فلسفة مآتمنا المختصّة
بأهل البيت عليهم السّلام
علم الباحثون من مدققي الفلاسفة: أنّ في مآتمنا المختصّة بأهل البيت عليهم السلام أسراراً شريفة(1) تعود على الأمة بصلاح آخرتها ودنياها، أنبّهك إليها بذكر بعضها واُوكِل الباقي إلى فطنتك:
فمنها: إنّها جامعة إسلامية، ورابطة إمامية، باسم النبي وآله صلوات اللّه عليهم أجمعين، ينبعث عنها الاعتصام بحبل اللّه عزّوجلّ، والتمسك بثقلي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وفيها من اجتماع القلوب على أداء أجر الرسالة بمودة القربى، وترادف العزائم على إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام ما ليس في غيرها.
وحسبك في رجحانها ما يتسنى بها للحكيم من إلقاء المواعظ والنصائح، وإيقاف المجتمعين على الشؤون الإسلامية، والأمور الإمامية ولو إجمالا، وبذلك يكون أمل العاملي، نفس أمل إخوانه في العراق وفارس والبحرين والهند وغيرها من بلاد الإسلام.
ولا تنس ما يتهيأ للمجتمعين فيها من الإطلاع على شؤونهم، والبحث عن شؤون إخوانهم النائين عنهم، وما يتيسر لهم حينئذ من تبادل الآراء فيما يعود عليهم بالنفع، ويجعلهم كالبنيان المرصوص، يشدّ بعضه بعضاً، أو كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضواً أنَّت له سائر الأعضاء، وبذلك يكونون مستقيمين في السير على خطة واحدة يسعون فيها وراء كلّ ما يرمون إليه.
ومنها: إنّ هذه المآتم دعوة إلى الدين بأحسن صورة وألطف أسلوب، بل هي أعلا صرخة للإسلام توقظ الغافل من سباته، وتنبّه الجاهل من سكراته، بما تشربه في قلوب المجتمعين، وتنفثه في آذان المستمعين، وتبثّه في العالم وتصوره قالباً لجميع بني آدم، من أعلام الرسالة، وآيات الإسلام، وأدلة الدين، وحجج المسلمين، والسيرة النبوية، والخصائص العلوية، ومصائب أهل البيت في سبيل اللّه، وصبرهم على الأذى في إعلاء كلمة اللّه.
فأولوا النظر والتحقيق، يعلمون أنّ خطباء هذه المآتم كلّهم دعاة إلى الدين من حيثُ لم يقصدوا ذلك، بل لا مبشّر بالإسلام على التحقيق سواهم. وأنت تعلم: أنّ الموظفين لهذا العمل الشريف لا يقصرون في أنحاء البسيطة عن الألوف المؤلّفة، فلو بذلَ المسلمون شطر أموالهم ليوظّفوا دعاةً إلى دينهم بعدد أولئك الخطباء، ما تيسر ذلك لهم، ولو تيسّر فلا يتيسر مَن يستمع الدعوة على ممر الدهور استماع الناس لما يتلى في هذه المآتم بكلّ رغبة وإقبال.
ومنها: ما قد أثبته العيان وشهد به الحس والوجدان، من بث روح المعارف بسبب هذه المآتم، ونشر أطراف من العلوم ببركتها، إذ هي ـ بشرط كونها على أصولها ـ أرقى مدرسة للعوام، يستضيئون فيها بأنوار الحكم من جوامع الكلم، ويلتقطون منها درر السير، ويقفون بها على أنواع العبر، ويتلقّون فيها من الحديث والتفسير والفقه ما يلزمهم حمله ولا يسعهم جهله، بل هي المدرسة الوحيدة للعوام في جميع بلاد الإسلام.
وقد تفنن خطباؤها في ما يصدعون به أولا على أعوادها، ثم يتخلصون منه إلى ذكر المصيبة وتلاوة الفاجعة.
فمنهم: مَن يشنف المسامع، ويشرّف الجوامع بالحكم النبوية، والمواعظ العلوية، أو يتلوا أوّلا من كلام أئمة أهل البيت ما يقرّب المستمعين إلى اللّه ويأخذ بأعناقهم إلى تقواه.
ومنهم: مَن يتلو أوّلا من سيرة النبي صلّى اللّه عليه وآله وتاريخ أوصيائه عليهم السلام ما يبعث المستمعين على مودّتهم ويضطرهم إلى بذل الجهد في طاعتهم.
ومنهم: مَن ينبّه الأفكار أوّلا إلى فضل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ومقام أوصيائه عليهم السلام بما يسرده من الأحاديث الصحيحة والآيات المحكمة الصريحة.
ومنهم: مَن يتلو أوّلا من الأحكام الشرعية والعقائد الدينية ما تعم به البلوى للمكلّفين ولا مندوحة عن معرفته لأحد من العالمين.
هذه سيرتهم المستمرة أيّام حياتهم، فهل ترى ـ بجدك ـ للعوام مدرسة تقوم مقامها في جسيم فوائدها وعظيم قاصدها؟؟ لا وسرّ الحكماء الذين بعثوا شيعتهم عليها، وحكمة الأوصياء الذين أرشدوا أوليائهم إليها.
ومنها: الارتقاء في الخطابة، والعروج إلى منتهى البراعة، كما يشهد به الوجدان، ولا نحتاج فيه إلى برهان.
ومنها: العزاء عن كلِّ مصيبة، والسلوة لكلّ فادحة، إذ تهون الفجائع بذكر فجائعهم، وتنسى القوارع بتلاوة قوارعهم، كما قيل في رثائهم (عليهم السلام):
أنستْ رزيّتكم رزايانا التي *** سلفت وهوّنت الرزايا الآتية
ومنها: إنعاش أهل الفاقة، وإثلاج أكباد حرّا من أهل المسكنة على الدوام، بما ينفق في هذه المآتم من الأموال في سبيل اللّه عزّوجلّ، وما يُبذل فيها لأهل المسغبة وغيرهم، وأنت تعلم أنّه لا وسيلة لقرّاء تلك المآتم في التعيش غالباً إلاّ هذه الوظيفة، وهم من الرجال والنساء ـ بقطع النظر عمّن يقومون بنفقته ـ ألوف مؤلّفة يعيشون ببركة أهل البيت ويتنعمون بيمن مآتمهم (عليهم السلام).
ومنها: إنّ المصلحة التي استشهد الحسين ـ بأبي وأمّي ـ في سبيلها وسُفك دمه الزكي تلقاءها، تستوجب استمرار هذه المآتم، وتقتضي دوامها إلى يوم القيامة.
وبيان ذلك: إن المنافقين حيث دفعوا أهل البيت عن مقامهم، وأزالوهم عن مراتبهم التي رتبهم اللّه فيها، ظهروا للناس بمظاهر النيابة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وأظهروا التأييد لدينه، والخدمة لشريعته، فوقع الالتباس، واغترَّ بهم أكثر الناس، ولما ملكوا من الأمة أزمّتها، واستسلمت لهم برمّتها، حرّموا ـ والناس في سِنة عن سوء مقاصدهم ـ من حلال اللّه ماشاؤا، وحلّلوا من حرامه ما أرادوا، وعاثوا في الدين وحكموا فيه القاسطين، فسملوا أعين أولياء اللّه، وقطعوا أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصلبوهم على جذوع النخل، ونفوهم عن عقر ديارهم، حتى تفرّقوا أيدي سبا، ولعنوا أميرالمؤمنين عليه السّلام وكنوا به عن أخيه الصادق الأمين (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم).
