نقول:
بعد الإطّلاع على هذه الأمور التي لها الإرتباط الوثيق بالموضوع، نوضّح صحّة الأحاديث المستدل بها في كتاب (العقد الثمين)، واحداً واحداً، وباللّه نستعين:
الحديثان الأوّل والثاني
روى الشوكاني عن أحمد في المناقب، وكذا روى غير واحد عنه كالحافظ أبي العباس محبّ الدين الطّبري، وقد جاء في الكتاب المذكور ما نصّه:
«حدّثنا هيثم بن خلف، قال: حدّثنا محمد بن أبي عمر الدوري قال: حدثنا شاذان، قال: حدثنا جعفر بن زياد، عن مطر، عن أنس ـ يعني ابن مالك ـ قال: قلنا لسلمان: سلْ النبي صلّى اللّه عليه وآله مَن وصيّه، فقال له سلمان: يا رسول اللّه، مَنْ وصيّك؟ قال: يا سلمان مَنْ كان وصي موسى؟ قال: يوشع بن نون. قال: فإنّ وصيي ووارثي يقضي ديني وينجز موعدي علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه»(1).
أقول
هذا الحديث من زيادات (القطيعي)، وهو: «الشيخ العالم المحدّث، مسند الوقت، أبو بكر، أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك بن شبيب البغدادي… وقال السُّلمي: سألت الدارقطني عنه: فقال: ثقةٌ زاهد قديم، سمعتُ أنّه مجابُ الدّعوة. وقال البرقاني: كان صالحاً وثبت عندي أنّه صدوق»(2).
و(هيثم بن خلف) هو:
هيثم بن خلف بن محمد بن عبدالرحمان بن مجاهد، المتوفى 307، المتقِنُ الثّقة، أبو محمد الدوري البغدادي، وكان من أوعية العِلم، ومن أهل التحرّي والضّبط. هكذا ذكره الذهبي(3).
علماً أنّ الهيثم بن خلف هو من مشايخ أبي علي النيسابوري الذي ترجم له الذهبي قائلا: أبو علي النَّيسابوري الحافظ الإمام العلامة الثّبت، أبو علي، الحسين بن علي بن يزيد بن داود النّيسابوري. أحدّ النقاد. إلى أنْ قال: قال الحاكم: كان أبو علي باقعةً ـ أي داهيةً ـ في الحفظ، لا تُطاق مذاكرتُه، ولا يفي بمذاكرته أحد من حفّاظنا.
وقال: قال الحافظ أبو بكر بن أبي دارم، ما رأيتُ ابن عُقدة لا يتواضع لأحد من الحفاظ كما يتواضع لأبي علي النيسابوري.
وقال: قال أبو عبدالرحمان السُّلمي: سألت الدّارقطني عن أبي علي النّيسابوري، فقال: إمامٌ مهذَّب.
وقال الخليلي: قال ابنُ المقرىء الأصبهاني، إنّي لأدعو له في أدبار الصّلوات، كنتُ أتّبعه في شيوخ مصر والشام. وقال: قال عبدالرحمان ابن مندة: سمعتُ أبي يقول: ما رأيتُ في اختلاف الحديث والإتقان أحفظ من أبي علي النيسابوري(4).
و(الدوري) هو أبو بكر محمد بن حفص الدوري، سمع الأسود بن عامر شاذان، وأحمد بن إسحاق الحضرمي ومحمد بن مصعب القرقساني، وأبا نعيم الفضل بن دكين، وحجاج بن محمد، والحكم بن موسى، وأبا عبيدة القاسم بن سلام. وروى عنه عبداللّه بن إسحاق المدائني، وحاجب بن أوكين الفرغاني، ومحمد بن مخلد الدوري، وسماه حاجب بن أركين أحمد، ومات سنة 259(5).
