الباب السادس
في بيان فساد احتجاج هذا الشيخ من جهة المعاني
وإبطال ما زعمه برأيه الفاسد
قال هذا الشيخ في حديث شبابة: قد رواه جماعة كثيرة عن شبابة، ثم أخذ يعدّهم، قال: ولم يودعه أحد منهم في كتابه إلاّ وهو معتقد لصحّته، قال: وما أودعه الإمام أحمد في مسنده إلا وهو معتقد له، إذ لو كان غير صحيح لألقاه فيما ألقى، لأنه انتقى مسنده من سبعمائة ألف حديث وكسر، فإذا جعل فيه ما لا يجوز اعتقاده ولا العمل به، فما يكون حينئذ قد انتقى؟
قال المصنف قلت: لو لم يكن في كتاب هذا الشيخ إلاّ هذا الكلام، كفى دليلاً على جهله بالحديث وبعده عن معرفته، وما يخفى على صبيان أهل الحديث ما قد خفي على هذا الشيخ، فقد كان الثوري يروي عن جماعة ويقول: هم كذبة، وقال يزيد بن هارون حدثنا أبو روح وكان كذاباً، وروى شعبة عن الشرقي بن قطامي وقال هو كذاب، وكان شعبة يقول: لو لم اُحدّثكم إلا عن ثقة لم أحدثكم عن ثلاثين، وقال شعبة: سفيان ثقة ويروي عن الكذابين.
فإن قال قائل: أي فائدة في الرواية عن الكذّاب؟ قلنا: ليعرف بما روي أنه كذاب فلا يقبل حديثه. أنبأنا محمّد بن عبدالملك قال: أنبأنا أبو بكر الخطيب قال: حدثنا أحمد بن محمّد الرواياني قال: أخبرنا يوسف بن أحمد الصيدلاني قال: حدثنا محمّد بن عمرو بن موسى العقيلي قال حدثنا يحيى بن عثمان قال: حدثنا نعيم بن حماد قال: حدثني حاتم الغاص ]الشاشي[ ـ وكان ثقة ـ قال سمعت سفيان الثوري يقول: إني لأسمع الحديث من الرجل اتخذه ديناً، وأسمع من الرجل لا أعبأ بحديثه وأحبّ معرفته.
أنبأنا محمّد قال: أنبأنا الخطيب قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سليمان الطبراني قال: حدثنا إبراهيم بن محمّد بن عوف قال: حدثنا محمّد بن مصفى قال: حدثنا شعبة قال قال لي الأوزاعي(1): نعلم من العلم ما لا يؤخذ به نتعلم ما يؤخذ به(2).
وأبلغ من هذا كلّه قول حذيفة: كان الناس يسألون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الخير وأنا أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه(3).
وقال الشاعر:
عرفت الشرّ لا للشرّ لكن لتوقّيه *** ومن لا يعرف الشرّ من الناس يقع فيه
وقد يكون الراوي ضعيفاً، والضعف يختلف، فتكون الفائدة في الرواية عن القريب الضعف أن يقدم قوله على القياس، فإن قوي ضعفه، فكلّ ما رواه يناقض الاصول يترك، أماترى الترمذي يروي أحاديث في كتابه ثم يقول: ولا يصح في هذا الباب عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم شيء، ويروي أحاديث ويعلّلها ويقول: العمل على غير هذه.
وما أظن هذا الشيخ رأى كتاب (العلل) للخلال(4)، كيف قد نقل فيه عن أحمد ردّ أحاديث كثيرة في المسند، ولا أظنه رأى (العلل) للدارقطني، لأنه علّل المسند أيضاً، ولا قرأ كتاب (السنن) للدارقطني وهو يروي أحاديث ويبطلها.
وقد ذكر الدارقطني في (الغيلانيات) حديث التفاحة وإني أكلتها ليلة المعراج، فواقعت خديجة فجاءت فاطمة. ولم يتكلّم عليه، ولا يختلف الناس أنه محال، لأن المعراج كان قبل الهجرة بسنة، وكانت خديجة قد ماتت، فلو كانت وحملت بفاطمة كان يكون لفاطمة عند موت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عشر سنين، فأين الحسن والحسين؟ وإنما ولدت فاطمة قبل النبوة بخمس سنين(5)، وكان لها ليلة المعراج سبع عشرة سنة. وإنما روى أحمد الأحاديث كما سمعها.
فإن قال قائل: فماذا الذي انتقى؟
قلنا: انتقى الطرق، ومع انتقائه لم يجد بدّاً من ذكر مالا يصح عنده.
