حديث نزول (لا تقربوا الصلاة…) الآية
ومن ذلك: الحديث الموضوع المفترى على أميرالمؤمنين وسيّد الوصيّين وإمام المتقين… وهذه عبارة الترمذي: «حدّثنا عبد بن حميد، نا عبدالرحمن بن مسعد، عن أبي جعفر الرازي، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبدالرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب قال: صنع لنا عبدالرحمن بن عوف طعاماً، فدعانا وسقانا الخمر، فأخذت الخمر منّا، وحضرت الصلاة فقدّموني فقرأت (قل يا أيّها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) ونحن نعبد ما تعبدون. فأنزل الله (يا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتّى تعلموا ما تقولون)هذا حديث حسن غريب صحيح»(1).
وإنّ بطلان هذا البهتان واضح من جهات:
1 ـ إنّه يلزم بناءً على هذا الحديث المكذوب أن يكون أميرالمؤمنين ـ والعياذ بالله ـ مرتكباً لشرب الخمر بعد نزول تحريمه في الكتاب، لأنّ تحريمه نازل قبل نزول الآية (يا أيّها الذين آمنوا…) التي زعم المفتري نزولها في هذه القضيّة، ولو أنّ المتعصّبين لا يقولون بعصمة مولانا أميرالمؤمنين، فإنّهم يقولون بعدالته ولو لساناً، فكيف يمكنهم تصديق هذا البهتان؟
أمّا أن تحريم الخمر كان قبل نزول الآية المذكورة، فلا يخفى على المتتبّعين، لأنّ العلماء ينصّون على نزول الآية (يسألونك عن الخمر…) قبل (يا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا…) الآية… فقد جاء بتفسير النسفي ما نصّه:
«نزل في الخمر أربع آيات، نزل بمكة: (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتّخذون منه سكراً) وكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال، ثمّ إنّ عمر ونفراً من الصحابة قالوا: يا رسول الله، أفتنا في الخمر فإنّها مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزل (يسألونك عن الخمر والميسر) فشربها قوم وتركها آخرون، ثمّ دعا عبدالرحمن بن عوف جماعةً فشربوا وسكروا، فأمَّ بعضهم فقرأ: قل يا أيّها الكافرون أعبد ما تعبدون، فنزل: (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) فقلَّ من يشربها، ثمّ دعا عتبان بن مالك جماعةً، فلمّا سكروا منها تخاصموا وتضاربوا، فقال عمر: اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً فنزل (إنّما الخمر والميسر ـ إلى قوله ـ فهل أنتم منتهون) فقال عمر: انتهينا يا رب»(2).
وقال الجصّاص في بيان دلالة: (يسألونك عن الخمر…) الآية على حرمة الخمر: «باب تحريم الخمر، قال الله تعالى (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبرُ من نفعهما) وهذه الآية قد اقتضت تحريم الخمر، لو لم يرد غيرها في تحريمها لكانت كافيةً مغنية، وذلك لقوله: (قل فيهما إثم كبير) والإثم كلّه محرَّم بقوله تعالى: (قل حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم) فأخبر أنّ الإثم محرَّم، ولم يقتصر على إخباره بأنّ فيهما إثماً حتّى وصفه بأنّه كبير، تأكيداً لحظرهما.
وقوله (منافع للناس) لا دلالة فيه على إباحتها، لأنّ المراد منافع الدنيا، وإنّ في سائر المحرّمات منافع لمرتكبيها في دنياهم، إلاّ أنّ تلك المنافع لا تفي بضررها من العقاب المستحق بارتكابها، فذكره لمنافعها غير دالّ لإباحتها، لاسيّما وقد أكّد حظرها بقوله في سياق الآية (وإثمهما أكبر من نفعهما)يعني: إنّ ما يستحقّ بهما من العقاب أعظم من النفع العاجل الذي يبتغى منهما»(3).