فلو دامت تلك الأحوال ـ وهم أولياء السلطة المطلقة والرئاسة الروحانية ـ لما أبقوا للإسلام عيناً ولا أثراً، لكن ثار الحسين عليه السّلام فادياً دين اللّه عزّوجلّ بنفسه وأحبائه، حتى وردوا حياض المنايا ولسان حاله يقول:
إنْ كان دين محمّد لم يستقم *** إلاّ بقتلي يا سيوف خذيني
فاستنقذ الدين من أيدي الظالمين، وانكشف الغطاء بوقوع تلك الرزايا عن نفاق القوم، حتى تجلّت عداوتهم للّه عزّوجلّ وظهر انتقامهم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، إذ لم يكتفوا بقتل الرجال من بنيه عطاشاً والماء تعبث فيه خنازير البرّ وكلابه، ولم يقنعوا بذبح الأطفال من أشباله أحياء، وقد غارت أعينهم من شدة العطش، ولا اكتفوا باستئصال العترة الطاهرة ونجوم الأرض من شيبة الحمد، حتى وطأواجثثهم بسنابك الخيل، وحملوا رؤسهم على أطراف الأسنّة، وتركوا أشلائهم الموزعة عارية بالعراء مباحة لوحوش الأرض وطير السماء، ثم أبرزوا ودائع الرسالة وحرائر الوحي مسلّبات وطافوا البلاد بهن سبايا كأنهن من كوافر البربر، حتى أدخلوهن تارة على ابن مرجانة، وأخرى على ابن آكلة الأكباد، أوقفوهنّ على درج الجامع في دمشق حيث تباع جواري السبي، فلم تبقَ بعدها وقفة في عداوتهم للّه، ولا ريبة بنفاقهم في دين الإسلام.
وعلم حينئذ أهل البحث والتنقيب من أُولي الألباب: أن هذه أمور دُبّرِتْ بليل، وأنّها عن عهد السلف بها إلى خلفه، وما كانت ارتجالا من يزيد.
«وما المسبب لو لم ينجح السبب».
ثم لم تزل أنوار هذه الحقيقة تتجلّى لكل مَن نظر نظراً فلسفياً في فجائع الطف، وخطوب أهل البيت، أو بحث بحث مدقق عن أساس تلك الضوارع وأسباب هاتيك الفظائع.
وقد علم أهل التدقيق من أُولي البصائر: أنّه ما كان لهذا الفاجر أنْ يرتكب من أهل البيت ما ارتكب، لولا ما مهّده سلفه من هدم سورهم، وإطفاء نورهم، وحمله الناس على رقابهم، وفعله الشنيع يوم بابهم.
وتاللّه، لولا مابذله الحسين عليه السّلام في سبيل إحياء الدين من نفسه الزكية، ونفوس أحبائه بتلك الكيفية، لأمسى الإسلام خبراً من الأخبار السالفة(2)، وأضحى المسلمون أمة من الأمم التالفة، إذلو بقي المنافقون على ما كانوا عليه من الظهور للعامة بالنيابة عن رسول اللّه والنصح لدينه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وهم أولياء السلطة المطلقة والإرادة المقدسة، لغرسوا من شجرة النفاق ما أرادوا، وبثوا من روح الزندقة ما شائوا، وفعلوا بالدين ما توجبه عداوتهم له، وارتكبوا من الشريعة كلّ أمر يقتضيه نفاقهم.
وأمّا شيبة الحسين المخضوبة بدمه الطاهر، لولا ما تحمّله سلام اللّه عليه في سبيل اللّه ما قامت لأهل البيت عليهم السلام ـ وهم حجج اللّه ـ قائمة، ولا عرفهم ـ وهم أولوا الأمر ـ ممّن تأخر عنهم أحد، لكنه ـ بأبي وأمي ـ فضح المنافقين، وأسقطهم من أنظار العالمين، واستلفت الأبصار بمصيبته إلى سائر مصائب أهل البيت، واضطر الناس بحلول هذه القارعة إلى البحث عن أساسها، وحملهم على التنقيب عن أسبابها، والفحص عن جذرها وبذرها، واستنهض الهمم إلى حفظ مقام أهل البيت عليهم السلام، وحرّك الحميّة على الإنتصار لهم; لأنّ الطبيعة البشرية والجبلّة الإنسانية، تنتصر للمظلومين وتنتقم بجهدها من الظالمين، فاندفع المسلمون إلى موالات أهل البيت حتى كأنّهم قد دخلوا ـ بعد فاجعة الطف ـ في دور جديد، وظهرت الروحانيّة الإسلاميّة بأجلى مظاهرها، وسطع نور أهل البيت بعد أن كان محجوباً بسحائب ظلم الظالمين، وانتبه الناس إلى نصوص الكتاب والسنّة فيهم عليهم السلام، فهدى اللّه بها مَن هدى لدينه، وضلَّ عنها مَن عمى عن سبيله.
وكان الحسين ـ بأبي وأمي ـ على يقين من ترتب هذه الآثار الشريفة على قتله، وانتهاب رحله، وذبح أطفاله، وسبي عياله، بل لم يجد طريقاً لإرشاد الخلق إلى الأئمة بالحق، واستنقاذ الدّين من أئمة المنافقين ـ الذين خفي مكرهم، وعلا في نفوس العامة أمرهم ـ إلاّ الاستسلام لتلك الرزايا والصبر على هاتيك البلايا، وما قصد كربلاء إلاّ لتحمل ذلك البلاء، عهد معهود عن أخيه عن أبيه عن جدّه عن اللّه عزّوجلّ.
ويرشدك إلى ذلك ـ مضافاً إلى أخبارنا المتواترة من طريق العترة الطاهرة ـ دلائل أقواله وقرائن أفعاله، فإنّها نص فيما قلناه، وحسبك منها جوابه لأمّ سلمة إذ قالت له ـ كما في البحار وجلاء العيون وغيرهما ـ : «يا بنيّ لا تحزن بخروجك إلى العراق، فإني سمعتُ جدّك صلّى اللّه عليه وآله يقول: «يُقتل ولدي الحسين بأرض يقال لها كربلاء» فقال لها:
«يا اُمّاه، وأنا واللّه أعلم ذلك وأنّي مقتول لا محالة وليس لي منه بدّ، وقد شاء اللّه أن يراني مقتولاً ويرى حرمي مشردين وأطفالي مذبوحين»(3).
وجوابه لأخيه عمر، إذ قال له حين امتنع من البيعة ليزيد: «حدّثني أخوك أبو محمّد عن أبيه» ثم بكى حتى علا شهيقه فضمّه الحسين إليه وقال ـ كما في الملهوف وغيره ـ : «حدّثك أنّي مقتول» قال: «حوشيت يا ابن رسول اللّه»، فقال: «بحق أبيك بقتلي خبّرك؟» قال: «نعم، فلو بايعت» فقال عليه السّلام:
«حدثني أبي أنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) أخبره بقتله وقتلي وأنّ تربتي تكون بقرب تربته، أتظن أنّك علمت ما لم أعلم؟»(4).
والرؤيا التي رآها في مسجد جدّه صلّى اللّه عليه وآله حين ذهب ليودّعه، وقول النبي له فيها كما في أمالي الصدوق وغيره:
«بأبي أنت، كأني أراك مرمّلا بدمك بين عصابة من هذه الأمة ما لهم عنداللّه من خلاق»(5).
وكتابه إلى بني هاشم لمّا فصل من المدينة، وقوله فيه ـ كما في الملهوف نقلا عن رسائل ثقة الإسلام ـ :
«أمّا بعد، فإنّ من لحق بي منكم استشهد ومَن تخلّف لم يبلغ الفتح»(6).
وخطبته ليلة خروجه من مكة، وقوله فيها ـ كما في الملهوف وغيره ـ :
«كأنّي بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء».
إلى أن قال:
«ومَن كان باذلا فينا مهجته موطّناً على لقاء اللّه نفسه، فليرحل معنا فإنّي راحل مصبحاً إن شاء اللّه تعالى»(7).
وقوله ـ كما في الملهوف وغيره ـ :
«لولا تقارب الأشياء وهبوط الأجل، لقاتلتهم بهؤلاء، ولكني أعلم يقيناً أن هناك مصرعي ومصرع أصحابي، لا ينجو منهم إلاّ ولدي علي»(8).
وجوابه لأخيه محمّد بن الحنفية، إذ قال له ـ كما في الملهوف وغيره ـ : «يا أخي ألم تعدني النظر فيما سألتك؟» قال:
«بلى، ولكن أتاني رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) بعد ما فارقتك فقال: يا حسين أُخرج، فإن اللّه قد شاء أن يراك قتيلا».
فقال ابن الحنفية: «إنّا للّه وانا إليه راجعون، فما معنى حملك هذه النسوة وأنت تخرج على مثل هذه الحال؟» فقال له:
«قال لي: إنّ اللّه شاء أن يراهن سباياً»(9).