يدلّ على هذا: إن أشياخنا حدّثونا أن جميع ما في المسند أربعون ألف حديث، فيها عشرة آلاف مكررة، وأحمد يقول: انتقيته من سبعمائة ألف، فكيف جاز لأحمد أن يسقط سبعمائة ألف حديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ ومن أين أنها سبعمائة ألف؟ فلو جمع الصحيح والمحال ما بلغ مائة ألف. وإنما أراد بذلك الطرق لا المتون، وقد يروى الحديث من ثلاثين طريقاً واربعين، وقد أخرجت قوله عليه السّلام «من كذب علي متعمداً» من أحد وستين طريقاً(6).
وكذلك قال أبو داود: انتقيت كتابي من ستمائة ألف. يشير إلى الطرق.
ويدلّ على أنّ في المسند ما ليس بصحيح شيئان:
أحدهما: قول الإمام أحمد، فإني نقلت من خط القاضي أبي يعلى محمّد بن الحسين الفراء في تعليقته الكبرى في مسألة النبيذ. قال القاضي: إنما روى أحمد في مسنده ما اشتهر ولم يقصد الصحيح ولا السقيم. قال: ويدلّ على ذلك أن عبدلله(7) قال قلت لأبي: ما تقول في حديث ربعي بن خراش عن حذيفة؟ قال: الذي يرويه عبدالعزيز ابن أبي رواد؟ قلت: نعم، قال: الأحاديث بخلافه، قلت: فقد ذكرته في المسند! قال: قصدت في المسند المشهور، ولو أردت أن أقصد ما صحّ عندي لم أرو من هذا المسند إلا الشيء اليسير، ولكنك يا بني تعرف طريقتي في الحديث، لست أخالف ما ضعف من الحديث إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه.
قال القاضي أبو يعلى: فقد أخبر عن نفسه كيف طريقه في المسند، فمن جعله أصلاً للصحة فقد خالفه وترك مقصده. هذا كلّه كلام القاضي أبي يعلى، فوافضيحة من ادعى أن أحمد لم يرو إلا ما صح عنده(8).
(1) هو: عبدالرحمن بن عمرو المتوفى سنة 157، امام من أئمة الفقه. توجد ترجمته في جميع كتب التراجم.
(2) كذا والظاهر: ونعلم ما يؤخذ به.
(3) صحيح البخاري 4 / 178 كتاب بدء الخلق / باب علامات النبوة في الاسلام.
(4) هو: أبو بكر أحمد بن محمّد بن هارون البغدادي الحافظ المتوفى سنة 311، طبقات الحفاظ 331، تاريخ بغداد 5 / 319، العبر 1 / 461.
(5) أقول: الذي أجمع عليه أهل البيت عليهم السّلام ولادتها بعد النبوّة بخمس سنين.
(6) انظر الموضوعات 1 / 55 ـ 92.
(7) عبدالله بن أحمد الحافظ المتوفى سنة 290، تاريخ بغداد 9 / 375، العبر 1 / 418، تذكرة الحفاظ 2 / 665.
(8) أقول: الكلام حول مسند أحمد بن حنبل طويل، فقد ذهب جماعة من الحفاظ كأبي موسى المديني ـ وله في ذلك مصنف ـ وأبي العلاء الهمداني وعبدالمغيث بن زهير الحربي ـ وله في ذلك كتاب ـ إلى صحة جميع ما فيه، وإليه ذهب التاج السبكي في طبقاته 2 / 31 ـ 33 واستشهد بكلام المديني.
وقال آخرون: لا يلتحق بالكتب الصحاح بل فيه أحاديث موضوعة، ومن هؤلاء: العراقي والنووي وابن الجوزي.
وقد ألف ابن حجر العسقلاني في رد هذا القول كتاباً سماه القول المسدد في الذب عن مسند أحمد.
أقول: إنا لا ننكر وجود الاحاديث الصحيحة فيه بكثرة، ولذا نتمسك بهذا الكتاب ونستدل بأحاديثه في سائر بحوثنا الزاماً للخصم وافحاماً للمكابر، ولكن الحق عدم وجود كتاب صحت جميع أحاديثه من أولها إلى آخرها مطلقاً، وقد نشرنا بحثاً حول كتاب البخاري.
وأما عند أحمد نفسه، فما رواه المديني عنه صريح في أنه لم يرو فيه إلا ما صح عنده، فقد قال: «إن هذا الكتاب قد انتقيته من أكثر من سبعمائة وخمسين ألفاً، فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فارجعوا إليه، فإن كان فيه والا ليس بحجة» راجع طبقات السبكي.