2 ـ لقد روى الحاكم هذا الخبر بإسناد له من طريق أحمد عن أبي عبدالرحمن السلمي عن علي عليه السلام، وفيه أنّ الذي أمّهم وقرأ كذلك هو عبدالرحمن بن عوف فنزلت الآية، قال في المستدرك:
«حدّثنا أبو عبدالله محمّد بن يعقوب الحافظ، ثنا علي بن الحسن، ثنا عبدالله بن الوليد، ثنا سفيان، حدّثنا أبو زكريّا يحيى بن محمّد العنبري، ثنا أبوعبدالله البوشنجي، ثنا أحمد بن حنبل، ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن عطاء بن السائب عن أبي عبدالرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه قال: دعانا رجل من الأنصار قبل أنْ تحرم الخمر، فتقدّم عبدالرحمن بن عوف فصلّى بهم المغرب فقرأ (قل يا أيّها الكافرون) فالتبس عليه فيها فنزلت (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى). هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه»(4).
فانظر كيف حرّف النواصب هذا الحديث، ووضعوا اسم أميرالمؤمنين في مكان عبدالرحمان؟
3 ـ إنّه حتّى لو كانت القصّة قبل تحريم الخمر، فلا ريب في كونها مفتراة، لأنّ شرب الخمر كان قبيحاً عند أهل العقل والدّين، كما أنّ جعفر بن أبي طالب لم يشربه قط، لا في الجاهليّة ولا في الإسلام، قال: «لأنّي رأيتها تذهب العقول، وكنت إلى زيادة العقل أحوج من نقصانه» .
فهل يعقل أن يدرك جعفر هذه الحقيقة ولا يدركها أميرالمؤمنين، وهو أفضل وأعقل وأفهم من جعفر بالقطع واليقين؟
وقد ذكر مثل ذلك عن قصي، كما في (السيرة الحلبيّة) قال: «ولمّا احتضر قال لأولاده: اجتنبوا الخمرة، فإنّها تصلح الأبدان وتفسد الأذهان»(5).
وقال صاحب (المستطرف) في الخمر:
«وممّن تركها في الجاهلية: عبدالله بن جدعان، وكان جواداً من سادات قريش، وذلك أنّه شرب مع اُميّة بن الصّلت الثقفي، فضربه على عينه، فأصبحت عين اُميّة مخضرّةً يخاف عليها الذهاب، فقال له عبدالله: ما بال عينك؟ فسكت، فألحّ عليه، فقال: ألست ضاربها بالأمس؟ فقال: أو بلغ منّي الشراب ما أبلغ معه إلى هذا؟ لا أشربها بعد اليوم، ثمّ دفع له عشرة درهم وقال: الخمر عليّ حرام لا أذوقها بعد اليوم أبداً.
وممّن حرّمها في الجاهليّة أيضاً: قيس بن عاصم، وذلك أنّه سكر ذات ليلة فقام لابنته أو لاُخته، فهربت منه، فلمّا أصبح سأل عنها فقيل له: أوما علمت ما صنعت البارحة، فأخبر القصّة، فحرّم الخمر على نفسه.
وممّن حرّمها في الجاهليّة أيضاً: العبّاس بن مرداس وقيس بن عاصم، وذلك أنّ قيساً شرب ذات ليلة، فجعل يتناول القمر ويقول: والله لا أبرح حتّى أنزله، ثمّ يثب الوثبة بعد الوثبة ويقع على وجهه، فلمّا أصبح وأفاق قال: مالي هكذا، فأخبروه بالقصة، فقال: والله لا أشربها أبداً. وقيل للعبّاس بن مرداس: لم تركت الشراب وهو يزيد في سماحتك؟ فقال: أكره أن أصبح سيّد قومي واُمسي سفيههم»(6).