وجوابه لابن عباس وابن الزبير إذ أشارا عليه بالإمساك. فقال لهما: ـ كما في الملهوف وغيره ـ :
«إنّ رسول اللّه أمرني بأمر وأنا ماض فيه».
«فخرج ابن عباس وهو يقول: «واحسيناه»(10).
وجوابه لعبداللّه بن جعفر ويحيى بن سعيد إذ حاولا منه الرجوع فأبى وقال لهما ـ كما في تاريخي ابن جرير وابن الأثير وغيرهما ـ :
«رأيت رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) في المنام وأمرني بما أنا ماض له»(11).
وقوله ـ في كلام له مع ابن الزبير، كما في تاريخي ابن جرير وابن الأثير وغيرهما ـ :
«وأيم اللّه لو كنتُ في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا فيَّ حاجتهم، وواللّه ليعتدن كما اعتدت اليهود في السبت»(12).
وقوله في مقام آخر ـ كما في كامل ابن الأثير وغيره ـ :
«واللّه لا يدعونني حتى يستخرجوا هذه العَلَقة من جوفي، فإذا فعلوا ذلك سلّط اللّه عليهم مَن يذلّهم حتى يكونوا أذل من فرام المرأة (يعني من خرقة الحيض)(13).
وقوله لأبي هرة ـ كما في تاريخ ابن جرير وغيره ـ :
«وأيم اللّه لتقتلني الفئةُ الباغية»(14).
ورؤياه التي رآها لما ارتحل من قصر بني مقاتل ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ فقال حين انتبه: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون الحمد للّه ربّ العالمين ـ مرّتين أو ثلاثاً ـ قال: فأقبل عليه(15) ابنه علي فقال: «يا أبتاه جُعلت فداك مما حمدتَ اللّه واسترجعت»؟ فقال: «يا بني، خفقت برأسي فعنَّ لي فارس فقال: القوم يسيرون والمنايا تسير إليهم، فعلمت أنّها أنفسنا نعيت إلينا» فقال: «يا أبت لا أراك اللّه سوءاً، ألسنا على الحق؟» قال: «بلى والذي إليه مرجع العباد» قال: «إذاً لا نبالي، نموت محقّين».
فقال له: «جزاك اللّه من ولد خير ما جزى ولداً عن والده»(16).
وقوله لما أُخبر بقتل قيس بن مسهر الصيداوي ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ :
«فمنهم من قضى نحبه ومنهم مَن ينتظر وما بدّلوا تبديلا»(17).
إلى غير ذلك من أقواله الصريحة بأنه كان على يقين مما انتهت إليه حاله، وأنّه ما خرج إلاّ ليبذل في سبيل اللّه نفسه وجميع ما ملكته يده، ويضحي في إحياء دين اللّه أولاده وإخوته، وأبناء أخيه، وبني عمومته وخاصة أوليائه، والعقائل الطاهرات من نسائه.
إذ لم يرالسبط للدين الحنيف شفاً *** إلاّ إذا دمه في نصره سفكا
وما سمعنا عليلا لا علاج له *** إلاّ بنفس مداويه إذا هلكا
بقتله فاح للإسلام طيب هدىً *** فكلّما ذكرته المسلمون ذكا
وصانَ ستر الهدى عن كلِّ خائنة *** ستر الفواطم يوم الطف إذ هُتِكا
نفسي الفداء لفاد شرع والده *** بنفسه وبأهليه وما ملكا
قد آثر الدين أنْ يحيى فقحمها *** حيث استقام القنا الخطبي واشتبكا(18)
على أن الأمر الذي انتهت إليه حاله كان من الوضوح بمثابة لم تخف على أحد، وقد نهاه عن ذلك الوجه ـ جهلا بمقاصده السامية ـ كثير من الناس وأشفقوا عليه وأنذروه بلؤم بني أمية وغدر أهل العراق:
فقال له أخوه محمّد بن الحنفية ـ كما في الملهوف وغيره ـ : «يا أخي، إنّ أهل الكوفة من قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفتُ أن يكون حالك كحال مَن مضى، فإنْ رأيت أنْ تقيم فإنّك أعزّ مَن في الحرم وأمنعه، فإنْ خفت فسر(19) إلى اليمن أو بعض نواحي البرّ، فإنّك أمنع الناس به ولا يقدر عليك».
فردّه الحسين ـ عليه السّلام ـ برأفة ورفق، وقال: «انظر فيما قلت»(20).
وأتاه ابن عباس فقال: «يا ابن عم، قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق، فبيّن لي ما أنت صانع؟» قال: «إني قد أجمعت السير في أحد يوميَّ هذين إنْ شاء اللّه تعالى»، فقال له ابن عباس ـ كما في تاريخي الطبري وابن الأثير وغيرها ـ : «أعيذك باللّه من ذلك، أتسير إلى قوم قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم؟ فإنْ كانوا فعلوا ذلك فسر إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم، وعماله تجبي بلادهم، فإنّما دعوك إلى الحرب والقتال، ولا آمن عليك أنْ يغروك، ويكذِّبوك ويخالفوك ويخذلوك، وإن يستنفروا إليك، فيكونوا أشدّ الناس عليك».
فردّه الحسين عليه السّلام ردّ رحمة وحنان فقال له:
«أستخير اللّه وأنظر ما يكون»(21).
فخرج ابن عباس.
ثم جاءه مرةً أخرى فقال له ـ كما في تاريخي الطبري وابن الأثير وغيرهما ـ : «يا ابن عم، إنّي أتصبَّر ولا أصبر، إني أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك والإستئصال، إنّ أهل العراق قوم غدر فلا تقربّنهم، أقم بهذا البلد فإنّك سيد أهل الحجاز، فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا، فاكتب إليهم فلينفوا (عاملهم)(22) وعدوّهم ثم اقدم عليهم، فإنْ أبيت إلاّ أن تخرج، فسر إلى اليمن فإنّ بها حصوناً وشعاباً، ولأبيك بها شيعة، فتكتب إلى الناس وتبثّ دعاتك، فإني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحب في عافية».
فقال له الحسين عليه السّلام: «يا ابن عم، إني لأعلم واللّه أنّك ناصح مشفق، ولكن قد أزمعت وأجمعت على المسير»(23).
ودخل عليه عمر بن عبدالرحمن المخزومي فقال له ـ كما في تاريخي الطبري وابن الأثير وغيرهما ـ : «إني مشفق عليك، إنك تأتي بلداً فيه عمّاله وأمراؤه، ومعهم بيوت الأموال، وإنما الناس عبيد الدينار والدرهم، فلا آمن عليك أنْ يقاتلك مَن وعدك نصره».
فقال له الحسين عليه السّلام:
«جزاك اللّه خيراً يا ابن عم، فقد علمتُ أنك مشيتَ بنصح، وتكلّمت بعقل، ومهما يقض من أمر يكن»(24).
وكتب إليه عبداللّه بن جعفر بعد خروجه من مكة ـ كما في تاريخي الطبرى وابن الأثير وغيرهما ـ : «أما بعد، فإني أسألك باللّه لما انصرفت حين تقرأ كتابي هذا، فإنّي مشفق عليكَ من هذا الوجه أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، وإنْ هلكتَ اليوم طُفِىءَ نور الأرض، فإنك علم المهتدين ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالسير فإني في إثر كتابي. والسلام»(25).
وقام عبداللّه بن جعفر إلى عمرو بن سعيد ـ وهو عامل يزيد يومئذ بمكة ـ فقال له: «اكتب للحسين كتاباً تجعل له الأمان فيه، وتمنّيه فيه البر والصلة واسأله الرجوع». ففعل عمرو ذلك وأرسل الكتاب مع أخيه يحيى بن سعيد وعبداللّه بن جعفر، فلحقاه وقرأ عليه الكتاب، وجهدا أن يرجع، فلم يفعل(26).
