكذا وثّقه أبو حاتم الرازي والعجلي وآخرون، وقد قال أبو يعلى الخليلي: اتفق الحفّاظ على أنّ كلام النسائي فيه تحامل، ولا يقدح كلام أمثاله فيه، وقد بيّن ابن عدي سبب كلام النسائي فيه فقال: سمعت محمّد بن هارون البرقي يقول: حضر مجلس أحمد فطرده من مجلسه، فحمله ذلك على أن تكلّم فيه. قال الذهبي: آذى النسائي نفسه بكلامه فيه».
وقال الذهبي وابن حجر بترجمة أحمد بن صالح نقلاً عن ابن عدي: «وأمّا سوء ثناء النسائي عليه ـ أي على أحمد بن صالح ـ فسمعت محمّد بن هارون البرقي يقول: هذا الخراساني يتكلّم في أحمد بن صالح، حضر مجلس أحمد ابن صالح فطرده من مجلسه، فحمله ذاك على أن يتكلّم فيه»(3).
وقال الذهبي بترجمة أحمد بن صالح: «وقال ابن عدي: كان النسائي سيّئ الرأي فيه ـ أي أحمد بن صالح ـ وأنكر عليه أحاديث، فسمعت محمّد بن هارون البرقي يقول: هذا الخراساني يتكلّم في أحمد بن صالح، لقد حضرت مجلس أحمد بن صالح فطرده من مجلسه، فحمله ذلك على أن يتكلّم فيه ـ إلى أن قال ابن عدي ـ ولولا أنّي شرطت أن أذكر في كتابي كلّ من تكلّم فيه لكنت أجلّ أحمد بن صالح أن أذكره»(4).
هذا، ومن الأحاديث التي أبطلوها في كتابه، حديث أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم طاف في حجة الوداع طواف الزيارة بالليل، فقد قال ابن قيّم الجوزيّة ما نصّه:
«الطائفة الثالثة الذين قالوا أخّر طواف الزيارة إلى الليل، وهم طاوس ومجاهد وعروة، ففي سنن أبي داود والنسائي وابن ماجة، من حديث ابن الزبير المكي عن عائشة وجابر أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أخّر طواف يوم النحر إلى الليل. وفي لفظ طواف الزيارة. قال الترمذي: حديث حسن.
وهذا الحديث غلط بيّن، خلاف المعلوم من فعله صلّى الله عليه وسلّم الذي لا يشكّ فيه أهل العلم بحجّته صلّى الله عليه وسلّم، ونحن نذكر كلام الناس فيه:
قال الترمذي في كتاب العلل له: سألت محمّد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث وقلت له: سمع ابن الزبير من عائشة وابن عبّاس؟ قال: أمّا من ابن عبّاس فنعم، وإنّ في سماعه من عائشة نظراً.
وقال أبوالحسن ابن القطّان: عندي أنّ هذا الحديث ليس بصحيح، إنّما طاف النبي صلّى الله عليه وسلّم يومئذ نهاراً، وإنّما اختلفوا هل صلّى الظهر بمكّة أو رجع إلى منى فصلّى الظهر بعد أن فرغ من طوافه; فابن عمر يقول: إنّه رجع إلى منى فصلّى الظهر بها، وجابر يقول: إنّه صلّى الظهر بمكّة، وهو ظاهر حديث عائشة من غير رواية أبي الزبير هذه التي فيها أنّه أخّر الطواف إلى الليل، وهذا شيء لم يرو إلاّ من هذه الطريق.