4 ـ إنّه قد صرّح الإمام عليه السلام باجتنابه الخمر مطلقاً، فيما رواه الحافظ ابن شهر آشوب السروي(7) عن تفسير القطّان، عن عمر بن حمران، عن سعيد، عن قتادة عن الحسن البصري قال:
اجتمع عثمان بن مظعون وأبو طلحة وأبو عبيدة ومعاذ بن جبل وسهيل ابن بيضاء وأبو دجانة في منزل سعد بن أبي وقّاص، فأكلوا شيئاً، ثمّ قدّم إليهم شيئاً من الفضيخ، فقام علي وخرج من بينهم، فقال عثمان في ذلك، فقال علي: لعن الله الخمر، والله لا أشرب شيئاً يذهب بعقلي، ويضحك بي من رآني، واُزوّج كريمتي من لا اُريد، وخرج من بينهم فأتى المسجد، وهبط جبرئيل بهذه الآية (يا أيّها الذين آمنوا) يعني هؤلاء الذين اجتمعوا في منزل سعد (إنّما الخمر والميسر…) الآية. فقال علي: تبّاً لهما، والله يا رسول الله، لقد كان بصري فيها نافذاً منذ كنت صغيراً. قال الحسن: والله الذي لا إله إلاّ هو، ما شربها قبل تحريمها ولا ساعة قط»(8).
5 ـ لقد سعى القوم سعياً حثيثاً وراء تبرئة أبي بكر وتنزيهه من شرب الخمر، ولو قبل التحريم، حتّى قال الحكيم الترمذي في كتاب (نوادر الاصول): «من الحديث الذي تنكره القلوب: حديث رووه عن عوف، عن أبي القموص قال: شرب أبوبكر الخمر ـ يعني من قبل نزول تحريمها ـ فقعد ينوح على قتلى بدر وهو يقول:
تحيّي بالسلامة اُم بكر *** وهل لك بعد رهطك من سلام
ذريني أصطبح يا اُم بكر *** رأيت الموت نقّب عن هشام
فنقب عن أبيك وكان قرماً *** من الأشرافِ شرّاب المدام
وودّ بنو المغيرة لو فدوه *** بألف من رجال أو سوام
كأنّي بالطوي طوي بدر *** من الفتيان والخيل الكرام
فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخرج يجرّ ثوبه من الفزع حتّى أتاه، فدفع عليه شيئاً في يده، فقال أبوبكر: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسول الله، فاُنزلت (يا أيّها الذين آمنوا إنّما الخمر والميسر…)الآية.
وزاد غيره في الأبيات:
يخبرنا رسول الله بأن سنحيى *** فكيف حياة أصلاء وهام
فهذا منكر من القول والفعل، وقد أعاذ الله الصدّيقين من فعل الخنا وأقوال أهله، وإنْ كان قبل التحريم…»(9).
أقول:
فكيف ينسب الترمذي هذا الفعل الشنيع إلى أفضل الصدّيقين وإمام المتقين؟
وفي (الرياض النضرة) «عن أبي العالية الرياحي قال: قيل لأبي بكر في مجمع من أصحاب رسول الله: هل شربت الخمر في الجاهلية؟ قال: أعوذ بالله. فقيل: ولم؟ قال: كنت أصون عرضي وأحفظ مالي، فمن شرب الخمر كان مضيّعاً في عرضه ومروّته، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: صدق أبوبكر ـ مرّتين. أخرجه الدارمي»(10).
ومن هذا أيضاً يظهر شناعة الفرية التي افتراها الترمذي…
أقول:
لكنّ الحقيقة هي أنّ هؤلاء كانوا يشربون الخمر، فلمّا رأى المتعصّبون لهم ذلك، عمدوا إلى نسبة الشرب إلى أميرالمؤمنين حمايةً لهم وتغطيةً على مساويهم، وهذا هو السبب الأصلي لوضع حديث الترمذي…
لقد خرج البزّار وابن مردويه والفاكهي وغيرهم خبر شرب أبي بكر، واضطرّ ابن حجر للإعتراف بثبوت الخبر… قال البخاري: «حدّثنا إسماعيل بن عبدالله قال: حدّثني مالك بن أنس، عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال: كنت أسقي أباعبيدة وأبا طلحة واُبي بن كعب من فضيخ زهو وتمر، فجاءهم آت فقال: إنّ الخمر قد حُرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس فأهرقها فأهرقتها.