وقال له عبداللّه بن مطيع ـ إذ اجتمع به في الطريق على بعض مياه العرب ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ : ـ أذكرك اللّه يا ابن رسول اللّه وحرمة الإسلام أن تنهتك، أنشدك اللّه في حرمة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله)، أنشدك اللّه في حرمة العرب، فواللّه لأن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك، ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحداً أبداً(27) واللّه إنها لحرمة الإسلام تنهتك، وحرمة قريش، وحرمة العرب، فلا تفعل ولا تأت الكوفة ولا تعرض لبني أمية».
قالوا: فأبى إلاّ أن يمضي(28). إنجازاً لمقاصده السامية.
ولقيه أحد بني عكرمة ببطن العقبة ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ فقال له: «أنشدك اللّه لما انصرفت، فواللّه لا تقدم إلاّ على الأسنة وحدّ السيوف، فإنّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤنة القتال ووطؤا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأياً، فأما على هذه الحال فإني لا أرى لك أن تفعل» فقال له:
«يا عبداللّه، إنّه ليس يخفى عليّ، الرأي ما رأيت، ولكن اللّه لا يغلب على أمره»(29).
ولقيه بعض بني تميم قريباً من القادسية ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ : فقال له: «إرجع فإني لم أدع لك خيراً أرجوه»(30).
وكان قد لقيه الفرزدق بن غالب الشاعر في الصّفاح ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ فقال له: «قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أمية»(31).
وما التقى في الطريق بأحد إلاّ التمسه على الرجوع إشفاقاً عليه من لؤم بني أمية وغدر أهل العراق، وما كان ليخفى عليه ما ظهر لأغلب الناس، لكنه وهؤلاء كما قيل: ـ أنت بواد والعذول بوادي.
ما نزل ـ بأبي وأمي ـ منزلا ولا ارتحل منه ـ كما في الإرشاد وغيره ـ إلاّ ذكر يحيى بن زكريا وقتله.
وقال يوماً:
«من هوان الدنيا على اللّه إنّ رأس يحيى بن زكريا أُهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل»(32).
فهل تراه أراد بهذا غير الإشارة إلى أن سبيله في هذا الوجه إنما هو سبيل يحيى عليهما السلام؟
وأخبره الأسديان وهو نازل في الثعلبية ـ كما في تاريخ الطبري(33)وغيره ـ بقتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة، وأنهما يجرّان بأرجلهما في الأسواق بلا نكير.
فهل يُمكن بعد هذا أن يبقى له أمل بنصرة أهل الكوفة، أو طمع في شيء من خيرهم؟؟. واللّه ما جاءهم إلاّ يائساً منهم عالماً بكلّ ما كان منهم عليه.
وقد كتب وهو نازل بزبالة كتاباً قُرِأ بأمره على الناس وفيه:
«بسم اللّه الرّحمن الرّحيم: أما بعد، فإنه قد أتانا خبر فظيع: قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبداللّه بن يقطر، وقد خذلتنا شيعتنا، فمَن أحبَّ منكم الإنصراف فلينصرف ليس عليه منا ذمام»(34).
قال محمّد بن جرير الطبري ـ في تاريخ الأمم والملوك ـ : «فتفرق الناس عنه تفرّقاً، فأخذوا يميناً وشمالا حتى بقي في أصحابه الذين جاؤا معه من المدينة» قال: «وإنّما فعل ذلك لأنّه ظنّ إنّما اتبعه الأعراب; لأنهم ظنوا أنّه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله، فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون على ما يقدمون» قال: «وقد علم أنهم إذا بيّن لهم لم يصحبه إلاّ من يريد مواساته والموت معه»(35).
وذكر أهل الأخبار: أنّ الطرماح بن عدي لما اجتمع به في عذيب الهجانات دنا منه فقال له ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ : «واللّه إني لأنظر فما أرى معك أحداً، ولو لم يقاتلك إلاّ هؤلاء الذين أراهم ملازميك ـ يعني الحر(36) وأصحابه ـ لكان كفى بهم. وقد رأيت قبل خروجي من الكوفة إليك بيوم ظهر الكوفة وفيه من الناس ما لم تر عيناي في صعيد واحد جمعاً أكثر منه فسألت عنهم فقيل: اجتمعوا ليعرضوا ثم يسرحوا إلى حرب الحسين، فأنشدك اللّه إنْ قدرت أن لا تقدم عليهم شبراً إلاّ فعلت، فإن أردت أن تنزل بلداً يمنعك اللّه به حتى ترى من رأيك ويستبين لك ما أنت صانع، فسر حتى أنزلك مناع جبلنا الذي يدعي «أجاء» امتنعنا ـ واللّه ـ به من ملوك غسان وحمير ومن النعمان بن المنذر، ومن الأسود والأحمر، واللّه ما دخل علينا فيه ذل قط، فأسير معك حتى أنزلك القرية، ثم نبعث إلى الرجال ممن بـ«ـأجاء» و «سلمى» من طيء، فواللّه لا يأتي عليك عشرة أيام حتى تأتيك طيء رجالا وركباناً، ثم أقم فينا ما بدا لك، فإن هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم، واللّه لا يوصل إليك أبداً ومنهم عين تطرف».
فقال له: «جزاك اللّه وقومك خيراً»(37). وأبى أن ينصرف عن مقصده.
وأنت تعلم أنّه لو كان له رغبة في غلبة أو ميل إلى سلطان، لكان لكلام الطرماح وقع في نفسه عليه السّلام ولظهر منه الميل إلى ما عرضه عليه، لكنه ـ بأبي وأمي ـ أبى إلاّ الفوز بالشهادة، والموت في إحياء دين الإسلام، وقد صرّح بذلك فيما تمثل به إذ قال له الحر: «أذكرك اللّه في نفسك فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ». فقال (عليه السّلام) كما في تاريخ الطبري وغيره:
سأمضي وما بالموت عار على الفتى *** إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلماً
وواسى الرجال الصالحين بنفسه *** وفارق مثبوراً وخالف مجرماً(38)
وحسبك في إثبات علمه من أول الأمر بما انتهت إليه حاله: ما سمعته من إخبار النبي صلّى اللّه عليه وآله بقتله في شاطىء الفرات بموضع يقال له كربلاء، وبكائه عليه، ونداء أميرالمؤمنين عليه السّلام لما حاذى نينوى وهو منصرف إلى صفين:
«صبراً أبا عبداللّه، صبراً أبا عبداللّه بشاطىء الفرات»(39).
وقوله إذ مرّ بكربلاء:
«هاهنا مناخ ركابهم، وهاهنا موضع رحالهم، وهاهنا مهراق دمائهم»(40).
وقول الحسين عليه السّلام لأخيه عمر:
«حدثني أبي أن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) أخبره بقتله وقتلي، وإن تربتي تكون بقرب تربته»(41).
وقول الحسن للحسين عليهما السلام كما في أمالي الصدوق وغيرهما من جملة كلام كان بينهما:
«ولكن لا يوم كيومك(42) يا أبا عبداللّه يزدلف إليك ثلاثون الف رجل، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك وانتهاك حرمتك وسبي ذراريك ونسائك، وانتهاب ثقلك، فعندها يحل اللّه ببني أمية اللعنة»(43).
إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على أنّ قتل الحسين عليه السّلام كان معروفاً عند أهل البيت منذ أخبر اللّه به نبيه صلّى اللّه عليه وآله.
بل صريح أخبارنا أنّ ذلك مما أوحي إلى الأنبياء السابقين، وقد سمعت ما أشرنا إليه من بكائهم عليهم السلام.
ويظهر من بعض الأخبار أنّ قتل الحسين كان معروفاً عند جملة من الصحابة والتابعين حتى أنّهم ليعلمون أنّ قاتله عمر بن سعد، وحسبك ما نقله ابن الأثير حيث ذكر مقتل عمر بن سعد في كامله عن عبداللّه بن شريك قال: «أدرك أصحاب الأردية المعلّمة، وأصحاب البرانس السود من أصحاب السواري، إذا مرّبهم عمر بن سعد قالوا: هذا قاتل الحسين وذلك قبل أن يقتله». قال: «وقال ابن سيرين: «قال علي لعمر بن سعد:
«كيف أنت قمت مقاماً تخير فيه بين الجنة والنار، فتختار النار؟(44)»(45).
