مقدمة المؤلّف
أحمدك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأُصلّي وأُسلّم على رسولك وآله الأكرمين.
وبعد:
فإنه سألني بعض آل الرسول صلّى اللّه عليه وآله الجامعين بين فضيلة العلم والشرف من سكان المدينة المعمورة بالعلوم، مدينة زبيد(1) عن إنكار عائشة أم المؤمنين زوجة النبي صلّى اللّه عليه وآله لصدور الوصيّة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لما ذكروا عندها أنّ أمير المؤمنين علياً عليه السلام كان وصياً لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وهذا ثابت من قولها في الصحيحين، والنسائي من طريق الأسود بن يزيد بلفظ: متى أوصى إليه؟ وقد كنت مسندته إلى صدري فدعا بالطست، فلقد انخنث في حجري وما شعرت أنّه مات، فمتى أوصى إليه؟. وفي رواية عنها أنّها أنكرت الوصية مطلقاً ولم تقيد بكونها إلى علي عليه السلام فقالت: ومتى أوصى، وقد مات بين سحري ونحري(2) ولنقدم قبل الشروع في الجواب مقدمة ينتفعُ بها السائل.
فنقول: ينبغي أنْ يعلم أولا: إنّ قول الصحابي ليس بحجة، وأن المثبت أولى من النافي(3)، وأنّ مَنْ علم حجة على مَنْ لم يعلم، وأنّ الموقوف لا يعارض المرفوع على فرض حجيته.
وهذه الأمور قد قررت في الأصول. ونيطت بأدلة تقصر عن نقضها أيدي الفحول. وان تبالغت في الطول.
ويعلم ثانياً: أنّ أمَّ المومنين كانت تسارع إلى ردّ ما خالف اجتهادها، وتبالغ في الإنكار على راويه، كما يقع مثل ذلك لكثير من المجتهدين.
وتتمسك تارة بعموم لا يعارض ذلك المروي، كتغليطها لعمر لما روى مخاطبته صلّى اللّه عليه وآله لأهل قليب بدر، وقوله عند ذلك: يا رسول اللّه، إنما تخاطب أمواتاً، فقال له: «ما أنتم بأسمع منهم» فردّت هذه الرواية عائشة بعد موت عمر، وتمسكت بقوله تعالى: (وَما أَنْتَ بِمُسْمِع مَنْ فِي الْقُبُورِ)(4). وهذا التمسك غير صالح لرد هذه الرواية من مثل هذا الصحابي، وغاية ما فيه بعد تسليم صدقه على أهل القليب أنه عام وحديث إسماعهم خاص، والخاص مقدم على العام، وتخصيص عمومات القرآن بما صح من آحاد السنة هو مذهب الجمهور(5).
وتارة تتمسك بما تحفظه، كقولها لما بلغها رواية عمر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بلفظ: «إنّ الميت ليعذب ببكاء أهله» فقالت: يرحم اللّه عمر، ما حدّث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أنّ الميت ليعذب ببكاء أهله ولكن قال: «إنّ اللّه ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه». ثم قالت: حسبكم القرآن: (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أخرجه الشيخان والنسائي. وفي رواية أنه ذكر لها أنّ ابن عمر يقول: إنّ الميت ليعذب ببكاء أهله عليه، فقالت: يغفر اللّه لأبي عبدالرحمن، أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو خطأ، إنما مرَّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على يهودية يُبكى عليها. فقال: «إنها ليبكى عليها وإنها لتعذب في قبرها». أخرجها الشيخان ومالك والترمذي والنسائي(6)، وقد ثبت هذا الصحيح في صحيح البخاري وغيره من طريق المغيرة بلفظ: «مَنْ ينح عليه يعذب بما نيح عليه»(7).
فهذا الحديث قد ثبت عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من طريق ثلاثة من الصحابة، ثم إنّ عائشة ردّتْ ذلك متمسكة بما تحفظه وبعموم القرآن.
