مقدمة
آية اللّه السيّد نورالدين الميلاني رحمه اللّه(1)
بسم اللّه الرحمن الرحيم
أحمدك اللهم ولا حمد لسواك، ولا ثناء إلاّ عليك والأمر لك، وإيّاك أعبد وإيّاك أستعين، والصلاة على مَن صلّيت عليه، واللعنة على مَن حلّت عليه لعنتك.
كان من صنع الباري جلّ وعلا ـ المتقن ـ أنْ أوجد في البشر غرائز ثمينة، أفضلها الإيمان بالواقع، والخضوع له عندما حصله، وقد يبذل أجلّ ما بيده في سبيله، ويتفادى دونه متى أدركه.
فمن الغريب جدّاً، جهل الإنسان نوعاً من الحقائق، وإنكاره بعض الواقعيات، أو خفاؤها عليه بعد ظهورها، ولذلك ورد في القرآن المجيد الأمر بالتدبر، والتعقل، والتفكر، والملامة على عدم التدبر و… .
ومن الغرائز المودعة في هذا الإنسان حبّه الاستطلاع، والخبرة في التاريخ، ودرس موادّه والتعمق فيه، حتى لا يقتصر على مفاهيمه فحسب، بل يسعى أن يدرك ـ بمعونة التحليل الفكري ـ المعارك والميادين، ليرى مشاهد الأبطال، ويشهد حالة المظلومين، ومصير الظالمين وينظر إليهم كما لو كان حاضراً معهم، والسبب نفسه جعل الباحث يهمّه التفتيش عن مصارع الشهداء، والتطلّع على ضحايا الإنسانية، وعلى ضوئه يعترف المنصف لهم ويواليهم مع الإكبار والتقديس لجهودهم، وقد (فَضَّلَ اللّهُ الْمُجاهِدينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدينَ)(2)… .
ونحن إذ ننكر الكلية والإطراد في أغلب المواضيع، فلا محيص من الإقرار بها ـ حيث لا تقبل الاستثناء ـ في بعض الموارد.
فالقاعدة في إحترام الشهيد أو المظلوم مطردة عند العموم ـ متدينين أم غيرهم ـ والنصرة والترحم لهما، مبدأ يقول به إلاّ المعاند، والرأفة على أهلهما وأيتامهما غير مستنكرة، إلاّ عند المفرّط والعادل عن الحق.
وخلاصة القول: ـ إنّ أجمل ما يختاره الإنسان من أنواع احترام الشهيد والمظلوم، معاضدته ومناصرته، ولا أقل من الحزن والأسف عليهما، والإنكسار لهما، وأجلّ صفة يحملها الحنان على ذويهما من قرابته ورحمه، وبالعواطف والأحاسيس يكرم الإنسان، وإلاّ فهو (كَاْلأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبيلاً)(3).
فمن هنا تعقد المآتم على الفقيد، وكلّما عزّ وخطر اتسعت واكتسبت أهميةً، وكلّما جلَّ المصاب وعظم، تمتد أيامه وتطول مدته.
أجل: جعل اللّه هذه السُّنة المتبعة في خلقه، (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّهِ تَبْديلاً)(4)، بل أنّ هذه الغريزة والخلق مما فطر اللّه الناس عليها.
فعلى هذا الأساس، كانت الامم ـ في جميع الأعصار والأمصار على اختلاف مبادئها وتنافر بعضها أحياناً ـ لم تزل مندفعةً عند مظلومية العترة الطاهرة صلوات اللّه عليهم، إندفاعاً لا يمنعه التشكيك، وعنوا لمآتمهم ـ عليهم السلام جيلا بعد جيل، عنايةً لا تعاكسها قوة في القرون الأولى والوسطى، إلاّ زادتهم نفوراً من تلك القوة، وثباتاً على تلك المراسم، فيخدمونها من صميم القلب بشق الرؤوس وجرح الصدور، بل كادت أفئدتهم تنفطر على مصابهم، لاسيما تجاه شهداء الطف ومجزرة كربلاء (عاشر محرم سنة 61 الهجرية) وعقباتها في الكوفة والشام، ولاصلة دينية أو علقة إنتماء، أو رابطة اخرى تجمع بين القائمين بمظاهر الأسى والدين والعقيدة.
