الباب الثالث
في بيان وهن الاحاديث التي احتج بها هذا الشيخ
جميع الأحاديث التي ذكرها واهية، ويكفي في ردّها كلّها أنه لم يخرج منها شيء في الصحيح، ولارضي البخاري ولا مسلم أن يخرج منها كلمة، وينبغي قبل أن يشرع في بيان وهنها أن نذكر فصلاً يفيد الطلبة في هذا القول، فنقول:
إعلموا أن الحديث له آفات يعرفها الجهابذة، قد ذكرت منها طرفاً كثيراً في كتاب (الموضوعات)(1)، وإنما اشير إلى ذلك لئلاً يقدم مقدم على الثقة بكلّ ما يروى، وذلك أن الرواة على ضربين: منهم من قد ظهر كذبه، فذاك امر مكشوف لا يحتاج إلى بيان، ومنهم الثقة والصالح والزاهد، ومن قبلهم تقع المحن، فإذا رأى الإنسان ثقة لم يكد يشك في صحة الحديث، ولكن قد يكون هناك آفات يعرفها البازل في هذا الشأن، فلا ينبغي أن يوثق بسند حتى يعرض على الراغبين في هذا العلم، وإن أقواماً غلب عليهم الزهد والتقشف فغفلوا عن الحفظ والتمييز، فوقع في رواياتهم تخليط، ومنهم من ضاعت كتبه أو احترقت فحدّث عن حفظه فخلّط وقلب الأسانيد وهو لا يعلم، ومن الثقات من تغير قبل موته، فأخذ عنه في زمن التخليط، ومنهم من غلبت عليه السلامة فكان إذا لقّن تلقّن.
أخبرنا يحيى بن على المدبر قال: أخبرنا يوسف بن محمّد النهرواني قال: اخبرنا أبو أحمد الغرضي(2) ]القرطبي[(3) قال حدثنا سهل ابن اسماعيل الطرسوسي قال حدثنا زكريا بن يحيى الساجي قال: حدثنا الربيع بن سليمان قال: حدثنا الشافعي قال: قيل لعبدالرحمن بن زيد بن أسلم: حدثك أبوك عن جدك: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إن سفينة نوح طافت بالبيت سبعاً، وصلّت خلف المقام ركعتين؟ قال: نعم.
وقد كان في الثقات الصالحين المحدّثين من يدسّ بعض الكذابين في حديثه شيئاً فيرويه الشيخ الثقة بسلامة صدره ظناً منه أنه حديثه، قال أبو أحمد ابن عدي الحافظ(4): كان ابن أبي العوجاء ربيب حماد بن سلمة، وكان يدسّ في كتبه أحاديث.
وقال أبو حاتم ابن حبان الحافظ(5): امتحن أهل المدينة بحبيب بن أبي الوراق، كان يدخل عليهم الحديث، وكان لعبدالله بن ربيعة ولد يدخل عليه الحديث، ولسفيان بن وكيع بن الجراح وراق ـ يقال له قرطبة ـ يدخل عليه الحديث.
وقال ابن خزيمة(6): كان لكاتب الليث جار يضع الحديث على شيوخ كاتب الليث، ولكنها(7) بخط يشبه خط ذلك ويرميها في داره، فيحدّث بها ولا يدري.
وقد كان في المحدّثين الثقات من يروي عن ضعفاء وكذابين ويدلّسهم، منهم: بقية بن وليد، فإنه كان كثير التدليس، قال أبو حاتم ابن حبان: وكانت تلامذة بقية يسوون حديثه ويسقطون الضعفاء منه(8).
وربما أوهم المدلّس السماع من شخص فقال: عن فلان ويكون بينهما كذاب أو ضعيف، مثل: حديث رواه عبدالله بن عطا عن عقبة بن عامر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ]قال: من توضأ فأحسن الوضوء دخل من أي أبواب الجنة شاء[(9) فقال رجل لعبدالله: حدثنا به، فقال: عقبة بن عامر، فقيل: سمعته منه؟ فقال: لا، حدثني سعد بن إبراهيم. فقيل لسعد، فقال: حدثني زياد بن محراق، فقيل لزياد، فقال: حدثني شهر بن حوشب عن أبي ريحانة.
وهذا من بهرجة المدلسين.
أنبأنا محمّد بن عبدالملك بن خيرون قال: انبأنا أبو بكر أحمد ابن علي الخطيب قال: اخبرنا أبو سعيد الصيرفي قال: حدثنا أبو العباس الأصم قال: حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي قال: لم يسمع سعيد بن عروة من الحكم بن عتبة شيئاً، ولا من حماد، ولا من عمرو بن دينار، ولا من هشام بن عروة، ولا من إسماعيل بن أبي خالد، ولا من عبيدالله بن عمر، ولا من أبي بشر، ولا من زيد بن أسلم. وقد حدّث من هؤلاء كلّهم.
