فصل
وقد ظن هذا الشيخ أن في جحد ذلك نقصاً لأبي بكر، وقد سبق أنا بيّنا أن هذا ليس بنقص، وشهد في تصنيفه علي بأني دفعت قوله عناداً، ومعلوم أنه يعاند من بانت له الحجة ثم أعرض عنها، وأنا تبع ما اتفق عليه، وهو روى ما قد زيّفناه، فمن المعاند؟!
وزعم في تصنيفه أني انفردت بهذه المقالة دون من تقدم وتأخر.
فكيف انفرد؟ ومعي عائشة، وابن عباس، وأبو حنيفة، ومالك، والشافعي، والبخاري، ومسلم، وأحمد بن حنبل لا يختلف مذهبه في أن أبا بكر لم يصلّ برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على ما سبق بيانه، ومعي من أصحابنا: القاضي أبو يعلى، وابنه أبو الحسين، وتكفيني هذه الجماعة، فأنت الفرد!!
وزعم هذا الشيخ أني أتبع الهوى في ذلك. ومن خالف الأحاديث الصحاح وإجماع الصحابة فهو أحق أن ينسب إلى اتباع الهوى.
وزعم أني قد جحدت بما قلته فضيلة أبي بكر. وإنما يجحد ما ثبت، فأما ما لا يصح فلا يقال جحده، وقد ذكرت أحاديث كثيرة في كتاب (الموضوعات) منها ما قد وضع في فضل أبي بكر، ومنها في حق علي، وبيّنت حال من وضعها، ولا يقال إن جحدها تنقيص لفضيلتهما.
مثل ما أخبرني به أبومنصور القزاز قال: اخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: اخبرنا الحسن بن الحسين النعالي قال: اخبرنا أحمد بن نصر الذراع قال حدثنا صدقة بن موسى وعبدالله بن حماد قالا حدثنا عبدالرزاق قال حدثنا معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: ان الله تعالى ادّخر لأبي بكر الصدّيق في أعلى عليين قبّة من ياقوتة بيضاء معلّقة بالقدرة يتخرقها رياح الرحمة، للقبّة أربعة آلاف باب، ينظر إلى الله عزوجل بلا حجاب(1).
وهذا حديث باطل، ما رواه سوى الذراع، وذكره عن رجلين مجهولين، وألصقه بأحمد بن حنبل، وما روى أحمد هذا قط، قال الدارقطني: الذراع كذاب دجال(2).
وليس لقائل أن يقول: كيف تردّ هذا فتجحد فضيلة أبي بكر؟ فأقول: لأبي بكر فضائل صحيحة مما لا يحتاج إلى المحال.
وقد أخبرنا ابراهيم بن دينار قال: أخبرنا أبوعلي بن نبهان(3) قال اخبرنا الحسن بن الحسين بن دوما قال: اخبرنا أحمد بن نصر الذراع قال اخبرنا صدقة بن موسى قال حدثنا سلمة بن شبيب قال: حدثنا عبدالرزاق قال: حدثنا معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن ابن عباس قال: قتل علي بن أبي طالب عمرو بن عبدود، ودخل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلما رآه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كبّر فكبّر المسلمون، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: اللّهم أعط علي بن أبي طالب فضيلة لم تعطها أحداً قبله ولا تعطيها أحداً بعده، فهبط جبرئيل عليه السّلام ومعه أترجه من الجنة فقال: إن الله عزوجلّ يقرأ عليك السلام ويقول ذلك: حي بهذه علي بن أبي طالب، فدفعها إليه، فانفلقت في يده فلقتين، فإذا فيها جريدة(4) بيضاء مكتوب فيها سطرين بصفرة: تحيّة من الطالب الغالب إلى علي بن أبي طالب.
وهذا مما وضعه الذراع أيضاً(5) ولا يقال لي بحجده أنك تنكر فضيلة علي بن ابي طالب عليه السّلام، لأن الفضائل إنما ثبتت بالنقل الصحيح. ولو قيل لنا: إن أبا بكر أو علي بن أبي طالب قد مضى إلى مكة في ليلة، أنكرنا ذلك، لا لأنهما لا يستحقان، لكن لكونه ما صح، وإلا فنحن نروي عن معروف(6) مثل هذا.
(1) الموضوعات 1 / 313 مع اختلاف يسير، وقال الخطيب 9 / 445: هذا الحديث باطل . . . والحمل فيه عندي على الذراع وانه مما وضعته يده والله أعلم.
(2) لسان الميزان 1 / 423.
(3) كذا والصحيح: تيهان.
(4) كذا والصحيح: حريرة.
(5) رواه الحافظان الكنجي والخوارزمي في كفاية الطالب 77 والمناقب 171، والذي يظهر أن سبب تضعيف «الذراع» هو روايته لأحاديث في فضل امير المؤمنين عليه السّلام، وأما الحديث السابق، فالمتهم في وضعه الرجلان المجهولان ـ أو أحدهما ـ في سنده.
(6) يريد معروف الكرخي.