فصل
وسبب وضع هذا الكتاب: إن بعض طلبة الحديث سألني: هل في الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صلّى خلف أبي بكر؟ فقلت: ليس هذا في الصحيح، وإنما قد روي من طرق لا تثبت وقد تأوّلت، وقد صلّى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خلف عبدالرحمن بن عوف، وأبو بكر أفضل منه، ولم يخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلاّ بنيّة الصّلاة خلف أبي بكر، غير أن أبا بكر تأخر ولم يثبت.
فبلغ هذا إلى شيخ يقرأ الحديث، فنفر من هذا، وكان قد رأى بعض المحدّثين قد سئل عن هذا، فذكر في الجواب أنه صلّى خلف أبي بكر، واستدلّ بحديث قد روي في المسند، وفي كتاب الترمذي(1) وفي كتاب أبي داود(2) عن عائشة: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صلّى خلف أبي بكر، فأخذ هذا الشيخ قول الشيخ الأول، وكتبه في جزء وزاد فيه ما يتكلم به الغوغاء، فقال: لو جرى هذا القول في غير دار السّلام لوجب انكاره، إذ لا يؤمن أن يجعل هذا سلّماً لأهل البدع.
فنظرت في ذلك الجزء، فرأيت الحديث من الكتب الثلاثة يدور على مسابة بن سواد(3). فقلت: هذا مداره على شبابة بن سوار، وقد أنكره أحمد بن حنبل عليه.
فغيّر هذا الشيخ ذلك التصنيف، وصنف جزءاً آخر ذكر فيه حديث شبابة، وقد أخرجه من طرق ليس فيها شبابة.
فقلت: إنما تكلّمت على ما رأيت، ولم يكن في الكتاب الأول غير حديث شبابة، وما أنكر أنه قد روي من غير طريقه، ولكن ليس في الطرق ما يثبت، ثم تأمّلت تصنيفه الثاني، فإذا به كلام من تعلّق بعلم الحديث ولم يفهم فقهه، وقد خلطه بتقليد أقوام من المحدّثين ليسوا بمحكمي الصناعة في علوم الحديث، ولا عارفين بأصول الفقه، بل مالوا في ذلك ميل العوام الذين يرون أن جحد ذلك ينقص مرتبة أبي بكر، ثم أضاف إلى ذلك كلمات عامية لا تصدر عن العلماء، قال فيها: لا يجحد ذلك إلا معاند يتعرض لهدم فضيلة أبي بكر، وقال: العجب ممن يردّ هذه الأحاديث ويزعم أنه من المغالين في السنّة، وليس له من تقدّمه في ذلك، بل مجرد قوله دفعاً وعناداً وانفراداً بمقالته هذه، وينقم على من لم يتابعه على هواه وحاله التي قد انفرد بها دون من تقدم وتأخر من العلماء والرواة.
فعجبت من هذا الشيخ، كيف نسبني إلى العناد، وإنما يعاند من عرف الحق وتركه، وإنما يميل إلى الهوى في هذا الروافض، فقلت لجماعة: لو اكتفى بي لتذاكرنا في هذا، فإن كان الحق معه ملت إليه، فعلم أنه لا يقوم لمناظرتي فلم يفعل، وأخذ يقرأ ما جمعه على من ليس بمحدّث، وجعل يشنع علي بأني أميل إلى الهوى وإني معاند، فقلت:
فدونك إذ ترمي الظباء سوانحاً تلق مراميها فمن يرم يتقّي(4).
فقال لي قائل: إصفح عنه، فقلت: جنايته على الشريعة برد الأحاديث الصحيحة بأحاديث لا تصح، ومخالفته لمذاهب الفقهاء أجمعين، فما انتصاري لنفسي، ثم إن البادىء أظلم.
ولقد سئلت عن إجابته مدة طويلة إلى أن رأيته يسمعه الناس ويكتب السماع، فيظن من لا يفهم أنه مصيب في ذلك، وبعد إشاعته عني أني أميل إلى الهوى لا يبقى وجه لترك الجواب، وقد قال الله عزوجلّ: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبيل)(5) وكان أبو عزة(6) كافراً يسبّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فظفر به، فقال: من علي يا محمّد، فأطلقه، فعاد يسبّه، فظفر به، فقال: من علي. فقال: لا تسمح، سيلتك بمكة وتقول: سخرت من محمّد مرتين. وقد قال الشاعر:
إذا قيل رفقاً قال للحلم موضع *** وحلم الفتى في غير موضعه جهل
وقوّى نشاطي لذلك: أني رأيت صبياناً من المبتدئين قد سمعوا ذلك منه فأورثهم شبهة، فرأيت بيان الصواب لازماً، لمن رزقه الله من العلم والفهم ما لم يرزق خلقاً كثيراً.
(1) هو أبو عيسى محمّد بن عيسى بن سورة الترمذي صاحب الصحيح، توفي سنة 279.
(2) هو: أبو داود سليمان بن الاشعث بن اسحاق السجستاني صاحب كتاب «السنن» توفي سنة 275.
(3) هكذا جاء هذا الاسم في مواضع من الكتاب وهو غلط، والصحيح شبابة بن سوار، وترجمته في تهذيب التهذيب 4 / 264 ـ 265.
(4) بيت شعر غير واضح، وقد كتبناه من كتاب (ذم الهوى) للمؤلّف. وهو في أبيات لعلي بن أفلح.
(5) سورة الشورى: 41.
(6) هو: عمرو بن عبدالله الجمحي الشاعر. انظر سيرة ابن هشام 1 / 660.