وأبو الزبير مدلّس ولم يذكر هاهنا سماعاً من عائشة، وقد عهد يروي عنها بواسطة، ولا أيضاً من ابن عبّاس فقد عهد كذلك يروي عنه بواسطة وإن كان قد سمع منه، فيجب التوقّف فيما يرويه أبوالزبير عن عائشة وابن عبّاس ممّا لا يذكر فيه سماعاً منهما، لما عرف به من التدليس، ولو عرف سماعه منهما لغير هذا، فأمّا ولم يصحّ لنا أنّه سمع من عائشة فالأمر بيّن في وجوب التوقّف فيه، وإنّما تختلف العلماء في قبول حديث المدلّس إذا كان عمّن قد علم لقاؤه له وسماعه منه، هاهنا يقول قوم يقبل ويقول آخرون يردّ ما يعنعنه عنهم حتّى يبيّن في حديث حديث، وأمّا ما يعنعنه المدلّس عمّن لم يعلم لقاؤه له ولا سماعه منه، فلا أعلم الخلاف فيه بأنّه لا يقبل، ولو كنّا نقول بقول مسلم أنّ معنعن المتعاصرين محمول على الاتصال ولو لم يعلم التقاؤهما، فإنّما ذلك في غير المدلّسين.
وأيضاً، فما قدّمناه من صحّة طواف النبي صلّى الله عليه وسلّم يومئذ نهاراً، والخلاف في ردّ حديث المدلّسين حتّى يعلم اتّصاله أو قبوله حتّى تعلم اتّصاله، إنّما هو إذا لم يعارضه ما لا شكّ في صحّته، وهذا فقد عارضه ما لا شكّ في صحّته. إنتهى كلامه.
ويدلّ على غلطه على عائشة: أنّ أبا سلمة بن عبدالرحمن روى عن عائشة أنّها قالت: حججنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأفضنا يوم النحر.
وروى محمّد بن إسحاق عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه عنها: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أذن لأصحابه فزاروا البيت يوم النحر ظهيرة، وزار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع نسائه ليلاً، وهذا غلط أيضاً. قال البيهقي: وأصحّ هذه الروايات حديث نافع عن ابن عمر، وحديث جابر وحديث أبي سلمة عن عائشة، يعني أنّه طاف نهاراً.
قلت: وإنّما نشأ الغلط من تسمية الطواف، فإنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أخّر طواف الوداع إلى الليل، كما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكرت الحديث ـ إلى أن قالت ـ فنزلنا المحصّب، فدعا عبدالرحمن بن أبي بكر فقال: اُخرج باُختك من الحرم، ثمّ أفرغا من طوافكما ثمّ تأتياني هاهنا بالمحصّب. قالت: فقضى الله العمرة وفرغنا من طوافنا من جوف الليل فأتيناه بالمحصّب فقال: فرغتما؟ قلنا: نعم. فأذن بالناس بالرحيل، فمرّ بالبيت فطاف به ثمّ ارتحل متوجّهاً إلى المدينة.
فهذا هو الطّواف الذي أخّره إلى الليل بلا ريب، فغلط أبوالزبير أو من حدّث به وقال طواف الزيارة، والله الموفّق»(5).
ومن ذلك: حديث جواز فسخ الحج بعمرة لخصوص أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله، وهذه عبارته:
«أنا إسحاق بن إبراهيم، أنا عبدالعزيز ـ وهو الدراوردي ـ عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن، عن الحارث بن بلال، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصّةً أم للناس عامّة؟ قال: بل لنا خاصّةً»(6).
فهذا الحديث باطل، ويخالفه ما أخرجه البخاري ومسلم، بل النسائي نفسه قال: «عن سراقة بن مالك بن جعشم أنّه قال: يا رسول الله: أرأيت عمرتنا هذه لعامنا أم للأبد؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: للأبد»(7).
وقد أطنب الكلام ابن القيّم في ردّ هذه الأحاديث، فقال بعد إبطال ما روي عن أبي ذر في تخصيص متعة الحجّ بالأصحاب: «وأمّا حديثه المرفوع، حديث بلال بن الحارث، فحديث لا يثبت، ولا يعارض بمثله تلك الأساطين الثابتة.