أترى الحسين (عليه السّلام) كان جاهلا بما عليه أصحاب السواري؟ كلاّ واللّه، ما علم أصحاب البرانس السود ذلك إلاّ منه، أو من أخيه، أو من جدّه، أو من أبيه.
وقد أطلنا الكلام في هذا المقام، إذ لم نجد مَن وفاه حقه، وخرج من عهدة التكليف بإيضاحه، والحمد للّه على التوفيق لتحرير هذه المسألة، وتقرير شواهدها وأدلتها، على وجه تركن النفس إليه، ولا يجد المنصف بدّاً من البناء عليه، بل لا أظن أحداً يقف على ما تلوناه ثم يرتاب فيما قررناه. والآن نشرع في الكتاب متوكلين على اللّه عزّوجلّ وقد جعلناه أربعة أجزاء.
(1) نبهك إلى بعضها، حكيم الغربيين، وفيلسوف المستشرقين: الدكتور (جوزف) الفرنسي في كتابه: (الإسلام والمسلمون)، والمسيو (ماربين) الألماني في كتابه (السياسة الإسلامية)، وقد ترجمت جريدة (حبل المتين) الفارسية في 82 من أعدادها الصادرة في سنة 17 فصلين، من ذينك الكتابين النفيسين يحتويان على أسرار شهادة الحسين، وفلسفة مآتمه (عليه السّلام)، فكان لهما دوي في العالم الإسلامي وأخذا في الشرق دوراً مهماً، وترجما بالتركية، والهندية، وعرّبهما سيدنا الشريف العلامة الباحث السيد صدر الدين الموسوي نجل الإمام الكبير حجة الإسلام وآية اللّه في الأنام، قدوتنا المولى السيد إسماعيل الصدر أبقاه اللّه، فنشرت مجلة العلم أحد الفصلين، ومجلة العرفان نشرت الآخر، وإليك ما ذكره الدكتور (جوزف) تحت عنوان الشيعة وترقياتها المحيرة للعقول ـ قال من جملة كلام له طويل: لم تكن هذه الفرقة (يعني الشيعة) ظاهرة في القرون الأولى الإسلامية كأختها، ويمكن أن تنسب قلتهم إلى سببين = أحدهما = إن الرياسة والحكومة التي هي سبب إزدياد تابعي المذهب كانت بيد الفرقة الأخرى، والسبب الآخر هو القتل والغارات التي كانت تتوالى عليهم، ونظراً لحفظ نفوس الشيعة حكم أحد أئمتهم في أوائل القرن الثاني عليهم بالتقية، فزادت في قوتهم لعدم تمكن العدو القوي الشكيمة من قتلهم، والإغارة عليهم، بعد أن لم يكونوا ظاهرين، وصاروا يعقدون المجالس سرّاً ويبكون على مصائب الحسين، واستحكمت هذه العاطفه في قلوبهم على وجه لم يمض زمان قليل إلاّ وارتقوا، حتى صار منهم الخلفاء والسلاطين والوزراء، وهؤلاء بين مَن أخفى مذهبه وتشيعه، وبين مَن أظهره، و بعد أمير تيمور حيث رجعت السلطنة في إيران إلى الصفوية، صارت إيران مركز فرقة الشيعة، وبمقتضى تخمين بعض سوّاح فرنسا: إنّ الشيعة فعلا: سدس المسلمين أو سبعهم، ونظراً إلى هذا الترقي الذي حازته فرقة الشيعة في زمان قليل، من دون جبر وإكراه، يمكن ان يقال: إنهم سيفوقون سائر فرق الإسلام بعد قرن، أو قرنين، والسبب في ذلك هو إقامة عزاء الحسين الذي قد جعله كلّ واحد منهم داعياً إلى مذهبه، ولا يوجد اليوم مكان فيه الواحد أو الإثنان من الشيعة إلاّ ويقيمان فيه عزاء الحسين، ويبذلان في هذا السبيل الأموال الكثيرة، فقد رأيت في نزل (مارسل) شيعياً عربياً من أهالي البحرين يقيم مأتم الحسين وهو منفرد، ويرقى المنبر ويقرأ في كتاب ويبكي، ثم يقسم ما أحضر من الطعام على الفقراء. هذه الطائفة تبذل الأموال في هذا السبيل على وجهين:
فبعضهم يبذلها من خالص أمواله في كلّ سنة بقدر استطاعته، وصرفيات هذا القسم تزيد على ملايين فرنك.
وبعضهم يعين أوقافاً لهذا المشروع لخصوص هذه الطائفة وهذا القسم أضعاف الأول.
ويمكن أنّ يقال: إن جميع فرق الإسلام من حيث المجموع لا يبذلون في سبيل تأييد مذهبهم بمقدار ما تبذله هذه الفرقة في سبيل ترقيات مذهبها، وموقوفات هذه الفرقة ضعفا أوقاف سائر المسلمين، أو ثلاثة أضعافها، كلّ واحد من هذه الفرقة هو في الحقيقة داع إلى مذهبه من حيث يخفى على سائر المسلمين، بل أن الشيعة أنفسهم لا يدركون هذه الفائدة المترتبة على عملهم، وليس في نظرهم إلا الثواب الاخروي، ولكن حيث أن كلّ عمل في هذا العالم، لابد وأن يكون له أثر طبيعي في العالم الإجتماعي، قصده الفاعل أو لم يقصده، لم تحرم هذه الفرقة فوائد هذا العمل الطبيعية في هذا العالم، ومن المعلوم أنّ مذهباً دعاته خمسون أو ستون مليوناً، لابدّ وأن يرتقي أربابه على وجه التدريج إلى ما يليق بشأنهم، حتى أنّ الرؤساء الروحانيين من هذه الفرقة وسلاطينها ووزرائها، لم يخرجوا عن صفة كونهم دعاة، وسعي الفقراء والضعفاء في محافظة إقامة عزاء الحسين من حيث انتفاعهم من هذا الباب أكثر من الآعيان والآكابر، لأنّهم يرون في ذلك خير الدنيا والآخرة، لهذا ترى جماعة كثيرين من عقلاء هذه الفرقة قد تركوا سائر أشغالهم المعاشية، وتفرّغوا لهذا العمل وهم يكابدون المشاق في تحرّي العبارات الرائقة، والجمل الواضحة، عند إلقاء فضائل رؤساء دينهم ومصائب أهل البيت، على المنابر في المجالس العمومية، ولأجل هذه المشقات التي اختارتها هذه الجماعة فاق خطباء هذه الفرقة على خطباء جميع فرق المسلمين، وحيث إنّ تكرار الأمر الواحد يوجب اشمئزاز القلوب ومللها وعدم التأثير تسعى هذه الجماعة في ذكر تمام المسائل الإسلامية الراجعة إلى مذهبهم بهذا العنوان على المنابر، حتى آل الأمر إلى عوام الشيعة بفضل هؤلاء الخطباء أن أصبحوا أعرف بمسائل مذهبهم من معرفة كلّ فرقة من فرق المسلمين بمذهبها، كما أنّ اكتساب الشيعة واحترافهم بهذه الوسيلة وسائر الوسائل الراجعة إليها أيضاً أكثر من سائر المسلمين، ولو نظرنا اليوم في أقطار العالم، نرى أنّ الأفراد التي هي أولى بالمعرفة والعلم والصنعة والثروة إنما توجد بين الشيعة، والدعوة التي قام بها الشيعة أولى بالمعرفة والعلم والصنعة، والثروة إنما توجد بين الشيعة، والدعوة التي قام بها الشيعة إلى مذهبهم أو سائر الفرق الإسلامية غير محدودة، بل إنّ آحاد وأفراد الطائفة دعاة وما دخلوا بين أمّة إلاّ وسرى هذا الأثر في قلوبها، وليس العدد الذي نراه اليوم في الهند من الشيعة إلاّ هو أثر إقامة هذه المآتم. الشيعة لم تؤيد دينها بقوة ولا سيف، حتى في زمن الصفوية، بل إنّهم بلغوا هذه الدرجة من الترقي المحير للعقول بقوة الكلام والدعوة التي أثرها أمضى من السيف. ولقد بلغ اهتمام هذه الفرقة في أداء مراسم مذهبها مبلغاً عظيماً حتى جعلت ثلثي المسلمين من أتباع سيرتها، بل اشترك معها كثير من الهنود والمجوس وسائر المذاهب، ومن المعلوم أنّ بعد مضي قرن ووصل هذه الأعمال بالأرث إلى أبناء أولئك الطوائف يذعنون بها، ويصدّقون هذا المذاهب، وبما أنّ فرقة الشيعة تعتقد بأنّ جميع المطالب والمقاصد موكول نجاحها إلى أكابر مذهبهم، وهم يفزعون إليهم في قضاء الحوائج، ويستمدون منهم عند الشدائد، سرت هذه الروح أيضاً إلى سائر الفرق التي اشتركت معهم في تلك الأعمال والأفعال، ومن المعلوم أنّ بمجرد قضاء حاجتهم وبلوغ آمالهم، تزداد عقيدتهم بهذا المذهب رسوخاً.
