ي الجلوس حزناً
على الموتى
في الجلوس حزناً على الموتى
من أهل الحفائظ والأيادي المشكورة.
وحسبك في رجحان ذلك: ما تواتر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من الحزن الشديد على عمّه أبي طالب وزوجته الصدّيقة الكبرى أم المؤمنين عليهما السلام، وقد ماتا في عام واحد فسمّي عام الحزن، وهذا معلوم بالضرورة من أخبار الماضين(1).
وأخرج البخاري ـ في باب مَن جلس عند المصيبة يعرف فيه الحزن من الجزء الأول من صحيحه ـ بالإسناد إلى عائشة. قالت: «لما جاء النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) قتل ابن حارثة وجعفر وابن رواحة جلس ـ أي في المسجد كما في رواية أبي داود ـ يعرف فيه الحزن»(2).
وأخرج البخاري في الباب المذكور أيضاً عن أنس قال: «قنت رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) شهراً حين قتل القرآء، فما رأيته حزن حزناً قطّ أشدّ منه. الحديث»(3).
والأخبار في ذلك أكثر من أنْ تحصى أو تستقصى.
والقول بأنّه إنّما يحسن ترتيب آثار الحزن إذا لم يتقادم العهد بالمصيبة، مدفوع بأنّ من الفجائع ما لا تخبو زفرتها ولا تخمد لوعتها، فقرب العهد بها وبعده عنها سواء. نعم، يتم قول هؤلاء اللاّئمين إذا تلاشى الحزن بمرور الأزمنة ولم يكن دليل ولا مصلحة يوجبان التعبّد بترتيب آثاره، وما أحسن قول القائل في هذا المقام:
خلّي أُميمة عن ملا *** مكِ ما المعزّي كالثكول
ما الراقد الوسنان مثل *** معذَّب القلب العليل
سهران من ألم وهذا *** نائمُ الليل الطويل
ذوقي اُميمة ما أذوقُ *** وبعده ماشئتِ قولي
على أنّ في ترتيب آثار الحزن بما أصاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من تلك الفجائع وحلَّ بساحته من هاتيك القوارع، حكماً توجب التعبّد بترتيب آثار الحزن بسببها على كلِّ حال. والأدلّة على ترتيب تلك الآثار في جميع الأعصار متوفرة، وستسمع اليسير منها إنْ شاء اللّه تعالى.
وقد علمت سيرة أهل المدينة الطيّبة، واستمرارها على ندب حمزة وبكائه مع بعد العهد بمصيبته، فلم ينكر عليهم في ذلك أحد، حتى بلغني أنهم لا يزالون إلى الآن إذا ناحوا على ميت بدأوا بالنياحة عليه، وما ذاك إلاّ مواساة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بمصيبته في عمّه، وأداءً لحق تلك الكلمة التي قالها في البعث على البكاء عليه وهي قوله: «لكن حمزة لا بواكي له»(4).
وكان الأولى لهم ولسائر المسلمين مواساته في الحزن على أهل بيته والآقتداء به في البكاء عليهم، وقد لامَ بعض أهل البيت عليهم السلام مَن لم يواسهم في ذلك فقال:
«ياللّه لقلب لا ينصدع لتذكار تلك الأمور، ويا عجباً من غفلة أهل الدهور، وما عذر أهل الإسلام والإيمان في إضافة أقسام الأحزان، ألم يعلموا أنّ محمّداً (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) موتور وجيع، وحبيبه مقهور صريع. قال: وقد أصبح لحمه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) مجرّداً على الرمال، ودمه الشريف مسفوكاً بسيوف أهل الضلال، فياليت لفاطمة وأبيها عيناً تنظر إلى بناتها وبنيها، وهم ما بين مسلوب وجريح، ومسحوب وذبيح، إلى آخر كلامه»(5).
ومَنْ وقف على كلام أئمة أهل البيت في هذا الشان، لا يتوقف في ترتيب آثار الحزن عليهم مدى الدوران، لكنا منينا بقوم لا ينصفون، فإنّا للّه وإنا إليه راجعون.
(1) أنظر: الكامل في التاريخ; لابن الأثير 1 / 606، ط دار الكتب العلمية.
(2) البخاري 2 / 83 ط دار الفكر و5 / 87 . وصحيح مسلم 3 / 45، ط دار الفكر، والسنن الكبرى للبيهقي 4 / 59، سنن أبي داود .
(3) البخاري 2 / 84 ، نيل الأوطار 2 / 297، ط بيروت.
(4) تقدّم تخريجه، فراجع.
(5) اللهوف، للسيد ابن طاوس: 22.