كلمات ابن القيّم في المسألة
وقد تبع ابن القيّم شيخه في الردّ والتشنيع على مذهب الأشاعرة، فقال بتفسير قوله تعالى: ( وطائفة قد أهمّتهم أنفسهم يظنّون بالله غير الحقّ ظنّ الجاهليّة ) ما نصّه:
«قد فسّر هذا الظنّ الذي لا يليق بالله عزّ وجلّ بأنّه سبحانه لا ينصر رسوله، وأنّ أمره سيضمحلّ وأنّه يسلّمه للقتل. وفسّر بعضهم أنّ ما أصابهم لم يكن بقضاء الله وقدره ولا حكمة له فيه، ففسّر بإنكار الحكمة وإنكار القدر، وإنكار أن يتمّ أمر رسوله ويظهره على الدين كلّه، وهذا هو ظنّ السوء الذي ظنّه المنافقون والمشركون به سبحانه في سورة الفتح حيث يقول: ( ويعذّب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانّين بالله ظنّ السَّوء عليهم دائرة السَّوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم جهنّم وساءت مصيراً )، وإنّما كان هذا ظنّ السوء وظنّ الجاهليّة، وهو الظنّ المنسوب إلى أهل الجهل وظنّ غير الحقّ، لأنّه ظنّ غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وذاته المبرّأة من كلّ عيب وسوء، وخلاف ما يليق بحكمته وحمده وتفرّده بالربوبيّة والإلهيّة، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه، وبكلمته التي سبقت لرسله أنّه ينصرهم ولا يخذلهم، ولجنده بأنّهم هم الغالبون، فمن ظنّ به أنّه لا ينصر رسوله ولا يتمّ أمره ولا يؤيّده ولا يؤيّد حزبه ويعليهم ويظفرهم بأعدائهم ويظهرهم عليهم، وأنّه لا ينصر دينه وكتابه، وأنّه يديل الشرك على التوحيد والباطل على الحقّ، إدالة مستقرّة يضمحلّ معها التوحيد والحقّ اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً، فقد ظنّ السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته، فإنّ حمده وعزّته وحكمته وإلهيّته تأبى ذلك، وتأبى أن يذلّ حزبه وجنده، وأن يكون النصرة المستقرّة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به، فمن ظنّ به ذلك فما عرفه ولا عرف أسمائه وصفات وكماله.
وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره، فما عرفه ولا عرف ربوبيّته وملكه وعظمته، وكذلك من أنكر أن يكون قدّر ما قدّره من ذلك وغيره، لحكمة بالغة وغاية محمودة يستحقّ الحمد عليها، وإنّ ذلك إنّما صدر عن مشيّة مجرّدة عن الحكمة وغاية مطلوبة هي أحبّ إليه من فوتها، وإنّ تلك الأسباب المكروهة المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة لانضمامها إلى ما يحبّ وإن كانت مكروهة له، فما قدّرها سدىً ولا شاءها عبثاً ولا خلقها باطلاً ( ذلك ظنّ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النّار )، وأكثر النّاس يظنّون بالله غير الحقّ ظنّ السَوء فيما يختصّ بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلاّ من عرف الله وعرف أسمائه وصفاته وعرف موجب حمده وحكمته.
فمن قنط من رحمته وأيس من روحه، فقد ظنّ به ظنّ السوء، ومن جوّز عليه أن يعذّب أوليائه مع إحسانهم وإخلاصهم ويسوّي بينهم وبين أعدائه، فقد ظنّ به ظنّ السَوء، ومن ظنّ أنّه يترك خلقه سدىً معطّلين عن الأمر والنهي، ولا يرسل إليهم رسله ولا ينزل عليهم كتبه بل يتركه هملاً كالأنعام، فقد ظنّ به ظنّ السوء، ومن ظنّ أنّه لا يجمعهم بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازي المحسن فيها بإحسانه والمسيء بإساءته، ويبيّن لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهر للعالمين كلّهم صدقه وصدق رسله، وأنّ أعدائه كانوا هم الكاذبين، فقد ظنّ به ظنّ السوء.
ومن ظنّ أنّه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصاً لوجهه الكريم على امتثال أمره ويبطله عليه بلا سبب من العبد، أو أنّه يعاقبه بما لا صنع له فيه ولا اختيار له ولا قدرة له ولا إرادة في حصوله، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به، أو ظنّ به أنّه يجوز عليه أن يؤيّد أعدائه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيّد بها أنبيائه ورسله ويجريها على أيديهم يضلّون بها عباده، وأنّه يحسن منه كلّ شيء حتّى تعذيب من أفنى عمره بطاعته فيخلده في الجحيم أسفل السافلين، وينعم من استنفد عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه فيرفع إلى أعلى عليّين، وكلا الأمرين في الحسن سواء عنده، ولا عرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلاّ بخبر صادق وإلاّ فالعقل لا يقتضي قبح أحدهما وحسن الآخر، فقد ظنّ به ظنّ السوء»(1).
(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 3 : 228 ـ 230 .