إذاً، لا مجال للاستغراب مهما بلغنا مما يقوم به غير الشيعة ـ المسلمون ومنتحلوا الديانات الأخرى ـ أو الهندوك والسيك، من التوجّع والتفجّع على الحسين سبط رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وريحانته، والنفر الذين كرّموا بموقفهم الشهادة، وفازت بهم لمّا بذلوا مهجهم دون الحسين أرواحنا فداه.
وقد شاهدت قسماً من ذلك في رحلاتي من أرامنة تبريز ـ ايران ـ وسائر المذاهب والملل في الهند وباكستان، وسوريا ولبنان، والجموع المحتشدة والآلاف المزدحمة في يوم عاشوراء وغيره من الأيام باسم ـ يوم ـ الحسين وأسبوعه الفخم، وهم من كلّ أمّة فوجاً، ووجدت الخطباء منهم والشعراء يتسابقون باحتفالهم بهذه الذكريات.
وحيث إني مختصر كلمتي هذه ـ من حرفها الأوّل ـ أحيل التفصيل إلى مجال آخر، ولعلّي أوفق ـ بعون اللّه تعالى ـ لنشر شيء من التضحيات بدنيةً، اقتصاديةً، زمنيةً والحركات الأدبية هناك.
وكلّ يعلم أنّ ما كتب ونشر باللغات ـ شرقيةً وغربية ـ عن أسرار شهادة الحسين وأسبابها ومآتمه عليه السّلام لكثير، والذي يدلُّ على مكانته في الأفئدة، وعظمته في النفوس، وهوايتها له، وأنّه الرجل العالمي الوحيد، وأنّه ـ عليه السّلام ـ يُجدّد دينَ جدّه ـ صلى اللّه عليه وآله ـ كلّ يوم بل كلّ آن، وأنّه القائد الأعلى وحده للإنسانية وطلاّبها إلى الأبد.
هذا، والذي بأيدينا هو سفر علمي جليل، وبحث فني جميل، قدّمه الزعيم سيد الطائفة ومرجعها الكبير، حامي المذهب الإمامي، وحصن الدين الإسلامي، السيد عبد الحسين شرف الدين قدس اللّه تربته لكتابه (المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة) عنينا بطبعه كنشرة أُولى لمكتبة سيد الشهداء الحسين عليه السّلام العامّة ـ كربلاء المقدسة، تشريفاً لها، وتسديداً للحاجة المبرمة ـ من الباحثين والمختبرين والمفكرين ـ لمثله. وإليك عنه وعن مؤلفه العظيم، والكتاب والمكتبة مايلي موجزاً:
أما المقدمة:
يغنينا عن بيان أهميتها، اهتمام الأوساط العلمية والأدبية والفقهية لها، ويلمسُ القارىء ذلك من فصولها، وقد أُخرجت للطبع سنة 1332 (أي قبل 46 عاماً) ردعاً لإنسان ـ ؟! ـ بلغ به جهله بفلسفة شهادة الحسين وأسرار مآتمه عليه السّلام وبعده عما أثبته سلفه المحدّثون والمؤرخون، حدّ الاستنكار، ونسب الشيعة إلى البدعة لبكائهم ولطمهم على ريحانة نبيهم ـ صلى اللّه عليه وآله ـ ولم يدرِ أنّ الأمر بعكس مرتآه، وأنّ الشيعة لم تنفرد بهذه المراسم، بل أنّها من الأمور الثابتة من الدين، ومعترف بها عند المسلمين.
ولقد أجاد سيدنا ـ شرف الدين ـ حيث استدلّ على مشروعيّة المآتم من كتب الفريقين، لعلّ المعترض يهتدي ويندم على ما فرّط.
نعم، مُنيت البلاد والأمة الأسلامية بعدد من الدجّالين والمأجورين من تاريخ بعيد، فهدموا قواعدها، وفرّقوا كلمتها، وشتتوا جمعها، فخدموا الأجانب ـ الطامعين ـ والمستفزين حتى أحرجوا موقف سيدنا شرف الدين وزملائه قدس اللّه أسرارهم، فجعلوا يكابدون الآلام، ويتجرّعون الغصص، إلى أن يتمكنوا من سدّ ثغر أو القضاء على نعرة من النعرات المختلفة ذات الألوان! والمنحدرة من الغرب المظلم.
