المبحث الأول
في إثبات مطلق الوصية منه صلّى اللّه عليه وآله
أما البحث الأول:
فأخرج مسلم من حديث ابن عباس أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أوصى بثلاث: أن يجيزوا الوفد بنحو ما كان يجيزهم. الحديث(1).
وفي حديث أنس عند النسائي وأحمد، وابن سعد واللفظ له: كانت غاية وصية رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله حين حضره الموت: «الصلاة وما ملكت أيمانكم»(1). وله شاهد من حديث علي عند أبي داود وابن ماجة زاد: «أدّوا الزكاة بعد الصلاة».
وأخرجه أحمد(2) وأخرج سيف بن عمر في الفتوح من طريق ابن أبي مليكة، عن عائشة أنّ النبي صلّى اللّه عليه وآله حذّر من الفتن في مرض موته، وأمر بلزوم الجماعة والطاعة.
وأخرج الواقدي من مرسل العلاء بن عبدالرحمن أنه صلّى اللّه عليه وآله أوصى فاطمة: «قولي إذا متّ إنا للّه وإنا إليه راجعون».
وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث عبدالرحمن بن عوف قالوا: يا رسول اللّه أوصنا ـ يعني في مرض موته ـ قال: «أوصيكم بالسابقين الأولين من المهاجرين وأبنائهم من بعدهم»(3). وقال: لا يروى عن عبدالرحمن إلاّ بهذا الإسناد، تفرّد به عتيق بن يعقوب وفيه مَن لا يعرف حاله.
وفي سنن ابن ماجة من حديث علي قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: «إذا أنا متُّ فاغسلوني بسبع قرب من بئر أريس»(4). وكانت بقباء.
وفي مسند البزار، ومستدرك الحاكم بسند ضعيف أنه صلّى اللّه عليه وآله أوصى أن يصلي عليه أرسالا بغير إمام.
وأخرج أحمد، وابن سعد أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله سأل عائشة عن الذهيبة في مرض موته فقال: «ما فعلت الذهيبة؟» قالت: هي عندي. قال: «أنفقيها».
وأخرج ابن سعد من وجه آخر أنه قال: «ابعثي بها إلى علي ليتصدق بها»(5).
وفي المغازي لابن إسحاق قال: لم يوص رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عند موته إلاّ بثلاث: لكلّ من الداريين والرَّهاويين والأشعريين بخادم ومائة وسق من خيبر وأن لا يترك في جزيرة العرب دينان وأن ينفذ بعث أسامة(6).
وقد سبق في حديث ابن أبي أوفى أنه صلّى اللّه عليه وآله أوصى بالقرآن.
وثبت في الأمهات وغيرها أنه صلّى اللّه عليه وآله قال: «استوصوا بالأنصار خيراً، استوصوا بالنساء خيراً، أخرجوا اليهود من جزيرة العرب».
ونحو هذه الأمور التي كلّ واحد منها لو انفرد لم يصح أنْ يقال أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لم يوصِ.
وثبت في الصحيح من حديث أبي موسى أوصاني خليلي بثلاث(7).
ولعل مَنْ أنكر ذلك أراد أنه صلّى اللّه عليه وآله لم يوص على الوجه الذي يقع من غيره من تحرير أمور في مكتوب، كما أرشد إلى ذلك بقوله: «ما حق أمرىء مسلم له شيء يريد أنْ يُوصي فيه يبيت ليلتين إلاّ ووصيته مكتوبة عنده». أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر(8)، ولم يلتفت إلى أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قد نجز أموره قبل دنو الموت، وكيف يظن برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أن يترك الحالة الفضلى؟. أعني تقديم التنجيز قبل هجوم الموت وبلوغها الحلقوم، وقد أرشد إلى ذلك، وكرّر وحذّر وهو أجدر الناس بالأخذ بما ندب إليه. وبرهان ذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قد كان سبّلَّ أرضه. ذكره النووي، وأما السّلاح والبغلة والأثاث وسائر المنقولات، فقد أخبر أنّها صدقة كما ثبت عنه في الصحيح. وقال في الذهيبة التي لم يترك سواها ما قال كما سلف.
إذا عرفت هذا، علمت أنّه لم يبقَ من أمور رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عند موته يكون عصمة لها عن الضلالة وجنة تدرأ عنها ما تسبب من المصائب الناشبة عن اختلاف الأقوال فلم يجب إلى ذلك وحيل بينه وبين ما هنالك، ولهذا قال الحبر ابن عباس: الرزية كلّ الرزية، ما حال بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وبين كتابه. كما ثبت ذلك عنه في الصحيح البخاري وغيره(9).
فإن قلتَ: لا شك أنّ في هذه الأدلة التي سقتها كفاية وأنّ المطلوب يثبت بدون هذا، وإن عدم علم عائشة بالوصية لا يستلزم عدمها، ونفيها لا ينافي الوقوع، وغاية ما في كلامها الإخبار بعدم علمها، وقد علم غيرها، ومَنْ علم حجة على مَنْ لم يعلم، أو نفي الوصية حال الموت لا يلزم من نفيها في الوقت الخاص نفيها في كل وقت، إلاّ أنّ ثمة إشكالا وهو ما ثبت أنه صلّى اللّه عليه وآله مات وعليه دين ليهودي آصع من شعير(10)، فكيف ولم يوصِ به كما أوصى بسائر تركته.
