تلاوة الأحاديث المشتملة
على مناقب الميت ومصائبه
تلاوة الأحاديث المشتملة على مناقب الميت ومصائبه
كما كانت عليه سيرة السلف.
وفعلته عائشة، إذ وقفت على قبر أبيها باكية. فقالت: كنتَ للدنيا مذلاًّ بإدبارك عنها، وكنت للآخرة معزّاً بإقبالك عليها، وكان أجلّ الحوادث بعد رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) رزؤك، وأعظم المصائب بعده فقدك.
وفعله محمّد بن الحنفية، إذ وقف على قبر أخيه المجتبى عليه السّلام فخنقته العبرة ـ كما في أوائل الجزء من العقد الفريد(1) ـ ثم نطق فقال:
«يرحمك اللّه أبا محمّد، فإنْ عزّت حياتك فقد هدّت وفاتك، ولنعم الروح روح ضمّه بدنك، ولنعم البدن بدن ضمّه كفنك، وكيف لا تكون كذلك؟ وأنت بقية ولد الأنبياء، وسليل الهدى، وخامس أصحاب الكساء، غذّتك أكف الحق، وربيت في حجر الإسلام، فطبت حياً وطبت ميتاً، وإن كانت أنفسنا غير طيبة بفراقك، ولا شاكة في الخيار لك».
ثم بكى بكاءاً شديداً وبكى الحاضرون حتى علا نشيجهم.
ووقف أميرالمؤمنين عليه السّلام على قبر خباب بن الأرت في ظهر الكوفة، وهو أول مَن دفن هناك ـ كما نص عليه ابن الأثير في آخر تتمة صفين ـ فقال:
«رحم اللّه خباباً، لقد أسلم راغباً، وجاهد(2) طائعاً، وعاش مجاهداً، وابتُلي في جسمه أحوالا، ولن يضيّع اللّه أجرَ من أحسن عملا»(3).
ولما توفّي أمير المؤمنين عليه السّلام، قام الخلف من بعده أبو محمّد الحسن الزكي عليه السلام خطيباً فقال: ـ كما في حوادث سنة 40 من تاريخ ابن جرير وابن الأثير وغيرهما ـ .
«لقد قتلتم الليلة رجلا، واللّه، ما سبقه أحد كان قبله ولا يدركه أحد يكون بعده، واللّه إن كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) ليبعثه في السرية وجبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، واللّه ما ترك صفراء ولا بيضاء… الخ»(4).
ووقف الإمام زين العابدين عليه السّلام على قبر جدّه أمير المؤمنين عليه السّلام فقال:
«أشهد أنك جاهدت في اللّه حق جهاده، وعملت بكتابه، و اتبعت سنن نبيه (صلّى اللّه عليه وآله) حتى دعاك اللّه إلى جواره فقبضك إليه باختياره، لك كريم ثوابه، وألزم أعداءك الحجة مع مالك من الحجج البالغة على جميع خلقه»(5).
وعن أنس بن مالك ـ كما في العقد الفريد وغيره ـ قال: لما فرغنا من دفن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) بكت فاطمة ونادت:
«يا أبتاه أجاب ربّاً دعاه، يا أبتاه مَن ربّه ما أدناه، يا أبتاه إلى جبرائيل ننعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه»(6).
ولو أردنا أن نستوفي ما كان من هذا القبيل، لخرجنا عن الغرض المقصود.
وحاصله: أنّ تأبين الموتى من أهل الآثار النافعة بنشر مناقبهم وذكر مصائبهم، مما حكم بحسنه العقل والنقل، واستمرّت عليه سيرة السلف والخلف، وأوجبته قواعد المدنية، واقتضته أصول الترقي في المعارف، إذ به تُحفظ الآثار النافعة، وبالتنافس فيه تعرج الخطباء إلى أوج البلاغة، والقول بتحريمه يستلزم تحريم قراءة التاريخ، وعلم الرجال، بل يستوجب المنع من تلاوة الكتاب والسنة; لاشتمالهما على جملة من مناقب الأنبياء ومصائبهم، ومَن يرضى لنفسه هذا الحمق، أو يختار لها هذا العمى؟ نعوذ باللّه من سفه الجاهلين.
(1) العقد الفريد 2 / 37.
(2) في المصدر: (هاجر).
(3) الكامل; لابن الأثير 3 / 198، حوادث سنة 37، ط بيروت دار الكتب العلمية.
(4) تاريخ الطبري 4 / 121، حوادث سنة 40، ط بيروت الأعلمي، البداية والنهاية 7 / 368، ط دار إحياء التراث العربي، الإمامة والسياسة 1 / 140، ط القاهرة 1413.
(5) كامل الزيارات: 92 و 93، باب زيارة قبر أمير المؤمنين عليه السلام وكيف يزار والدعاء عند ذلك.
(6) المجموع; للنووي 5 / 308، ط دار الفكر، والبخاري 5 / 144، ط دار الفكر عام 1401، والمستدرك; للحاكم النيسابوري 1 / 382 ط بيروت دار المعرفة عام 1406، والسنن الكبرى للبيهقي 4 / 71 ط دارالفكر.