من هذه القرائن والأسباب، يمكننا أن نقول: لا يمضي على هذه الفرقة زمان قليل إلاّ وتفوق سائر المسلمين من حيث العدد، وكانت هذه الفرقة قبل قرن أو قرنين، تلازم التقية فيما عدا إيران، نظراً لقلّتهم، وعدم قدرتهم على إظهار شعائر مذهبهم، ولكن من يوم استولت الدول الغربية على الممالك الشرقية، ومنحت جميع المذاهب الحرية قامت هذه الفرقة تقيم شعائر مذهبها علناً في كلّ مكان، واستفادوا من هذه الحريّة فائدة تامة حتى أنّهم تركوا التقية.
لهذه الأسباب المذكورة كانت هذه الفرقة أعرف من غيرها بمقتضيات العصر الحاضر، وأكثر سعياً باكتساب المعاش وتحصيل المعارف، لذلك ترى العمال في هذه الفرقة أكثرمما تراه في سائر فرق المسلمين; لاشتغال الغالب منهم المستلزم لمتابعة غير الغالب، مضافاً إلى أنّ مثابرتهم على العمل مما توجب إحتياج الغير إليهم، كما أنّ اختلاطهم مع سائر الفرق وصلاتهم الودادية مع غيرهم تلازم غالباً اشتراك الغير في مجالسهم ومحافلهم، فيسمعون أصول مذهبهم، ويصغون إلى كلماتهم وعباراتهم، وبتكرار ذلك يأنسون بطريقتهم ومذهبهم، وهذا هو عمل الدعاة. والأثر الذي يترتب على هذه السيرة هو الأثر الذي يتطلّبه جميع ساسة الغرب في رقي دين المسيح مع تلك المصارف الباهضة.
ومن جملة الأمور السياسية التي أظهرها أكابر فرقة الشيعة بصبغة مذهبية منذ قرون، وأوجبت جلب قلب البعيد والقريب هو: قاعدة التمثيل باسم الشبيه في مآتم الحسين، وقد قرر حكماء الهند التمثيل; لأغراض ليس هذا موضع ذكرها وجعلوه من أجزاء عباداتهم، فأخذته أورباو أخرجته بمقتضى السياسة بصورة التفرج، وصارت تمثل الأمور المهمة السياسية في دور التمثيل الخاصة والعامة، وجلبت القلوب بسببه وأصابت بسهم غرضين: تفريج النفوس، وجلب القلوب في الأمور السياسية، والشيعة قد استفادت من ذلك فوائد كاملة، وأظهرته بصبغة دينية. ويمكن القول: بأن الشيعة قد أخذت ذلك من الهنود، وكيف كان، فالأثر الذي ينبغي أن يعود من التمثيل إلى قلوب الخواص والعوام قد عاد، ومن المعلوم أنّ تواتر إقامة المآتم وذكر المصائب الواردة على أكابر دينهم والمظالم التي وردت على الحسين (عليه السّلام) مع تلك الأخبار الواردة في فضل البكاء على مصائب آل محمّد (صلّى اللّه عليه وآله) إذا انضمّت إلى تمثيل تلك المصائب تكون شديدة الأثر، وتوجب رسوخ عقائد خواص هذه الفرقة وعوامها فوق ما يتصور. وهذا هو السبب الذي لم يسمع من ابتداء ترقي مذهب الشيعة إلى الآن أن ترك بعضهم دين الإسلام أو دخل في سائر الفرق الإسلامية.
هذه الفرقة تقيم التمثيل على أقسام مختلفة، فتارة في مجالس خصوصية وأمكنة معينة، و حيث أنّ الفرق الأخرى قلما تشترك معهم في المجالس، اخترعوا تمثيلا خاصاً وصاروا يدورون به في الأزقة والطرقات وبين جميع الفرق، فتتأثر قلوب جميع الفرق من القريب والبعيد عين الأثر الذي يحصل من التمثيل، ولم يزل هذا العمل يزداد إليه توجه الأنظار من الخاص والعام حتى قلد الشيعة فيه بعض الفرق الإسلامية والهنود واشتركوا معهم في ذلك، وهو في الهند أكثر رواجاً من جميع الممالك الإسلامية، كما أنّ سائر فرق الإسلام هناك أكثر اشتراكاً مع الشيعة في هذا العمل من سائر البلاد، ويغلب على الظن أنّ أصول التمثيل بين الشيعة قد تداول في زمن الصفوية الذين هم أوّل من نال السلطنة بقوة المذهب، و أجاز العلماء والرؤسآء الروحانيون هذه الأصول.
ومن جملة الأمور التي أوجبت رقي هذه الفرقة وشهرتهم ـ في كلّ مكان ـ هو تعرفهم، بمعنى أنّ هذه الطائفة قد جلبت إليها قلوب سائر الفرق من حيث الجاه والقوة، والشوكة والاعتبار بواسطة المجالس والمآتم والشبيه واللطم والدوران وحمل الرايات والألوية في عزاء الحسين. إنّ من المعلوم أنّ كلّ جمعية وجماعة تجلب إليها الأنظار والخواطر بدرجة ما، مثلا لو كان في بلد عشرة آلاف متفرقين، وفي محلّ ألف نفس مجتمعة، كانت شوكة الألف المجتمعين وابّهتهم في أنظار الخاصة والعامة أكثر من العشرة آلاف المتفرقين، مضافاً إلى أنّهم اجتمع ألف نفس انضم إليهم من غيرهم، مثل عددهم، إما للتفرّج، أو لأجل صداقة ورفاقة، أو لأغراض اخرى، وبهذا الانضمام تزيد شوكة الألف وقوتهم في الأنظار وتتضاعف.
ومن الأمور الطبيعية المؤيدة لفرقة الشيعة في تأثير قلوب سائر الفرق هو: إظهار مظلومية أكابر دينهم، وهذا التأثير من الأمور الفطرية; لأنّ كلّ أحد بالطبع يأخذ بيد المظلوم ويحب نصرة الضعيف والمظلوم على القوي، والطبائع البشرية أميل إلى الضعيف والمظلوم ولو كان مبطلاً من الظالم وإن كان محقاً، ولا سيما إذا مرّت عليه السنون والأعوام، وهؤلاء مصنفوا أوروبا الذين ذكروا في كتبهم تفصيل مقاتلة الحسين وأصحابه وقتله مع أنّهم لا يعتقدون بهم يذعنون بالمظلومية لهم ويعترفون بظلم وتعدّي قاتليهم وعدم رحمتهم، ولا يذكرون أسماءهم إلاّ مشمئزين، وهذه الآمور الطبيعية لا يقف أمامها شيء، وهذا السرّ من المؤيدات الطبيعية لفرقة الشيعة.
