الباب الرابع
في بيان الجمع بين الأحاديث على تقدير الصحّة
قد بيّنا أن الأحاديث التي احتج بها لا أصل لها، ثم أحببنا أن نسلك طريق الفقهاء في الجمع بين الأحاديث على تقدير أنها صحيحة، فنقول:
معنى قول من قال: صلّى خلف أبي بكر: أي عزم على ذلك، وكأنه فعل. وبيانه: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أشار إلى أبي بكر بالثبوت ليصلّي خلفه فلم يثبت، فكأنه وعده حين أمره بالثبوت بالصّلاة خلفه، ووعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حق، فلو ثبت لصلّى خلفه، فكان ذلك كأنه وقع بلا شك، وصار هذا كقوله تعالى (يا إِبْراهيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا)(1) لأنه عزم على الذبح واستسلم الذبيح، وإنما المنع كان من قبل الله تعالى، فكان الفعل كأنه قد وقع بلا شك. ومثل هذا من ينوي طاعة ولم يعملها كتبت له كمن عمل.
ولا تستبعد حملنا هذا، فما زال الفقهاء يحملون الأحاديث على صور، مثال: إن الفقهاء اتفقوا على جواز التمتع في الحج والقران والإفراد، واختلفوا أيها أفضل، فقال أحمد: التمتع، وقال أبوحنيفة: القران، وقال الشافعي الإفراد. وفي الصحيحين: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تمتع، وفي الصحيحين: إنه قرن، وفي صحيح مسلم: إنه أفرد، ولا خلاف أنها حجة واحدة ويستحيل الجمع بين ذلك، فقال أصحابنا للخصوم: أحاديثنا أصح وأكثر، قالوا: ويحتمل رواية القران أن يكون الراوي سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يعلّم رجلاً كيف القران، فظن الراوي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول ذلك عن نفسه، ويحتمل رواية الإفراد: أنه أفرد أعمال الحج عن أعمال العمرة، وكذا يفعل المتمتع.
وأما من روى خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقام في الصف، فقد بيّنا معناه.
ولولا أن أحاديث هذا الشيخ كلّها واهية، لكنا نقول خفي عن بعض الصحابة ما علمه الأكثرون(2)، فإنه قد قال ابن عمر: اعتمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في رجب، فقالت عائشة: ليس كذلك، فقبل قولها، وردّت على أبي هريرة وغيره، فرجعوا إلى قولها. غير أنه مع وهن الأحاديث لا يحتاج إلى ذلك.
(1) سورة الصافات: 106.
(2) والشواهد على هذا الأمر لا تحصى كثرة، وان شئت الوقوف طرف منها فراجع كتاب الاحكام لاصول الاحكام لابن حزم الاندلسي.