و(شاذان) هو الأسود بن عامر شاذان، أبو عبدالرحمان الشامي نزيل بغداد، ذكره المزي وابن حجر العسقلاني وأوردا توثيقات الأكابر له(6)، وقال ابن حجر في تقريب التهذيب: ثقةٌ من التاسعة، مات في أوّل سنة 208، ووضع علامة الصحاح الستة(7).
و(جعفر بن زياد) لم يتكلّم فيه إلاّ من جهة التشيّع، والتشيّع غير مضرّ كما نصَّ عليه الحافظ ابن حجر، وقد تقدَّم كلامه، ولذا قال بترجمة هذا الرّجل: «صدوقٌ يتشيّع»(8).
و(مطر) هو مطر بن أبي ميمون الإسكاف المحاربي، هكذا ترجمه الحافظ ابن عدي، وروى الحديث بإسناده عن عبيداللّه بن موسى عن مطر عن أنس، ثم قال عن مطر: «هو إلى الضعف أقرب منه إلى الصّدق»(9).
فإنْ صحّ هذا الكلام، فغايته أن يكون الحديث ضعيفاً لا موضوعاً، لكنّ ابن الجوزي قد أدرجه في الموضوعات ـ وتبعه ابن تيمية وأضاف أنّه موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث(10) وهذا تعصّب بيّن.
قال ابن الجوزي بعد أنْ أورده: «ففيه: مطر بن ميمون. قال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو الفتح الأزدي: متروك الحديث. وفيه جعفر، وقد تكلّموا فيه»(11).
وكلامه مردود. أمّا «جعفر بن زياد» فقد عرفته. وأمّا «مطر» فكلام الأزدي فيه غير مسموع لضعفه هو كما تقدّم، وكذا كلام البخاري فإنه تعصّب كما سيتّضح.
وقد روى الحافظ ابن عساكر هذا الحديث بإسناده فقال: «قرأت على أبي محمد بن حمزة عن أبي بكر الخطيب، أنا الحسن بن أبي بكر، أنا أبو سهل أحمد بن محمد بن عبداللّه القطّان، حدثنا الحسن بن العبّاس الرازي، حدثنا القاسم بن خليفة أبو محمد، حدثنا أبو يحيى التيمي إسماعيل بن إبراهيم عن مطير أبي خالد، عن أنس بن مالك قال:
كنا إذا أردنا أن نسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أمرنا علي بن أبي طالب، أو سلمان الفارسي، أو ثابت بن معاذ الأنصاري; لأنهم كانوا أجرأ أصحابه على سؤاله، فلما نزلت: (إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ)(12)وعلمنا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله نُعيت إليه نفسه، قلنا لسلمان: سَلْ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من نسند إليه أمورنا، ويكون مفزعنا، ومن أحبّ الناس إليه؟ فلقيه، فسأله فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، فخشي سلمان أن يكون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قد مقته ووجد عليه، فلما كان بعد لقيه، قال: «يا سلمان، يا أبا عبداللّه، ألا أحدّثك عمّا كنت سألتني؟ فقال: يا رسول اللّه، إنّي خشيت أن تكون قد مقتّني ووجدتَ عليّ، قال: كلاّ يا سلمان، إنّ أخي ووزيري وخليفتي في أهل بيتي، وخير من تركتُ بعدي، يقضي ديني، وينجز موعدي علي بن أبي طالب».
قال الخطيب: مطير هذا مجهول.
أخبرنا أبو القاسم بن السَّمرقندي، نا أبو القاسم بن مسعدة، نا حمزة بن يوسف، نا أبو أحمد بن عدي، نا ابن أبي سفيان، نا علي بن سهل، نا عبيداللّه بن موسى، نا مطر الإسكاف، عن أنس قال:
قال النبي صلّى اللّه عليه وآله علي أخي، وصاحبي، وابن عمي، وخيرُ من أترك بعدي، يقضي دَيني، ينجز موعدي.
قال: قلت له: أين لقيت أنساً؟ قال: بالخريبة.