وقال (المسيومار بين) حكيم الألمان وفيلسوف المستشرقين ما هذا نصّ تعريبه:
إنّ عدم معرفة بعض مؤرخينا بحقيقة الحال، أوجب أن ينسبوا في كتبهم طريقة إقامة الشيعة لعزاء الحسين إلى الجنون! ولكن جهلوا مقدار تغيير هذه المسألة وتبديلها في الإسلام، فإنّا لم نر في سائر الأقوام ما نراه في شيعة الحسين مِن الحسيات السياسية والثورات المذهبية بسبب إقامة عزاء الحسين، وكلّ من أمعن النظر في رقي شيعة علي الذين جعلوا إقامة عزاء الحسين شعارهم في مدة مائة سنة، يذعن أنّهم فازوا بأعظم الرقي، فإنّه لم يكن قبل مائة سنة من شيعة علي والحسين في الهند إلاّ ما يعد بالأصابع، واليوم هم في الدرجة الثالثة من حيث الجمعية إذا قيسوا بغيرهم، وكذلك هم في سائر نقاط الأرض، وإذا قسنا دعاتنا مع تلك المصارف الباهضة والقوة الهائلة، والشيعة ترى دعاتنا لم يحظوا بعشر ترقيات هذه الفرقة، وإن كان قسسنا يحزنون القلوب بذكر مصائب المسيح، ولكن لا بذلك الشكل والأسلوب المتداول بين شيعة الحسين، ويغلب على الظن أنّ سبب ذلك هو: إنّ مصائب الحسين أشد حزناً وأعظم تأثيراً من مصائب المسيح.
فعلى مؤرخينا أن يعرفوا حقيقة رسوم الأغيار وعاداتهم ولا ينسبوها إلى الجنون، وإني أعتقد بأنّ بقاء القانون الإسلامي وظهور الديانة الإسلامية وترقي المسلمين هو مسبب عن قتل الحسين وحدوث تلك الوقائع المحزنة، وهكذا ما تراه اليوم بين المسلمين من حسن السياسة، وإباء الضيم، ما هو إلاّ بواسطة عزاء الحسين، وما دامت في المسلمين هذه الملكة والصفة لا يقبلون ذلاًّ ولا يدخلون في أسر أحد.
ينبغي لنا أن ندقق النظر في ما يذكر من النكات الدقيقة الحيوية في مجالس إقامة عزاء الحسين، ولقد حضرت دفعات في المجالس التي يذكر فيها عزاء الحسين في اسلامبول مع مترجم، وسمعتهم يقولون: ـ الحسين الذي كان إمامنا، ومقتدانا، ومَن تجب طاعته ومتابعته علينا، لم يتحمل الضيم، ولم يدخل في طاعة يزيد، وجاد بنفسه، وعياله، وأولاده، وأمواله في سبيل حفظ شرفه وعلو حسبه ومقامه، وفاز في قبال ذلك بحسن الذكر والصيت في الدنيا، والشفاعة يوم القيامة، والقرب من اللّه، وأعداؤه قد خسروا الدنيا والآخرة… .
فرأيت بعد ذلك وعلمت أنّهم في الحقيقة يدرس بعضهم بعضاً علناً بأنّكم إن كنتم شيعة الحسين، وأصحاب شرف، إنْ كنتم تطلبون السيادة والفخر، فلا تدخلوا في طاعة أمثال يزيد، ولا تتحملوا الذل، بل اختاروا الموت بعزة على الحياة بذلة حتى تفوزوا بحسن الذكر في الدنيا والآخرة، وتحظوا بالفلاح.
من المعلوم حال الأمة التي تلقى عليها أمثال هذه التعاليم من المهد إلى اللّحد، في أي درجة تكون في الملكات العظيمة، والسجايا العالية، نعم هكذا أمة تحوي كلّ نوع من أنواع السعادة والشرف، ويكون جميع أفرادها جنداً مدافعين عن عزّهم وشرفهم، هذا هو التمدن الحقيقي اليوم، هذا هو طريق تعليم الحقوق، هذا هو معنى تدريس أصول السياسة. (المؤلف).
(2) كما شهد به العظماء من فلاسفة الغرب، وإليك ما ذكره (المسيو ماريين) في كتابه (السياسة الإسلامية) بعين لفظ المعرب قال من جملة كلام طويل: لا يشكُّ صاحب الوجدان إذا دقق النظر في أوضاع ذلك العصر وكيفية نجاح بني أميّة في مقاصدهم واستيلائهم على جميع طبقات الناس وتزلزل المسلمين، أنّ الحسين قد أحيا بقتله دين جدّه وقوانين الإسلام، وإن لم تقع تلك الواقعة ولم تظهر تلك الحسيات الصادقة بين المسلمين; لأجل قتل الحسين، لم يكن الإسلام على ما هو عليه الآن قطعاً، بل كان من الممكن ضياع رسومه وقوانينه حيث كان يومئذ حديث العهد، عزم الحسين إنجاح هذا المقصود، وإعلان الثورة ضد بني أمية من يوم توفي والده، فلما قام يزيد مقام معاوية خرج الحسين من المدينة وكان يظهر مقصده العالي، ويبث روح الثورة في المراكز المهمة الإسلامية كمكة والعراق وأينما حلَّ، فازداد نفرة قلوب المسلمين التي هي مقدمة الثورة من بني أمية، ولم يكن يجهل يزيد مقاصد الحسين، وكان يعلم أنّ الثورة إذا أُعلنت في جهة والحسين قائدها مع تنفر المسلمين عموماً من حكومة بني أميّة، وميل القلوب وتوجه الأنظار إلى الحسين عمت جميع البلاد وفي ذلك زوال ملكهم وسلطانهم، فعزم يزيد قبل كلّ شيء من يوم بويع على قتل الحسين، ولقد كان هذا العزم أعظم خطأ سياسي صدر من بني امية الذي جعلهم نسياً منسيّاً ولم يبقَ منهم أثر ولا خبر.
وأعظم الأدلّة على أنّ الحسين أقدم على قتل نفسه، ولم تكن في نظره سلطنة ولا رئاسة هو: إنّه مضافاً إلى ما كان عليه من العلم والسياسة والتجربة التي وقف عليها زمن أبيه وأخيه في قتال بني أميّة، كان يعلم أنّه مع عدم تهيئة الأسباب له واقتدار يزيد، لا يمكنه المقاومة والغلبة وكان يقول من يوم توفي والده إنّه يقتل، وأعلن يوم خروجه من المدينة أنّه يمضي إلى القتل، وأظهر ذلك لأصحابه والذين اتبعوه من باب إتمام الحجة حتى يتفرق الذين التفوا حوله طمعاً بالدنيا، وطالما كان يقول: (خيّر لي مصرع أنا ملاقيه). ولو لم يكن قصده ذلك ولم يكن عالماً عامداً لجمع الجنود ولسعى في تكثير أصحابه وزيادة استعداده، لا أن يفرق الذين كانوا معه، ولكن لما لم يكن له قصد إلاّ القتل مقدمة لذلك المقصد العالي، وإعلان الثورة المقدسة ضد يزيد، رأى أنّ خير الوسائل إلى ذلك الوحدة والمظلومية، فإن أثر هكذا مصائب أشد وأكثر في القلوب.
من الظاهر أنّ الحسين مع ما كانت له من المحبوبية في قلوب المسلمين في ذلك الزمان لو كان يطلب قوةً واستعداداً لأمكنه أن يخرج إلى حرب يزيد جيشاً جراراً، ولكنه لو صنع ذلك لكان قتله في سبيل طلب السلطنة والإمارة، ولم يفز بالمظلومية التي انتجت تلك الثورة العظيمة، هذا هو الذي سبب أن لا يبقى معه أحداً إلاّ الذين لايمكن انفكاكهم عنه، كأولاده، وإخوانه، وبني إخوته، وبني أعمامه وجماعة من خواص أصحابه، حتى أنّه أمر هؤلاء أيضاً بمفارقته، ولكنهم أبوا عليه ذلك، وهؤلاء أيضاً كانوا من المعروفين بين المسلمين بجلالة القدر وعظم المنزلة وقتلهم معه، مما يزيد في عظم المصيبة وأثر الوقعة، نعم! إنّ الحسين بمبلغ علمه وحسن سياسته بذل كمال جهده في إفشاء ظلم بني أمية وإظهار عداوتهم لبني هاشم وسلك في ذلك كلّ طريق، لما كان يعلم عداوة بني أمية له ولبني هاشم، ويعرف أنّهم بعد قتله يأسرون عياله وأطفاله، وذلك يؤيد مقصده ويكون له أثر عظيم في قلوب المسلمين، سيما العرب كما وقع ذلك، حملهم معه وجاء بهم من المدينة.