ومن هذا الجنس، يأتي الحديث: معمر عن محمّد بن واسع عن أبي صالح عن أبي هريرة، وكلّهم ثقات، ولكن الآفة أن معمراً لم يسمع من ابن واسع، وابن واسع لم يسمع من أبي صالح.
ثم قد يغلط الثقة، فلا يعرف ذلك إلاّ كبار الحفاظ، مثل: حديث ابن سيرين عن ابن عمر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: صلاة الليل والنهار مثنى ]مثنى[(10). قال أبو عبدالله الحاكم: إسناده ثقات، وذكر «النهار» وهم.
ومثل: حديث محمّد بن محمّد بن حبان العمار ]النمار[(11) عن أبي الوليد عن مالك عن ابن شهاب عن عائشة قالت: ما عاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم طعاماً(12) قط. قال الحاكم: تداوله(13) الثقات وهو باطل من حديث مالك، وإنما اريد بهذا الإسناد: ما ضرب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بيده امرأة قط.
وقد كان أقوام يتزهّدون، منهم أبو عبدالله غلام خليل، كان يتقوّت الباقلاء صرفاً ]تصوفاً[(14) وغلّقت أسواق بغداد لمامات، وكان يضع الحديث يزعم أنه يحثّ الناس به على الخير. وكان أبو داود النخعي أطول الناس قياماً بليل، وأكثرهم صياماً بنهار، وكان يضع الحديث. وقال ابن حبان: كان أبو بشر أحمد بن محمّد المروزي الفقيه أصلب أهل زمانه في السنّة، وأذبّهم عنها، وأقمعهم لمن خالفها، وكان مع هذا يضع الحديث.
وقيل لنوح بن أبي مريم: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة بعد سورة، وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ فقال: إني رأيت الناس أعرضوا عن القرآن، اشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن إسحاق، فوضعت هذا الحديث حسبة.
ومنهم من كان يضع الحديث لنصرة مذهبه، ولا أبعد أن يكون ما نحن فيه من هذا القبيل: أخبرنا أبو بكر محمّد بن عبد الباقي قال: أخبرنا أبو محمّد الجوهري قال: اخبرنا ابراهيم بن عمر الخرمي(15) قال: حدثنا جعفر بن محمّد الفريابي قال حدثني يوسف بن الفرج حدثنا عبدالله بن زيد ]يزيد[(16) المقري قال: حدثنا ابن لهيعة قال: سمعت شيخاً من الخوارج تاب ورجع وهو يقول: إن هذه الأحاديث دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، فإنا كنا إذا هوينا أمراً صيّرناه حديثاً.
أخبرنا أبو المعمر الأنصاري قال: اخبرنا أبو محمّد السمرقندي قال أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: اخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن ابراهيم النوار ]البزاز[(17) قال: حدثنا يزيد بن اسماعيل الخلال قال: حدثنا أبو عوف المروزي(18) قال حدثنا عبدالله بن أبي امية قال: حدثني حماد بن سلمة قال: حدثني شيخ لهم ـ يعني الرافضة ـ قال: كنا إذا اجتمعنا واستحسنّا شيئاً جعلناه حديثاً.
وهذا فنّ يطول، قد مددت فيه النفس في كتاب (الموضوعات).
فإن قال قائل: هذه الدقائق مع الثقات فكيف الخلاص؟
فالجواب: أن تسأل الراسخين في العلم إذا أشكل الأمر عليك، خصوصاً إذا رأيت حديثين مختلفين، ومن هذا ما نحن فيه، فإنه قد أخرج البخاري ومسلم ما قلناه، وتركا ضدّه، فعلمت أن ذلك لعلّة لا يعرفها إلا من حذا حذوهم.
اخبرنا أبو منصور القزاز قال: اخبرنا أحمد بن علي الحافظ قال أخبرنا أبو حازم العبدوي(19) قال سمعت الحسن بن أحمد الزنجعري يقول: سمعت أحمد بن حمدون الحافظ يقول: كنا عند البخاري، فقرأ عليه إنسان حديث حجاج بن محمّد عن ابن جريج عن موسى بن عقبة قال: حدثني سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. فقال مسلم بن الحجاج: في الدنيا أحسن من هذا الحديث؟ ابن جريح عن موسى بن عقبة عن سهيل، تعرف في الدنيا بهذا الإسناد حديثاً؟! قال البخاري: لا، إلا أنه معلول، فقال مسلم: لا إله إلا الله، وارتعد. وقال: أخبرني به، قال: استر ماستر الله، فألحّ عليه وقبّل رأسه، فقال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا وهب قال: حدثني موسى بن عقبة عن عون بن عبدالله، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. فقال مسلم: أشهد أنه ليس في الدنيا مثلك.