هكذا أعلام الدين وهكذا شأن العلماء، فإنّهم ـ كما ورد في الحديث ـ ورثة الأنبياء، وعلماء أمّتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل ـ دعاة كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة، يعملون في إزالة التخاصم والشقاق، ولم يألوا جهداً في سبيل تحرير العقيدة من شتى الوساوس، وحريصون على تخليصها والأمة الاسلامية من دسائس المدنية والحضارة المزيفة، والمتشكلة بشكل الدين، والمذهب، والحزب، والجمعيّة، وفق الميول والأهواء والمناطق والأشخاص.
نبتهل إلى اللّه تعالى قطع دابر الظالمين، ودفعهم بهمّة الرجال المخلصين، وقلعهم بأيدي الأبطال من أصحاب الشعور الحيّ المجردين من التقاليد العمياء والخاضعين للحق أينما وجدوه، وإليه المشتكى ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه.
أما المؤلف:
فهو أشهر من أن يذكر، وأظهر من أي تعريف، وأكبر من أي معرِّف، وقد ملأ النفوس غبطةً وعظمة بمؤلفاته وآثاره وحركاته.
كان ـ رضوان اللّه عليه ـ من أقطاب الأمة علماً وعملا، تعوّل عليه في شدائدها، وتركن إليه في أمورها، وكان ـ قدس اللّه تربته ـ مفيد وقته، ومرتضى عصره، والواقع إنّه المفيد والمرتضى طيلة أيامه المأسوف عليها.
عاش عزيز البلاد، عظيماً عند الخلق والخالق; لأدائه مطلوبهما والقيام بواجبهما، والجهاد في سبيلهما، ونضاله معانديهما، ومواقفه الجبارة ضد الكفرة والفسقة وأذنابهما غير مبال منهم، مهما بلغ به الأمر وكلّفه، حتى آخر ساعة من عمره الشريف… .
والتفاصيل في مقدمة الطبعة الثانية والثالثة من كتابه: المراجعات. بقلم أحد مشيخة الإسلام(5).
أمّا الكتاب:
فكان يقع في أربع مجلدات ضخمة، تتضمن سيرة النبي وعترته ـ إلى قائمهم المهدي عجّل اللّه فرجه ـ وحياتهم صلى اللّه عليه وعليهم وبعض خطبهم، والذي جاء في المواعظ والأخلاق، وكان ـ كما عبّرلنا عنه السيد قدس سرّه ـ كتاباً اجتماعياً، سياسياً، عمرانياً، ومن أحسن ما كُتِبَ في الإمامة والسياسة.
وقد أعدّه ـ شرف الدين ـ للطبع بعد صدور (المقدمة)، ولكن شعلة الحرب العالمية الأولى (1914 م) وعلى أثرها الحركة الإسلامية ضد الاستعمار(6)، حالتا عن طبعه، بالرغم من حرصه الشديد لذلك، حتى أصبح هو ومؤلّفاته الأُخرى ـ ما يقرب من ثلاثين مجلّداً مخطوطاً بقلمه الشريف ـ طعمة حريق سلطة الاحتلال الفرنسي، حيث سلّطت النار على دار ـ شرف الدين ـ في (شحور) و بعده احتلّت داره الكبرى في (صور)، وأُبيحت للأيدي الأثيمة سلباً ونهباً.
وكان أوجع ما في هذه النكبة ـ المشتملة على أنواع التعذيب والصدمات على السيّد وأهله وصحبه ـ تحريق مكتبته المحتوية على أنفس الكتب وذخائرها من كلّ نوع ولا سيما الخطية، وما كانت من ثمرات عمره الشريف وآثاره الثمينة(7).