وأنت تعلم أنّ الزيادة مقبولة بالإجماع إنْ وقعت غير منافية، والزيادة هنا في رواية عمر وابنه والمغيرة; لأنها متناولة بعمومها للميت من المسلمين، ولم تجعل عائشة روايتها مخصصة للعموم، أو مقيدة للإطلاق حتى يكون قولها مقبولا من وجه، بل صرحت بخطأ الراوي أو نسيانه، وجزمت بأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لم يقل ذلك. وأما تمسكها بقول اللّه تعالى: (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) فهو لا يعارض الحديث; لأنه عام والحديث خاص.
ولهذه الواقعات نظائر بينها وبين جماعة من الصحابة كأبي سعيد، وابن عباس وغيرهما ومن جملتها الواقعة المسؤول عنها أعني إنكارها الوصية منه صلّى اللّه عليه وآله إلى علي عليه السلام وقد وافقها في عدم وقوع مطلقها منه صلّى اللّه عليه وآله غير مقيّد بكونها إلى علي عليه السلام ابن أبي أوفى، فأخرج عنه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، من طريق طلحة بن مصرف قال: سألت ابن أبي أوفى هل أوصى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله؟ قال: لا، قلت: فكيف كُتِبَ على الناس الوصية وأمر بها، ولم يوصِ. قال: أوصى بكتاب اللّه تعالى(8).
وأنت تعلم أنّ قوله: أوصى بكتاب اللّه تعالى لا يتم معه قوله: لا في أول الحديث; لأنّ صدق اسم الوصية لا يعتبر فيه أن يكون بأمور متعددة حتى يمتنع صدقه على الأمر الواحد لا لغةً ولا شرعاً ولا عرفاً; للقطع بأنّ مَنْ أوصى بأمر واحد يقال له: موصي لغةً وشرعاً وعرفاً، فلابدّ من تأويل قوله: لا، وإلاّ لم يصح قوله: أوصى بكتاب اللّه تعالى، وقد تأوّله بعضهم بأنّه أراد أنه لم يوص بالثلث كما فعله غيره، وهو تأويل حسن، لسلامة كلامه معه من التناقض(9).
إذا عرفت هذه المقدمة. فالجواب على أصل السؤال ينحصر في بحثين:
البحث الأول: في إثبات مطلق الوصية منه صلّى اللّه عليه وآله.
والبحث الثاني: في إثبات مقيّدها، أعني كونها إلى علي عليه السلام.
(1) زبيد بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة التحتانية بعدها ياء مثناة تحتانية ثم دال مهملة: مدينة مشهورة على طريق الحديدة وتعز باليمن، تبعد عن الحديدة جنوباً بقدر مائة كيلو متراً أو أكثر بقليل، وهي كانت مشهورة من قبل بمدينة العلم والعلماء.
(2) الحديث أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 356) وأخرجه أيضاً البخاري (فتح الباري 8 / 148)، ومسلم 3 / 1257، والترمذي في الشمائل، والنسائي 1 / 32 و 6 / 241 وأحمد 1 / 399، 270 و 274.
(3) أي مقدم عليه.
(4) سورة فاطر: الآية 22 (وَما أَنْتَ بِمُسْمِع مَنْ فِي الْقُبُورِ) وما نافية والباء صلة.
(5) قصة أصحاب القليب وقوله صلّى اللّه عليه وآله: «وما أنت بأسمع منهم» في صحيح البخاري (فتح الباري 7 / 301).
(6) الحديث أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 151 ـ 152) في قصة طويلة وفيها إنكار عائشة على عمر بعد أن مات أو تغليظها له بقولها: رحم اللّه عمر، واللّه ما حدث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله «إن اللّه ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه.
(7) الحديث أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 160) فقال: باب ما يكره من النياحة على الميت، وقال عمر دعهن يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة ـ والنقع ـ التراب على الرأس ـ واللقلقة الصوت. وساقه بسنده إلى المغيرة قال: سمعت النبي صلّى اللّه عليه وآله يقول: «إن كذباً عليّ ليس ككذب على أحد، من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار».
(8) الحديث أخرجه البخارى (فتح الباري 5 / 356، 8 / 148، 9 / 67)، ومسلم 3 / 1256.
(9) أنظر: فتح الباري: 5 / 360.