وأنبأنا أبو منصور ابن خيرون قال: أنبأنا أبو بكر الخطيب قال حدثنا أبو نعيم الحافظ(20) قال: حدثنا أبو الحسن علي بن أحمد بن علي الوراق قال: حدثنا أحمد بن خليد قال: حدثنا يوسف بن يونس الأفطس قال حدثنا سليمان بن بلال عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: إذا كان يوم القيامة دعا الله بعبد من عباده فيوقف بين يديه، فيسأله عن جاهه كما يسأله عن ماله(21).
قال الخطيب: هذا الحديث لا يثبت عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بوجه من الوجوه(22)، ورجال إسناده كلّهم ثقات، قال الدارقطني: حدثني أبو الحسن بن أحمد بن صالح الكلبي الحافظ: ان هذا الحديث كان في كتاب أحمد بن خليد عن يوسف بن يونس عن سليمان بن بلال، وقد درّس منه ودرّس إسناد الحديث الذي بعده وبعد هذا الكلام، فكتبه بعض الوارقين ]الوراقين [وألزق حديث سليمان بن بلال إلى هذا المتن.
(1) طبع في ثلاثة اجزاء، وقد اتعب المؤلف نفسه بالبحث حول الأحاديث التي أودعها فيه واسانيدها المختلفة، ولكن الحق أنه لم ينهج منهج الصواب في كلّ هذا الكتاب، فكم من حديث صحيح حكم بوضعه وبطلانه، وكم من حديث باطل موضوع لم يخرجه فيه، وقد أشار إلى بعض ما ذكرنا ابن الصلاح في مقدمته 89، والسيوطي في اللالي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة 1 / 2 وغيرهما.
وقد ذكر الآفات في ج 1 من ص 35 إلى ص 53 . أقول: وأهم الآفات وأكبرها هو القول بعدالة الصحابة أجمعين أكتعين كما عليه جمهورهم، فإنه الذي كسر الظهر وجر الويلات على الامة، حتى تنبّه بعضهم إلى ذلك وصرح بما هو الحق الحقيق بالقبول. راجع ما كتبناه حول «حديث أصحابي كالنجوم» وهو العدد الأول من سلسلة «الاحاديث الموضوعة».
(2) كذا، وفي الموضوعات 1 / 100: القرطبي، والصحيح: الفرضي.
(3) انظر الموضوعات 1 / 100.
(4) أبو أحمد الجرجاني المتوفى سنة 365، مرآة الجنان 2 / 371، طبقات السبكي 3 / 315، طبقات الحفاظ 380.
(5) المتوفى سنة 354، لسان الميزان 5 / 119، الوافي بالوفيات 2 / 236، تذكرة الحفاظ 3 / 143.
(6) النيسابوري الحافظ المتوفى سنة 311، طبقات ابن الجزري 2 / 97 طبقات الحفاظ 313، طبقات السبكي 3 / 109.
(7) كذا والظاهر: يكتبها.
(8) راجع ترجمته في كتب الرجال.
(9) من الموضوعات 1 / 101.
(10) من الموضوعات 1 / 101.
(11) الموضوعات 1 / 101.
(12) في الموضوعات 1 / 102 «لمعاناً» وهو غلط.
(13) في الموضوعات 1 / 102 «بدأ أوله» والصحيح ما في المتن.
(14) الموضوعات 1 / 40.
(15) في الموضوعات 1 / 38: إبراهيم بن أحمد الحرفي.
(16) الموضوعات 1 / 38.
(17) الموضوعات 1 / 39.
(18) في الموضوعات 1 / 39: أبو عوف البزوري.
(19) لا يقرأ في النسخة، وقد صححناه من تقييد العلم 62 قال: وهو أبو حازم الاعرج عمر ابن أحمد بن ابراهيم وكان حافطاً.
(20) أحمد بن عبدالله المتوفى سنة 430 صاحب الحلية وغيرها. الوافي بالوفيات 7 / 52، البداية والنهاية لابن كثير 12 / 56، شذرات 3 / 245، تذكرة الحفاظ 3 / 1092.
(21) في تاريخ بغداد 8 / 99: عبداً من عبيده ـ وقال المصيصي: بعبد من عبيده ـ فيوقف بين يديه، فيسأله عن جاهه كما يسأله عن ماله.
(22) في تاريخ بغداد: هذا الحديث غريب جداً، لا أعلمه يروي إلا بهذا الإسناد، تفرّد به أحمد بن خليد.