آفة أصحاب الحديث
للامام الحافظ العلامة جمال الدين أبي الفرج ابن الجوزي
بسم الله الرحمن الرحيم
توكلت على الله
قال الشيخ الإمام العالم الأوحد، جمال الدين أبوالفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي القرشي قدس الله نوره ونور ضريحه:
الحمد لله الذي فاوت بين الأفهام والعقول، ورزقنا بفضله فهم المنقول والمعقول، فكم من شخص عليه وسم علم لا يدري ما يقول، أحمده على عرفان الفروع والاصول، وأصلّي على رسوله محمّد أشرف مرسول، صلاة تنيله غاية الأمل ونهاية السؤل، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى ظهور الهول المهول، وسلّم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فإن الله عزوجلّ لما أراد بقاء العلم لأنه الدليل عليه، جعل بين طباع الناس وأصناف العلم مناسبة جوهرية وعلاقة خفية، فينجذب كلّ طالب علم إلى ما يناسب جوهريته، ليتحفظ بجملتهم العلم، ومن صفى جوهره أخذ من كلّ علم صفوه، وجمع مهمّه، إذ العمر قصير والعلم كثير، ولم يقتصر على بعض العلوم دون بعض. وممن نال مرتبة الكمال الإمام أبو عبدالله أحمدبن حنبل(1)، فإنه قرأ القرآن بالقراءة المشهورة، ولم يتشاغل بالشواذ، وسمع الحديث الكثير، وأوغل في معرفة أصوله، حتى ميّز صحيحه من سقيمه، ثم أقبل على الفقه حتى صار مجتهداً ذا مذهب، ولو اقتصر على ما اقتصر عليه رفقاؤه كيحيى بن معين(2)، وعلي بن المديني(3)، لم ينل مرتبة مجتهد، فأما من كان جوهره ناقص الكمال فإنه يقف من العلم على ما يناسب جوهره.
وقد رأينا من يفني عمره في طلب القراءات الشواذ وحدها فيفوته المهم من معرفة الفقه، ومن يفني عمره في طلب غرائب الأحاديث وشواذها، ولا يمزج ذلك بمعرفة اصوله ولافقهها، ولا تمييز صحيحها من سقيمها، وتحمّل المشاق في الأسفار فإذا عرضت له حادثة سأل حدثاً من الفقهاء عنها، فرأى فضيحة شيخ في محلّه يروي لهم الحديث ولا يعرف هل هو صحيح أم لا!! فيسأل عن حادثة توجب سجود السّهو فلا يدري ما يقول!!.
ولقد بلغ جماعة من المحدّثين إفناء أعمارهم في طلب الطرف والشواذ من الحديث حتى فاتهم حفظ القرآن، وعلم ما فرض عليهم من فرائض الأعيان، وهؤلاء الذين طرقوا الذم على أصحاب الحديث حتى قال فيهم الشاعر:
زوامل للأسفار لا علم عندهم *** بجيّدها إلاّ كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا *** بأحماله أوراح ما في الغرائر(4)
فصل
فأما بيان أن اشتغالهم بشواذ الحديث شغلهم عن القرآن: فأخبرنا أبوالفضل محمّد بن ناصر قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: أخبرنا محمّد بن عبد الواحد الحريري قال: حدثنا الدارقطني(5) قال: حدثنا أحمد بن كامل قال: حدثني الحسين(6) الحباب المعري أن عبدالله بن عمر بن أبان سكدانة(7) قرأ عليهم في التفسير: «ويعوق وبشراً» فقيل له: «ونسراً» فقال: هي منقوطة من فوق، فقيل له: النقط غلط، قال: فارجع إلى الأصل.
قال الدارقطني: وحدثنا القاضي أبو بكر ابن كامل قال: حدثنا أحمد ابن علي الخلال قال سمعت أحمد بن عبيدالله المنادي يقول: كنا في دهليز عثمان بن أبي شيبة(8) فخرج إلينا فقال: (ن والقلم) في أي سورة هو؟
قال الدارقطني: وحدثنا أبو بكر ابن كامل قال: حدثنا محمّد بن جرير الطبري(9) قال قرأ علينا محمّد بن حميد الرازي: «وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك»(10).
أنبأنا أبو بكر محمّد بن الحسين المرزقي(11) قال: أخبرنا عبد الباقي ابن عمر الواعظ قال: أبو الحسين الأهوازي قال: حدثنا أبو أحمد العسكري قال: حدثنا أبو بكر ابن الأنباري(12) قال سمعت القاضي المقدمي عن إبراهيم بن(13) قال: قرأ علينا عثمان بن أبي شيبة «جعل السقاية في رجل أخيه» فقلت له: «في رحل أخيه» فقال: تحت الجيم واحدة.
وقد ذكر الدارقطني وغيره من هذا الفن ما يطول.
(1) امام الحنابلة، المتوفى سنة 241، له: المسند، وفضائل اميرالمؤمنين على بن أبي طالب عليه السّلام وغيرهما . . . تذكرة الحافظ 2 / 431، وفيات الاعيان 1 / 63، طبقات السبكى 2 / 27 ـ 63 . . .
(2) البغدادي الحافظ، روى عنه البخاري ومسلم وغيرهما، توفي سنة 203. العبر 1 / 327. تذكرة الحفاظ 2 / 429، طبقات الحفاظ 188.
(3) البصري الحافظ، روى عنه البخاري ومسلم وغيرهما، توفي سنة 234. طبقات الحفاظ 187، تاريخ بغداد 11 / 455، ميزان الاعتدال 3 / 138.
(4) صححنا البيتين وكملنا هما من كتاب أضواء على السنة المحمّدية 365.
(5) علي بن عمر بن أحمد المتوفى سنة 385، تاريخ بغداد 12 / 34، تذكرة الحفاظ 3 / 212، شذرات الذهب 3 / 116 . . .
(6) كذا، والصحيح: الحسن بن الحباب المقري.
(7) كذا في النسخة، والظاهر أنه هو: عبدالله بن عمر بن محمّد بن ابان بن صلاح بن عمير الاموي مولاهم أبو عبدالرحمن، لقبه مشكدانة . . . ترجمته في تهذيب التهذيب 5 / 290 وغيره.
(8) العبسي الكوفي الحافظ، روي عنه البخاري ومسلم وغيرهما المتوفى سنة 239 . طبقات المفسرين 264، شذرات 2 / 92، تذكرة الحفاظ 2 / 432.
(9) صاحب التفسير والتاريخ، المتوفى سنة 310، الوافي بالوفيات 2 / 212، طبقات المفسرين 374، مرآه الجنان 2 / 195 . . .
(10) هنا ـ في هامش النسخة ـ حديث آخر يرويه المؤلف عن الدارقطني عن الباغندي، ولكن لم نتمكن من قراءته.
(11) كذا، وفي الموضوعات 2 / 81 محمّد بن الحسن بن أبي بكر المزرفي. والصحيح محمّد بن الحسين المرزقي، وقد ترجم له في المنتظم 17 / 270.
(12) محمّد بن القاسم، المتوفى سنة 328، الأنساب ـ الأنباري، ابن خلكان 3 / 463، مرآة الجنان 2 / 221.
(13) كذا والصحيح: إبراهيم الخصّاف. انظر: تهذيب التهذيب 7 / 137 حيث نقل فيه القصة.