أخبرنا أبو القاسم الشّحّامي وأبو المظفّر القشيري، قالا: أنا أبو سعد الأديب، أنا أبو سعيد الكرابيسي، أنا أبو لبيد السامي، نا سويد بن سعيد، نا عمرو بن ثابت، عن مطير، عن أنس قال:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: إنّ خليلي ووزيري وخيرُ من أخلف بعدي يقضي دَيني وينجز موعودي علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه.
أخبرنا أبو عبداللّه محمّد بن الفضل وأبو محمّد هبة اللّه بن سهل، وأبو القاسم زاهر بن طاهر قالوا: أنا أبو سعد الجنْزرودي، أنا عبداللّه بن محمّد بن عبدالوهاب الرازي، نا يوسف بن عاصم الرازي، نا سويد بن سعيد، نا عمرو بن ثابت، عن مطر، عن أنس قال:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: إنّ خليلي ووزيري وخليفتي في أهلي وخير مَنْ أترك بعدي وينجز موعدي ويقضي دَيني علي بن أبي طالب(13).
فهذه عدّة من أسانيد الحديث، وقد عرفت أنّه من الأحاديث التي اتّفق المخالف والموافق على روايتها في فضل أمير المؤمنين وكماله، ممّا لم ينقل مثله ولا الأقلُّ منه في حقّ غيره من الصحابة.
ولمّا تصحّف اسم الراوي من «مطر» إلى «مطير» قالوا: مجهول.
ولكنّه لمّا رواه عن «مطر» كما هو الصحيح، لم يتكلّم فيه ابن عساكر، ولايخفى عدم وجود «جعفر بن زياد» في السند.
وقد أخرجه الحافظ الطبراني بإسناد آخر فقال: «حدّثنا محمد بن عبداللّه الحضرمي، حدثنا إبراهيم بن الحسن الثعلبي، حدثنا يحيى بن يعلى، عن ناصح بن عبداللّه، عن سماك بن حرب، عن أبي سعيد الخدري، عن سلمان قال:
قلت: يا رسول اللّه، لكلّ نبيّ وصي، فمَنْ وصيّك؟ فسكت عنّي. فلمّا كان بعد رآني فقال: يا سلمان! فأسرعت إليه قلت: لبيّك. قال: تعلم مَنْ وصيّ موسى؟ قلت: نعم، يوشع بن نون، قال: لِمَ؟ قلت: لأنه كان أعلمهم. قال: فإنّ وصيي وموضع سرّي وخير مَنْ أترك بعدي، ينجز عدتي ويقضي ديني: علي بن ابي طالب»(14).
وهذا السند ليس فيه «جعفر» ولا «مطر»، وظاهر الحافظ الطبراني قبوله سنداً ـ كما اعترف ابن كثير وسيأتي كلامه ـ فاضطرّ إلى أن يذكر تأويلاً لمعناه، فقال بعده ما نصّه: «قوله: وصيي. يعني: أوصاه في أهله لا بالخلافة. وقوله: خير من أترك بعدي، يعني: من أهل بيته».
لكنّه تمحّل واضحٌ، وتكلّف بيّن، بل المراد هو الخلافة من بعده، وهذا المعنى هو محلّ الحاجة للصّحابة إذ طلبوا من سلمان أن يسأل عنه النبي صلّى اللّه عليه وآله، وإلى ما ذكرنا أشار ابن كثير إذ قال: «وفي تأويل الطبراني يبدو صّحة الحديث ـ وإن كان غير صحيح ـ نظر واللّه أعلم»(15).
إلا أنّ ابن كثير لم يذكر وجه الضّعف، حتّى رجعنا إلى الحافظ الهيثمي فوجدناه يقول: «وفي إسناده ناصح بن عبداللّه، وهو متروك»(16).
لكنّه قول مردود:
أوّلا: الرجل ممّن أخرج عنه الترمذي وابن ماجة(17).
وثانياً: هو من مشايخ جمع من أئمّة القوم كأبي حنيفة وهو من أقرانه(18).