حدّثنا مسدّد قال: حدّثنا معتمر عن أبيه قال: سمعت أنساً قال: كنت قائماً على الحيّ أسقيهم عمومتي وأنا أصغرهم الفضيخ، فقيل: حُرمت الخمر. فقالوا: أكفأها فكفأناها. قلت لأنس: ما شرابهم؟ قال: رطب وبسر. فقال أبوبكر بن أنس: وكانت خمرهم، فلم ينكر أنس».
فقال ابن حجر بشرح الحديث الأوّل ما نصّه:
«قوله: كنت أسقي أباعبيدة هو ابن الجرّاح، وأمّا أبو طلحة هو زيد بن سهل زوج اُم سليم اُم أنس. واُبي بن كعب. كذا اقتصر في هذه الرواية على هؤلاء الثلاثة، فأمّا أبو طلحة، فلكون القصّة كانت في منزله كما مضى في التفسير من طريق ثابت عن أنس: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة. وأمّا أبو عبيدة فلأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم آخى بينه وبين أبي طلحة، كما أخرجه مسلم من وجه آخر عن أنس، وأمّا اُبي بن كعب، فكان كبير الأنصار وعالمهم.
ووقع في رواية عبدالعزيز بن صهيب عن أنس في تفسير المائدة: إنّي لقائم أسقي أباطلحة وفلاناً وفلاناً، كذا وقع بالإبهام.
وسمّى في رواية مسلم منهم: أبا أيّوب.
وسيأتي ـ بعد أبواب ـ من رواية هشام عن قتادة عن أنس: إنّي لأسقي أباطلحة وأبادجانة وسهيل بن بيضاء. وأبو دجانة بضمّ المهملة وتخفيف الجيم وبعد الألف نون اسمه سماك بن خرشة بمعجمتين بينهما راء مفتوحات.
ولمسلم من طريق سعيد عن قتادة نحوه، وسمّى فيهم معاذ بن جبل.
ولأحمد عن يحيى القطّان عن حميد عن أنس: كنت أسقي أباعبيدة واُبي بن كعب وسهيل بن بيضاء ونفراً من الصحابة عند أبي طلحة.
ووقع عند عبدالرزاق عن معمر عن ثابت وقتادة وغيرهما عن أنس: أنّ القوم كانوا أحد عشر رجلاً.
وقد حصل من الطرق التي أوردتها تسمية سبعة منهم، وأنّهم هم في رواية سليمان التيمي عن أنس وهي في هذا الباب ولفظه: كنت قائماً على الحي أسقيهم عمومتي، موضع خفض على البدل من قوله الحي، وأطلق عليهم عمومته، لأنّهم كانوا أسنّ منه، ولأنّ أكثرهم من الأنصار.
ومن المستغربات ما أورده ابن مردويه في تفسيره، من طريق عيسى بن طهمان عن أنس: أنّ أبابكر وعمر كانا فيهم، وهو منكر مع نظافة سنده، وما أظنّه إلاّ غلطاً.
وقد أخرج أبو نعيم في الحلية، في ترجمة شعبة، من حديث عائشة قالت: حرّم أبوبكر الخمر على نفسه، فلم يشربها في جاهليّة ولا إسلام.
ويحتمل ـ إن كان محفوظاً ـ أن يكون أبوبكر وعمر زارا أباطلحة في ذلك اليوم ولم يشربا معهم.
ثمّ وجدت عند البزّار من وجه آخر عن أنس قال: كنت ساقي القوم، وكان في القوم رجل يقال له أبوبكر، فلمّا شرب قال: تحيي بالسلامة اُمّ بكر… الأبيات.
فدخل علينا رجل من المسلمين فقال: قد نزل تحريم الخمر، الحديث.
وأبوبكر هذا يقال له ابن شعوب فظنّ بعضهم أنّه أبوبكر الصدّيق وليس كذلك، لكن قرينة ذكر عمر تدلّ على عدم الغلط في وصف الصدّيق، وفي كتاب مكّة للفاكهي من طريق مرسل ما يشدّ ذلك.