قلت: قد كان صلّى اللّه عليه وآله رهن عند اليهودي في تلك الآصع درعه، والرهن حجة لليهودي كافية في ثبوت الدين، وقبول قوله لا يحتاج معه إلى الوصية. كما قال تعالى في آية الدين: (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِبًا فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ)(11)، على أنّ علم ذلك لم يكن مختصاً به بل قد شاركه فيه بعض الصحابة، ولهذا أخبرت به عائشة، وليس المطلوب من الوصية للشارع إلاّ التعريف بما على الميت من حقوق اللّه، وحقوق الآدميين وقد حصل ههنا.
(1) الحديث أخرجه أحمد 3 / 117، والنسائي في الكبرى 4 / 258 في كتاب الوفاة، وابن ماجة 2 / 900 ـ 901. وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه: إسناده حسن. أ.هـ. وأخرجه أيضاً ابن سعد 2 / 253، وابن حبان 8 / 205، والحاكم 3 / 57، والخطيب البغدادي 4 / 239 ـ 240 في كتابه تاريخ بغداد كل هؤلاء من طريق سليمان التيمي.
(2) حديث علي عليه السلام لفظه: «كان آخر كلام النبي صلّى اللّه عليه وآله: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» الذي اعتبره المصنف شاهداً.
(3) الحديث أخرجه البزار 3 / 292. فقال: ثنا بشر ابن خالد العسكري ثنا جعفر بن عون عن حميد بن القاسم بن حميد بن عبدالرحمن بن عوف عن أبيه عن جده عن عبدالرحمن بن عوف قال: لما حضر النبي صلّى اللّه عليه وآله الوفاة. قالوا: يا رسول اللّه أوصنا. قال: «أوصيكم بالسابقين الأولين وبأبناءهم من بعدهم، وبأبناءهم من بعدهم، وبأبناءهم من بعدهم إلا تفعلوا لا يقبل منكم صرف ولا عدل» قال البزار: لم يروه إلا عبدالرحمن بن عوف ولا له إلا هذا الإسناد، ولم نسمعه إلا من بشر. قلت: وفيه من لا يعرف حاله كما قال المصنف نقلا عن الحافظ في الفتح 5 / 363. والحديث أيضاً في معجم المعجمين رقم 3966، والهيثمي في المجمع 10 / 17 قال: رواه الطبراني في الأوسط والبزار ورجالهما ثقات.
(4) الحديث: «إذا أنا مت فاغسلوني… الخ»; أخرجه ابن ماجة 1 / 471.
(5) الحديث أخرجه أحمد 6 / 49، 182 وابن سعد 2 / 238 وفي موارد الظمآن حديث 2142 وزيادة: «ابعثي بها إلى علي ليتصدق بها» أخرجها ابن سعد 2 / 239. والحديث صحيح بمجموع طرقه، وأما الزيادة فهذا سندها. قال ابن سعد 2 / 239 أخبرنا سعيد بن منصور أخبرنا يعقوب بن عبدالرحمن عن أبي حازم عن سهل بن سعد… .
فذكره وهذا إسناد صحيح رجاله رجال الصحيح، وكلهم ثقات. أنظر: مجمع الزوائد 3 / 124، والترغيب والترهيب للمنذري رقم 1357.
(6) الحديث قال ابن إسحاق في المغازي 3 / 489، ثنا صالح بن كيسان عن الزهري عن عبيداللّه بن عبداللّه ابن عتبة.
(7) أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 56، 4 / 226)، ومسلم 1 / 499 عن أبي هريرة، ومسلم 1 / 499 عن أبى الدرداء.
(8) الحديث أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 355)، عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال: «ما حق امريء مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلاّ ووصيته مكتوبة عنده» تابعه محمد بن مسلم عن عمرو عن ابن عمر عن النبي صلّى اللّه عليه وآله وأخرجه مسلم 3 / 1249، 1250.
(9) الحديث أخرجه البخاري 1 / 208، 2 / 270، 8 / 132، 10 / 126، 13 / 336، فتح، ومسلم 3 / 1259، وأحمد 1 / 324 ـ 325، 336، عن ابن عباس قال: لما اشتد بالنبي صلّى اللّه عليه وآله وجعه قال: «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده» قال عمر: إنّ النبي صلّى اللّه عليه وآله غلبه الوجع وعندنا كتاب اللّه حسبنا. فاختلفوا وكثر اللغط. قال: قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع» فخرج ابن عباس يقول: إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وبين كتابه.
(10) حديث: «رهن الدرع…» جاء عن عائشة وابن عباس وأنس وأسماء بنت يزيد، أما عن عائشة فأخرجه البخاري 4 / 302،5 / 142، 6 / 99، 8 / 151، فتح، وأحمد 6 / 237، والنسائي 7 / 288، 303، وابن ماجة 2 / 815، وعن أنس أخرجه البخاري أيضاً 4 / 302، 5 / 140، فتح، والترمذي 3 / 519 ـ 520، والنسائي 7 / 288، وابن ماجة 2 / 815 .
(11) سورة البقرة: الآية 283.