قال عبدالله بن أحمد: كان أبي يرى المهلّ بالحجّ أن يفسخ حجّه إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة. وقال في المتعة: هو آخر الأمرين من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال صلّى الله عليه وسلّم: إجعلوا حجّكم عمرة. قال عبدالله: فقلت لأبي: فحديث بلال بن الحارث في فسخ الحجّ، يعني قوله: لنا خاصّة؟ قال: لا أقول به، لا يعرف هذا الرجل، هذا حديث ليس إسناده بالمعروف، وليس حديث بلال بن الحارث عندي بثبت. هذا لفظه.
قلت: وممّا يدلّ على صحّة قول الإمام أحمد، وأنّ هذا الحديث لا يصحّ: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبر عن تلك المتعة التي أمرهم أن يفسخوا حجّهم إليها، أنّها للأبد، فكيف يثبت عنه بعد هذا أنّها لهم خاصّة، هذا من أمحل المحال، وكيف يأمرهم بالفسخ ويقول: دخلت العمرة في الحجّ إلى يوم القيامة، ثمّ يثبت عنه أنّ ذلك مختصّ بالصحابة دون من بعدهم.
فنحن نشهد بالله أنّ حديث بلال بن الحارث هذا، لا يصحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو غلط عليه.
وكيف تقدّم رواية بلال بن الحارث على روايات الثقات الأثبات حملة العلم، الذين رووا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلاف روايته؟ ثمّ كيف يكون هذا ثابتاً عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وابن عبّاس يفتي بمخالفه ويناظر عليه طول عمره بمشهد من الخاصّ والعام، وأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متوافرون، ولا يقول له رجل واحد منهم هذا كان مختصّاً بنا ليس لغيرنا، حتّى يظهر بعد موت الصحابة أنّ أباذر كان يروي ويروي اختصاص ذلك لهم»(8).
ومن ذلك: الحديث في ميقات أهل العراق، وقد أنكره أحمد بن حنبل، قال ولي الدين أبو زرعة في (شرح الأحكام الصغرى):
«روى أبو داود والنسائي بإسناد صحيح ـ كما قال النووي ـ عن عائشة رضي الله عنها: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقّت لأهل العراق ذات عرق، وذكر ابن عدي عن يحيى بن محمّد بن صاعد: أنّ الإمام أحمد كان ينكر على أفلح بن حميد هذا الحديث، قال ابن عدي: قد حدّث عنه ثقات الناس وهو عندي صالح، وأحاديثه أرجو أنْ تكون مستقيمةً كلّها. وهذا الحديث تفرّد به معافى بن عمران عنه، وإنكار أحمد قوله: ولأهل العراق ذات عرق، ولم ينكر الباقي من إسناده».
ومن ذلك: الحديث: «إنّ الشمس انخسفت، فصلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم ركعتين ركعتين حتّى انجلت، ثمّ قال: إنّ الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد، ولكنّهما خلقان من خلقه، وإنّ الله يحدث في خلقه ما يشاء، وإنّ الله عزّوجلّ إذا تجلّى لشيء من خلقه يخشع له»(9).
قال أبو حامد الغزالي: «فإن قيل: فقد روي في الحديث: ولكن الله إذا تجلّى لشيء خشع، فيدلّ على أنّ الكسوف خشوع بسبب التجلّي.
قلنا: هذه الزيادة لم يصحّ نقلها، فيجب تكذيب ناقلها»(10).
وأورد ابن القيّم كلامه مرتضياً له في كتاب (مفتاح السعادة).
(1) طبقات السبكي 2: 8.
(2) طبقات السبكي 2: 12.
(3) انظر: تذهيب التهذيب، تهذيب التهذيب 1: 35.
(4) ميزان الاعتدال 1: 242.
(5) زاد المعاد في هدي خير العباد 2: 275 ـ 276.
(6) سنن النسائي 2: 367/3790.
(7) سنن النسائي 2: 366/3788.
(8) زاد المعاد في هدي خير العباد 2: 192 ـ 193.
(9) سنن النسائي 1: 577.
(10) تهافت الفلاسفة: 42.