فحصلنا على تسمية عشر، وقد قدّمت في غزوة بدر من المغازي ترجمة أبي بكر بن شعوب المذكور»(11).
وقد علم ممّا رواه ابن حجر شرب عمر أيضاً.
وفي (المستطرف) في الباب الرابع والسّبعين، في ذم الخمر وتحريمه:
«أنزل الله تعالى في الخمر ثلاث آيات. الاُولى قوله تعالى: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما)فكان في المسلمين من شارب ومن تارك، إلى أنْ شربها رجل ودخل في الصلاة فهجر، فنزل قوله تعالى (يا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى)فشربها من شربها من المسلمين وتركها من تركها، حتّى شربها عمر، فأخذ بلحى بعير فشجّ به رأس عبدالرحمن بن عوف، ثمّ قعد ينوح على قتلى بدر بشعر الأسود بن يعفر، وهو:
وكاين بالقليب قليب بدر *** من الفتيان والشرب الكرام
أيوعدني ابن كبشة أن سنحيى *** وكيف حياة أصداء وهام
أيعجز أن يردّ الموت عنّي *** وينشرني إذا بليت عظامي
ألا من مبلغ الرحمن عنّي *** بأنّي تارك شهر الصيام
فقل لله يمنعني شرابي *** وقل لله يمنعني طعامي
فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخرج مغضباً يجرّ رداءه، فرفع شيئاً كان في يده، فضربه به، فقال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، فأنزل الله تعالى: (إنّما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهم أنتم منتهون).
فقال عمر: انتهينا انتهينا»(12).
هذا، وقد نصّ الجصّاص على دلالة الآية (يسألونك عن الخمر…)على التحريم، وعلى أنّ عمر كان يعلم بدلالتها على الحرمة، حيث قال في (أحكام القرآن):
«قوله: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير) قال: الميسر هو القمار، كان الرجل في الجاهليّة يخاطر على أهله وماله. قال: وقوله (ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتّى تعلموا ما تقولون) قال: كانوا لا يشربونها عند الصلاة فإذا صلّوا العشاء شربوها فقابلوا بعضهم بعضاً وتكلّموا بما لا يرضى الله، فأنزل الله عزّ وجلّ (إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه). قال: فالميسر القمار، والأنصاب الأوثان، والأزلام القداح كانوا يستقسمون بها.
قال: وحدّثنا أبو عبيد قال: حدّثنا عبدالرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة قال: قال عمر: اللّهمّ بيّن لنا في الخمر، فنزلت: (لاتقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتّى تعلموا ما تقولون) فقال: اللّهمّ بيّن لنا في الخمر، فنزلت: (قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما)فقال: اللّهمّ بيّن لنا في الخمر، فنزلت: (إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون ـ إلى قوله ـ فهل أنتم منتهون)فقال عمر: انتهينا، إنّها تذهب المال وتذهب العقل.
قال: وحدّثنا أبو عبيد قال: حدّثنا هشيم قال: أخبرنا المغيرة عن أبي رزين قال: شربت الخمر بعد الآية التي في البقرة وبعد الآية التي في النساء، فكانوا يشربونها حتّى يحضر الصلاة فإذا حضرت تركوها، ثمّ حرمت في المائدة في قوله: (فهل أنتم منتهون) فانتهى القوم عنها فلم يعودوا فيها.
فمن الناس من يظنّ أنّ قوله: (قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس) لم يدلّ على التحريم لأنّه لو كان دالاًّ لما شربوه، ولما أقرّهم النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولما سأل عمر البيان بعده، وليس هذا كذلك عندنا، لأنّه جائز أن يكونوا تأوّلوا في قوله (ومنافع للناس) جواز استباحة منافعها بأنّ الإثم مقصور على بعض الأحوال دون بعض، فإنّما ذهبوا عن حكم الآية بالتأويل. وأمّا قوله إنّها لو كانت حراماً لما أقرّهم النبي صلّى الله عليه وسلّم على شربها، فإنّه ليس في شيء من الأخبار علم النبي صلّى الله عليه وسلّم بشربها ولا إقرارهم بعد علمه، وأمّا سؤال عمر بياناً بعد نزول هذه الآية، فإنّه كان للتأويل فيه مساغ، وقد علم هو وجه دلالتها على التحريم، ولكنّه سأل بياناً يزول معه احتمال التأويل، فأنزل الله تعالى: (إنّما الخمر والميسر) الآية»(13).