نعم، إنّ ظلم بني أمية وقساوة قلوبهم في معاملاتهم مع حرم محمّد وسباياه، أثّر في قلوب المسلمين تأثيراً عظيماً لا ينقص عن أثر قتله وأصحابه، ولقد أظهر في فعله هذا عقيدة بني أمية في الإسلام وسلوكهم مع المسلمين سيما ذراري نبيّهم، لهذا كان الحسين يقول في جواب أصحابه والذين كانوا يمنعونه عن هذا السفر: إني أمضي إلى القتل. ولما كانت أفكار المانعين محدودة وأنظارهم قاصرة لا يدركون مقاصد الحسين العالية، لم يألوا جهدهم في منعه، وآخر ما أجابهم به أنْ قال لهم: (شاء اللّه ذلك، وجدي أمرني به)، فقالوا: إنْ كنت تمضي إلى القتل فما وجه حملك النسوة والأطفال فقال: (إن اللّه شاء أن يراهن سبايا) ولما كان بينهم رئيساً روحانياً لم يكن لهم بدٌّ عن السكوت.
ومما يدلّ على أنّه لم يكن له غرض إلاّ ذلك المقصد العالي الذي كان في نفسه ولم يتحمل تلك المصائب لسلطنة وإمارة، ولم يقدم على هذا الخطر من غير علم ودراية كما تصوره بعض المؤرخين منا، أنّه قال لبعض ذوي النباهة قبل الواقعة بأعوام كثيرة على سبيل التسلية: إنّ بعد قتلي وظهور تلك المصائب المحزنة، يبعث اللّه رجالا يعرفون الحق من الباطل، يزورون قبورنا، ويبكون على مصابنا، ويأخذون بثارنا من أعدائنا، أولئك جماعة ينشرون دين اللّه وشريعة جدّي وأنا وجدي نحبّهم وهم يحشرون معنا يوم القيامة.
ولو تأمل المتأمل في كلام الحسين وحركاته، يرى أنّه لم يترك طريقاً من السياسة إلاّ سلكه في إظهار شنائع بني أمية وعداوتهم القلبية لبني هاشم ومظلومية نفسه، وهذا مما يدلّ على حسن سياسته وقوة قلبه وتضحية نفسه في طريق الوصول إلى المقصد الذي كان في نظره، حتى أنّه في آخر ساعات حياته عمل عملا حيّر عقول الفلاسفة ولم يصرف نظره عن ذلك المقصد العالي مع تلك المصائب المحزنة والهموم المتراكمة، وكثرة العطش والجراحات، وهو قصة الرضيع، لما كان يعلم أنّ بني أمية لا يرحمون له صغيراً رفع طفله الصغير تعظيماً للمصيبة على يده أمام القوم وطلب منهم أنْ يأتوه شربةً من الماء فلم يجيبوه إلاّ بالسهم، ويغلب على الظن أنّ غرض الحسين من هذا العمل تفهيم العالم بشدة عداوة بني أمية لبني هاشم، وأنّها إلى أي درجة بلغت، ولا يظن أحد أنّ يزيد كان مجبوراً على تلك الإقدامات الفجيعة لأجل الدفاع عن نفسه; لأنّ قتل الطفل الرضيع في ذلك الحال بتلك الكيفية ليس هو إلاّ توحش وعداوة سبعية منافية لقواعد كلّ دين وشريعة. ويمكن أنْ تكون هذه الفاجعة كافية في افتضاح بني أمية، ورفع الستار عن قبائح أعمالهم ونياتهم الفاسدة بين العالم سيما المسلمين، وأنّهم يخالفون الإسلام في حركاتهم بل يسعون بعصبية جاهلية إلى اضمحلال آل محمّد وجعلهم بالأيدي سبايا.
ونظراً لتلك المقاصد العالية التي كانت في نظر الحسين، مضافاً إلى وفور علمه وسياسته التي كان لا يشك فيها إثنان لم يرتكب امراً يوجب مجبورية بني أمية للدفاع حتى مع ذلك النفوذ والإقتدار الذي كان له في ذلك العصر، لم يسعَ في تسخير البلاد الإسلامية وضمّها إليه، ولا هاجم ولاية من ولايات يزيد، إلى أنْ حاصروه في واد غير ذي زرع، قبل أن تبدو منه أقل حركة عدائية، أو تظهر منه ثورة ضد بني أمية.
لم يقل الحسين يوماً: سأكون ملكاً أو سلطاناً، وأصبح صاحب سلطة، نعم كان يبث روح الثورة في المسلمين بنشره شنائع بني أمية واضمحلال الدين إنْ دام ذلك الحال، وكان يخبر بقتله ومظلوميته وهو مسرور، ولما حوصر في تلك الأرض القفراء أظهر لهم من باب إتمام الحجة بأنّهم لو تركوه لرحل بعياله وأطفاله، وخرج من سلطة يزيد، ولقد كان لهذا الإظهار الدالّ على سلامة نفس الحسين في قلوب المسلمين غاية التأثير.
قُتل قبل الحسين ظلماً وعدواناً كثير من الرؤساء الروحانيين، وأرباب الديانات وقامت الثورة بعد قتلهم بين تابعيهم ضد الأعداء، كما وقع مكرراً في بني إسرائيل وقصة يحيى من أعظم الحوادث التأريخية، ومعاملة اليهود مع المسيح لم ير نظيرها إلى ذلك العهد، ولكن واقعة الحسين فاقت الجميع.
لم يرشدنا التاريخ إلى أحد من الروحانيين وأرباب الديانات أنّه أقدم على قتل نفسه عالماً عامداً لمقاصد عالية لا تنجح إلاّ بقتله، فإنّ كلّ واحد من أرباب الديانات الذين قتلوا، ثار عليهم أعداؤهم وقتلوهم ظلماً، وبمقدار مظلوميتهم قامت الثورة بعدهم ومقاصد الحسين كانت على علم وحكمة وسياسة، وليس لها نظير في التاريخ، فإنّه لم يزل يوالي السعي في تهيئة أسباب قتله نظراً لذلك المقصد العالي، ولم نجد في التاريخ رجلا ضحّى حياته عالماً عامداً لترويج ديانته من بعده إلاّ الحسين.
المصائب التي تحمّلها الحسين في طريق إحياء دين جدّه تفوق على مصائب أرباب الديانات السابقين، ولم ترد على أحد منهم، نعم: إنّ هناك رجالا قتلوا في طريق إحياء الدين، ولكنهم لم يكونوا كالحسين، فإنه ضحّى نفسه العزيزة في طريق إحياء دين جدّه، وفداه بأولاده، وإخوانه، وأقربائه، وأحبابه، وأمواله، وعياله، ولم تقع هذه المصائب دفعة واحدة حتى تكون في حكم مصيبة واحدة، بل وقعت متتالية واحدة بعد أخرى، ويختص الحسين دون غيره بتواتر أمثال هذه المصائب، كما يشهد له التاريخ.
لم تنته المصائب التي وردت على الحسين من قتله وقتل أصحابه، وتسيير نسائه وبناته إلاّ وانكشف الغطاء عن سرائر بني أمية، وقبائح أعمالهم، وظهرت بين المسلمين الحسيات السياسية، وتوطدت أسباب الثورة ضد سلطنة يزيد وبني امية وعلم الجميع أنّ بني أمية مخربوا الإسلام، وصار الجميع يرفض بدعهم وتقولاتهم وعرفوا بالظلم والغصب بالعكس من بني هاشم، فإنهم عرّفوا بالمظلومية، وأنّ لهم الرئاسة الروحانية بالإستحقاق، وإليهم تنتمي الحقيقة الروحانية.
كأنّ المسلمين ـ بعد قتل الحسين ـ قد دخلوا في دور جديد، وظهرت الروحانية الإسلامية بأجلى مظاهرها، وتجددت بعد أنْ كانت مندرسةً غائبة عن أذهان المسلمين، وكما لا يشك إثنان في تفوّق مصائب الحسين على جميع مصائب روحاني السلف، فكذلك لا يشك في الثورة التي حدثت بعده، بأنّها فاقت سائر الثورات السالفة، وإنّ امتدادها وأثرها أكثر، وإنْ بها ظهرت للعالم