أمّا النشر:
لهذا الكتاب، فإنا لمّا أسسنا المكتبة كتبنا إلى سماحة ـ شرف الدين ـ بعد عرض القصد من تأسيسها على حضرته مايلى: ـ
فمن المناسب أن تكون نشرتها الأولى ما يتعلق بحياة من شرّفت المكتبة باسمه ـ الحسين عليه السّلام ـ لا سيما إذا كانت بقلم عبده (سيد الطائفة وزعيمها المفدّى حضرتكم) وأجابنا على ذلك، ولكن المنيّة حالت دون المطلوب من سماحته. فاخترنا هذا السفر بل الكنز المرصود، وأعدنا طبعه معتزّين به والتوفيق الشامل بعناية اللّه راجين ذلك لعدد كبير من الآثار نقبل تحديده، وليس على اللّه بمستنكر، وهو الموفق والمستعان.
أمّا المكتبة:
فإنها أُسست لغرض خدمة المجتمع ورفع مستوى كربلاء الثقافي، وتسديد عوز الواردين ـ من أقطار الدنيا ـ لهذه المدينة المقدسة، فهي على مكانتها العالمية المرموقة، كانت فاقدة لنظيرها والتي جمعت ما يقرب من ثلاثة آلاف مؤلفاً ـ في زمن قصير ـ على بضع لغات ـ شرقيةً وغربيةً ـ في شتى العلوم والفنون، القديمة والحديثة.
وقد نشرنا ـ بدأ التأسيس ـ عنها في الصحف داخل العراق وخارجه، وأرسلنا ـ بالبريد ـ بلاغاً إلى حضرات مَن عرفنا عنوانهم في أقاليم مختلفة ندعوهم للمساهمة والمعونة في تنمية هذه الخيرية الحسينية… .
فجزى اللّه الذوات الكرام، وأصحاب الغيرة والإيمان، وحملة النفوس الطيّبة المساهمين في هذا المشروع الحيوي المقدس ـ الذي هو من نوع الباقيات الصالحات ـ والمتبرعين، والمناصرين، وزملائي المحترمين ـ أعضاء الهيئة المؤسسة والتولية والمال والإدارة ـ خير جزاء المحسنين، وجعلهم (مَثَلُ الَّذينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في سَبيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّة أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ في كُلِّ سُنْبُلَة مِائَةُ حَبَّة وَاللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللّهُ واسِعٌ عَليمٌ)(8) و أثابهم بكرمه في الدنيا والآخرة.
وسوف ننشر ـ لأول فرصة مالية ـ أسماءهم الكريمة ونطلعهم على التفاصيل والمعلومات الكافية، في البيان الصادر عن المكتبة منذ كانت فكرةً محضةً، ثم الخطوة الاولى، وتقدّمها حتى رقيّها المنتظر بهممهم الجبارة، كما أننا لاننساهم في صالح دعواتنا بعد كلّ صلاة وتحت قبة سيد الشهداء الحسين ـ عليه السّلام ـ أرواحنا له الفداء وسائر الأحوال، والسلام عليهم وعلى مَن بلغه هذا ورحمة اللّه وبركاته من:
نجل سماحة المجتهد الكبير آية اللّه الحاج السيد محمّد هادي الميلاني «دام ظله الشريف».
نور الدين الحسيني الميلاني
كربلاء في 11 صفر سنة 1378
(1) وهو والد آية اللّه السيّد علي الميلاني. توفي سنة 1425 ودفن في قم بمقبرة شيخان.
(2) سورة النساء: الآية 95.
(3) سورة الفرقان: الآية 44.
(4) سورة الأحزاب: الآية 62.
(5) سماحة آية اللّه الشيخ مرتضى آل يس دام ظله الشريف ـ النجف الأشرف ـ .
(6) الثورة العاملية على الفرنسيين سنة 1920 م.
(7) «لصوص شمعون تهاجم مدينة صور. تتنمّر في ظل الاحتلال الأميركي فتحرق الكلية الجعفرية. وتدمّر دار مؤسسها المرحوم الإمام شرف الدين».
تجد هذه النصوص والتفصيل في ص 3 ـ 14 = 8 = 1958من ـ يقظتنا ـ اليومية البغداية.
ثم فكر في القول المأثور: (الكفر ملة واحدة)، وتمسك بالقرآن وأهله واترك هواية غيرهم ولا تنخدع بغواية التمدن والحضارة(؟!) المزعومة والمحشوة من ألوان السموم بأيدي الاستعمار والاستعباد.
(8) سورة البقرة: الآية 261.