وقال الزمخشري في (ربيع الأبرار):
«أنزل الله سبحانه وتعالى في الخمر ثلاث آيات، أوّلها: (يسألونك عن الخمر والميسر) فكان المسلمون بين شارب وتارك، إلى أنْ شربها رجل ودخل في صلاته فهجر، فنزلت (يا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى)فشربها من شربها من المسلمين، حتّى شربها عمر بن الخطّاب، فأخذ بلحى بعير فشجّ رأس عبدالرحمن بن عوف، ثمّ قعد ينوح على قتلى بدر بشعر الأسود بن يعفر:
وكاين بالقليب قليب بدر…».
فذكر الزمخشري الشعر كلّه، وأنّه بلغ ذلك رسول الله… فأنزل الله (إنّما يريد الشيطان…).
فقال عمر: انتهينا انتهينا»(14).
فعلم أنّ الآية (يسألونك…) دالّة على التحريم، وأنّ عمر شرب بعد نزولها وهو عالم بدلالتها على ذلك…
والخمر كانت محرّمةً في سائر الشرائع أيضاً، كما روى الفقيه أبوالليث السمرقندي في كتابه (تنبيه الغافلين):
«عن عطاء بن يسار: إنّ رجلاً سأل كعب الأحبار: هل حرّمت الخمر في التوراة؟ قال: نعم، هذه الآية: (إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام…)مكتوبة في التوراة: إنّما اُنزل بالحقّ ليذهب الباطل ويبطل اللعب والدفّ والمزامير وهو الرقص، والخمر وهي مرّة، أي فتنة لشاربها، أقسم الله بعزّته وجلاله لمن انتهكها أي ذاقها واستعملها في الدنيا لأعطشنّه يوم القيامة، ومن تركها بعد ما حرّمتها إلاّ سقيته إيّاها في حظيرة القدس. قيل: وما حظيرة القدس؟ قال الله تعالى: القدس وحظيرته الجنّة».
وأيضاً: روى عن أويس بن سمعان أنّه قال للنبي: «والذي بعثك بالحقّ نبيّاً إنّي لأجد في التوراة أنّ الخمر محرّمة خمساً وعشرين مرّة، وويل لشارب الخمر، وحقّ على الله أن لا يشربها عبد من عبيده في الدنيا إلاّ سقاه الله تعالى من طينة الخبال».
وأيضاً: روى عن عائشة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: «من أطعم شارب الخمر لقمة سلّط الله على جسده حيّة وعقرباً، ومن قضى له حاجة فقد أعان على هدم الإسلام، ومن أقرضه قرضاً فقد أعان على قتل مؤمن، ومن جالسه حشره الله يوم القيامة أعمى لا حجّة له، ومن شرب الخمر فلا تزوّجوه فإن مرض فلا تعودوه، فوالذي بعثني بالحقّ نبيّاً إنّه ما يشرب الخمر إلاّ ملعون في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ومن شرب الخمر فقد كفر بجميع ما أنزل الله تعالى على أنبيائه، ولا يستحلّ الخمر إلاّ كافر، ومن استحلّ الخمر فأنا بريء منه في الدنيا والآخرة»(15).