وثالثاً: قد وثّقه أو مدحه غير واحد من الأكابر:
«قال ابن حبان: كان شيخاً صالحاً غلب عليه الصّلاح، فكان يأتي بالشيء على التوهّم، فلمّا فحش ذلك منه استحقّ الترك.
وقال أحمد بن حازم بن أبي غرزة، سمعت عبيداللّه بن موسى، وأبا نعيم يقولان جميعاً عن الحسن بن صالح قال: ناصح بن عبداللّه المحلّمي نعم الرجل»(19).
ورابعاً: قال ابن عدي ـ بعد أن أورد أحاديث له ـ «وهو في جملة متشيّعي أهل الكوفة، وهو ممّن يُكتب حديثه»(20).
وخامساً: إنّ السّبب في تضعيف من ضعّفه هو نقله لأحاديث الفضائل والمناقب بكثرة، وإليه أشار أبو حاتم(21) وابن عدي، بل بهذا السبّب قيل: «وكان يذهب إلى الرّفض»(22)، وإليك عبارة الذهبي: «قلت: كان من العابدين. ذكره الحسن بن صالح فقال: رجل صالح، نعم الرّجل» ثم روى ما يلي:
«إسماعيل بن أبان، حدثنا ناصح أبو عبداللّه عن سماك عن جابر قالوا: يا رسول اللّه، مَنْ يحمل رايتك يوم القيامة؟ قال: من عسى أن يحملها إلاّ مَنْ حملها في الدنيا. يعني علياً.
يحيى بن يعلى المحاربي، عن ناصح بن عبداللّه، عن سماك بن حرب، عن أبي سعيد الخدري عن سلمان قال قلت: يا رسول اللّه… هذا خبر منكر»(23).
فظهر، أنّ السبب الأصلي للقدح في الرجل نقل مثل هذه الروايات، فإنّ القوم لا يطيقون سماعها ولا يتحمّلون الرّاوي لها!.
وتلخّص:
إنّ القول بوضع هذا الحديث باطلٌ، والقائل به هو ابن الجوزي المعروف بالتسرّع كما تقدّم، ولذا تعقّبه الحافظ السيوطي(24).
وأمّا دعوى اتّفاق العلماء على وضعه، فكسائر دعاوى ابن تيميّة الباطلة الصادرة عن التعصّب والعناد.
بل الحديث معتبرٌ، وله أسانيد عدّة في كتب الحفّاظ، والإستدلال به صحيح على القواعد العلميّة المتّبعة.
(1) ذخائر العقبى: 70.
(2) سير أعلام النبلاء: 16 / 210، رقم 143.
(3) سير أعلام النبلاء 14 / 261، رقم 168.
(4) المصدر 16 / 51، رقم 38.
(5) الأنساب للحافظ السمعاني 2 / 565، رقم 4029.
(6) تهذيب الكمال 3 / 226 رقم 503، تهذيب التهذيب 1 / 297.
(7) تقريب التهذيب 1 / 76.
(8) المصدر 1 / 130.
(9) الكامل في الضعفاء 8 / 136.
(10) منهاج السنّة 5 / 23.
(11) الموضوعات 1 / 375.
(12) سورة النصر: الآية 1.
(13) تاريخ مدينة دمشق 42 / 56 ـ 57.
(14) المعجم الكبير 6 / 221، رقم 6063.
(15) جامع المسانيد والسنن 5 / 383، برقم 3633.
(16) مجمع الزوائد 9 / 113 ـ 114.
(17) تهذيب الكمال 29 / 261.
(18) المصدر.
(19) تهذيب الكمال 29 / 261.
(20) الكامل وعنه المزي في تهذيب الكمال 29 / 261.
(21) الجرح والتعديل 8 / ، برقم 2303.
(22) الضعفاء الكبير للعقيلي 4 / 311.
(23) ميزان الاعتدال 4 / 240.
(24) اللآلئ المصنوعة 1 / 358 ـ 359.