رواية موضوعة عن ابن عبّاس في مدح ابن الزبير
هذا، والعجب أنّهم قد وضعوا عن ابن عبّاس كلاماً في مدح عبدالله بن الزبير، ورواه البخاري في كتابه المشهور (الصحيح) حيث قال:
«حدّثني عبدالله بن محمّد، قال: حدّثني يحيى بن معين قال: حدّثنا حجّاج قال ابن جريج: قال ابن أبي مليكة ـ وكان بينهما شيء ـ فغدوت على ابن عبّاس فقلت: أتريد أن تقاتل ابن الزبير فتحلّ حرم الله؟ فقال: معاذ الله، إنّ الله كتب ابن الزبير وبني اُميّة محلّين، وإنّي والله لا اُحلّه أبداً. قال: قال الناس بايع لابن الزبير فقلت: وأين بهذا الأمر عنه، أمّا أبوه فحواري النبي صلّى الله عليه وسلّم ـ يريد الزبير ـ وأمّا جدّه فصاحب الغار ـ يريد أبابكر ـ واُمّه فذات النطاق، يريد أسماء، وأمّا خالته فاُمّ المؤمنين، يريد عائشة، وأمّا عمّته فزوج النبي صلّى الله عليه وسلّم، يريد خديجة، وأمّا عمّة النبي صلّى الله عليه وسلّم فجدّته، يريد صفيّة، ثمّ عفيف في الإسلام، قارئ للقرآن، والله إن وصلوني وصلوني من قريب، وإن ربوني ربوني أكفاء كرام، فآثر التوتيات والآسامات والحميدات، يريد: أبطُناً من بني أسد بني تويت وبني اُسامة وبني أسد، إنّ ابن أبي العاص برز يمشي القدمية يعني عبدالملك بن مروان، وإنّه لوى ذنبه يعني ابن الزبير»(1).
وفي (فتح الباري):
«قوله: قال ابن أبي مليكة: وكان بينهما شيء، كذا أعاد الضمير بالتثنية على غير مذكور اختصاراً، ومراده ابن عبّاس وابن الزبير، وهو صريح في الرواية الاُولى.
قوله: محلّين، أي إنّهم كانوا يبيحون القتال في الحرم، وإنّما نسب ابن الزبير إلى ذلك ـ وإن كان بنو اُميّة هم الذين ابتدؤوه بالقتال وحصروه، وإنّما بدا منه أوّلاً دفعهم عن نفسه ـ لأنّه بعد أن ردّهم الله عنه حصر بني هاشم ليبايعوه، فشرع فيما يؤذن بإباحته القتال في الحرم، وكان بعض النّاس يسمّي ابن الزبير المحلّ لذلك…
قوله: لا أحلّه أبداً، أي لا أبيح القتال فيه، وهذا مذهب ابن عبّاس أنّه لا يقاتل في الحرم ولو قوتل فيه.
قوله قال: قال الناس: القائل هو ابن عبّاس، وناقل ذلك عنه ابن أبي مليكة فهو متّصل، والمراد بالنّاس من كان من جهة ابن الزبير.
وقوله: بايع، بصيغة الأمر.
وقوله: وأين بهذا الأمر عنه، أي الخلافة، أي ليست بعيدة عنه، لماله من الشرف بأسلافه الذين ذكرهم، ثمّ صفته التي أشار إليها بقوله: عفيف في الإسلام قارئ القرآن.
قوله: وإنّه لوى ذنبه، يعني ابن الزبير، لوى بتشديد الواو وبتخفيفها أي ثناه، وكنّى بذلك عن تأخّره وتخلّفه عن معالي الاُمور، وقيل: كنّى به عن الجبن وإيثار الدعة، كما تفعل السباع إذا أرادت النوم، والأوّل أولى.
قال الداودي: المعنى أنّه وقف فلم يتقدّم ولم يتأخّر، ولا وضع الأشياء مواضعها، فأدنى الناصح وأقصى الكاشح»(2).
وكأنّ واضع هذا الكلام قصد أداء شيء من حقوق ابن الزبير عليه من أجل عدائه لأهل البيت عليهم السلام، وإلاّ، فإنّ من وصفه العلماء بأوصاف قالوا إنّها لا تصلح للخلافة، كيف يصحّ لمثل ابن عبّاس أنْ يراه أهلاً للخلافة ويمدحه بمثل هذا الكلام؟
لكنّ واضعه لم يحسن الوضع، فإنّ ما جاء في أوّل العبارة من «إنّ الله كتب..» يدلّ على كون ابن الزبير وبني اُميّة سلكوا طريق إحلال الحرم وهتكوا حرمة البيت الحرام، وأيضاً: فما جاء في آخرها من قوله «لوى ذنبه» تهجين لابن الزبير، إذ شبّهه بالبهائم، وهو كناية عن الجبن وإيثار الدعة، أو كما قال بعض الشرّاح: يريد أنّه لم يتّزن لاكتساب المجد وطلب الحمد ولكنّه زاغ وتنحّى، أو كما قال غيره: إنّه مثل لترك المكارم والإعراض عن المعروف وإيلاء الجميل، ويجوز أن يكون كنايةً عن التخلّف.
(1) صحيح البخاري 6: 83 كتاب التفسير ـ سورة براءة.
(2) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 8: 263 ـ 265.