وقال الحاكم: «حدّثنا علي بن جمشاد العدل، ثنا عبيد بن شريك، ثنا سعيد بن مريم، أنبأ الدراوردي، حدّثني داود بن صالح، عن سالم بن عبدالله ابن عمر، عن أبيه: أنّ أبابكر الصدّيق وعمر بن الخطّاب رضي الله عنهما أو ناساً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جلسوا بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكروا أعظم الكبائر، فلم يكن عندهم فيها علم ينتهون إليه، فأرسلوني إلى عبدالله بن عمر وأسأله عن ذلك، فأخبرني أنّ أعظم الكبائر شرب الخمر فأخبرتهم فأنكروا ذلك ووثبوا إليه جميعاً في داره، فأخبرهم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إنّ ملكاً من ملك بني إسرائيل أخذ رجلاً فخيّره: بين أن يشرب الخمر أو يقتل نفساً أو يزني أو يأكل لحم الخنزير أو يقتلوه إن أبى، فاختار أن يشرب الخمر، وإنّه لمّا شرب لم يمتنع من شيء أراد منه…»(16).
هذا، وما اكتفى القوم بنسبة شرب الخمر إلى أميرالمؤمنين عليه السلام، بل نسبوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أيضاً ـ والعياذ بالله ـ جاء ذلك في كتاب (مدارج النبوّة) للشيخ عبدالحق الدهلوي، في كلام له حول «مسجد الفضيخ» بالمدينة المنوّرة، وهو مسجد ردّ الشمس، فقال في بيان سبب تسميته بالاسم المذكور:
«وأخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عمر: أنّه قد اُتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هذا الموضع بكوز فيه فضيخ فشربه، فسمّي بمسجد الفضيخ لذلك»(17).
ونعوذ بالله من هذا الكذب الصريح والبهتان القبيح والإفتراء الفضيح…
فانظر إلى هؤلاء القوم، كيف يحاولون صيانة أئمّتهم وحمايتهم من المعائب والمثالب، حتّى لا يمنعهم ذلك من نسبة شنائعهم وفظائعهم إلى النبي والوصي…؟…
ثمّ ألجأهم ذلك إلى الفتيا بجواز شرب الخمر للتقوّي… قال سعد بن عيسى بن أميرخان المفتي في (حاشية العناية): «ومن أصحابنا من قال: إذا كان الرجل صالحاً في اُموره، تغلب حسناته سيّئاته، ولا يعرف بالكذب ولا شيء من الكبائر غير أنّه يشرب الخمر أحياناً، لصحّة البدن والتقوّي لا للتلهّي، يكون عدلاً، وعامّة مشايخنا على أنّه لا يكون عدلاً، لأنّ شرب الخمر يكون كبيرةً محضة وإنْ كانت للتداوي».
(1) صحيح الترمذي 5: 238/3026.
(2) تفسير النسفي 1: 120 ـ 121.
(3) أحكام القرآن 1: 322.
(4) المستدرك على الصحيحين 4: 142.
(5) السيرة الحلبية 1: 13.
(6) المستظرف من كلّ فنّ مستطرف 2: 261.
(7) هو: محمّد بن علي بن شهرآشوب، أبو جعفر السروي المتوفى سنة 588، ترجم له الصفدي (الوافي بالوفيات 4: 164). قال: «أحد شيوخ الشيعة، حفظ أكثر القرآن وله ثمان سنين، وبلغ النهاية في اُصول الشيعة، كان يرحل إليه من البلاد، ثمّ تقدّم في علم القرآن والغريب والنحو، ووعظ على المنبر أيّام المقتفي ببغداد فأعجبه وخلع عليه، وكان بهيّ المنظر حسن الوجه والشيبة، صدوق اللهجة، مليح المحاورة، واسع العلم، كثير الخشوع والعبادة والتهجّد، لا يكون إلاّ على وضوء».
(8) مناقب آل أبي طالب 2: 203 ـ 204.
(9) نوادر الاُصول، وقد حذفته الأيدي الأثيمة لكونه ممّا تنكره القلوب!!
(10) الرياض النضرة في مناقب العشرة 1: 201.
(11) فتح الباري ـ شرح صحيح البخاري 10: 30 ـ 31.
(12) المستطرف من كلّ فنّ مستظرف 2: 260.
(13) أحكام القرآن للجصّاص 1: 322 ـ 324.
(14) ربيع الأبرار 4: 51 وما بعدها.
(15) تنبيه الغافلين: 148.
(16) المستدرك على الصحيحين 4: 147.
(17) مدارج النبوة: 82.